في ليلة الرابع والعشرين من شهر أبريل1944، قامت القوات الجوية البريطانية بتفجير معهدٍ يسوعيّ قديم تابع لكلية العلوم البافارية، وهي بناية يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر، مما أدى إلى تحول المبنى إلى كومة من الحطام، وفُقدت جراء ذلك، كنوز كثيرة، من أهمها أرشيف صور فريد من المخطوطات القديمة للقرآن، رثاه كثيرًا، عالم مستعرب في الأكاديمية، هو أنطون سبيتالر.
هذا الأرشيف هو عبارة عن 450 لفة فيلم كان قد جرى جمعها قبل الحرب لأجل البدء في مغامرة جريئة: دراسة القرآن الذي يعتبره المسلمون كلام الله، لكن الحرب جعلت من هذا المشروع أمرًا مستحيلاً، كما كتب السيد سبيتالر في السبعينيات الماضية.
المفاجأة!
الواقع أن هذا الرجل كان يكذب، ولقد ظهر أن الأرشيف ما يزال موجودًا وكان هو شخصيًّا يخفيه طوال الوقت، حيث صار حاليًا في متناول العلماء؛ بمعنى أن مشروع البحث حول القرآن عاود الظهور بعد أكثر من ستين سنة من إخفائه.
على حسب السيدة أنجليكا نوويرث -التي تتلمذت على يد السيد سبيتالر، حيث كانت مقربة منه- فإن هذا الأخير: “ادعى اختفاء هذا الأرشيف؛ لأنه أراد التخلص منه”، ثم إن الأكاديميين الذين عملوا مع الرجل الذي يُعدّ واحدًا من أبرز الأسماء الثقافية في ألمانيا في فترة ما بعد الحرب حتى وفاته في العام 2003، لم يستطيعوا إيجاد تفسير واضح لما أقدم عليه الرجل.
السيدة نوويرث، التي هي أستاذة التاريخ في جامعة برلين المفتوحة، هي من تشرف حاليًا على إعادة إحياء البحث الذي يُعتبر من أهم المشاريع الألمانية البحثية التي أوقفها الرايخ الثالث، حيث أن النازيين دفعوا بكل خبراء العربية القديمة من اليهود وغيرهم من الآريين في المجهود الحربي، مما أدى إلى تحول العلماء المتخصصين في الشرق الأوسط إلى ضباط مخابرات ومحققين ومترجمين، حتى أن السيد سبيتالر نفسه، خدم على ما يبدو مترجمًا في كتيبة المشاة العربية الألمانية رقم 845، وهي التي كانت تضمّ المتطوعين العرب في القضية النازية، طبقًا لسجلات فترة الحرب.
خلال القرن التاسع عشر، ابتدع الألمان ثقافة جديدة تُعنى بالنصوص القديمة، ولقد أدى هذا إلى ثورة في فهم الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى، إلى جانب غضب بعض المتدينين طبعًا، الذين استاءوا من التدقيق العلمي للنصوص، التي يرون أنها تضم حقائقَ مقدّسة.
تنقيب بالغ الحساسية!
تقول باتريشيا كرون -العالمة في معهد برينستون للدراسات المعمقة، التي هي أيضًا رائدة في مجال النظريات غير التقليدية حول السنوات الأولى للإسلام-: “إن هذا أمر بالغ الإثارة”، قبل أن تضيف أنها سمعت بموضوع الأرشيف لأول مرة خلال حضورها لملتقًى، نُظِّم في ألمانيا في الخريف الماضي، حيث إن “الكل كان يعتقد أن هذا الأرشيف قد دُمّر”.
وينظر المسلمون إلى القرآن على اعتباره كلام الله، أُرسل إلى النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في القرن السابع، وبالتالي فالمسلمون يعتقدون أن النص لم يتغير ولم يتم تحويره، أي أن القرآن “لا نقص فيه” وثابت في “لوح محفوظ”، خاصة وأنه يبدأ بهذا التحذير: « ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ».
في أغلب الأحايين، يركز الباحثون في القرآن على الأسئلة الغامضة من علم فقه اللغة وتحليل النصوص، حيث يميل الخبراء إلى الاقتراب من ذلك بحذر شديد، منتبهين في ذلك إلى الغضب الذي ظهر في السنوات الأخيرة عند المسلمين .
دراسة القرآن..أم تحدٍ له!
مع ذلك، فإن السيدة نوويرث -الأستاذة حاليًا في برلين، والمسئولة عن أرشيف ميونيخ- ترفض هذه النظريات الأكثر (راديكالية) التي يطرحها زملاؤها الذين “يتعاملون بوحشية مع الثقافة الإسلامية”، كما تقول على عكسها هي التي ترى أن بحثها ليس تحديًا للإسلام، ولكنه يهدف إلى “إعطاء القرآن نفسَ القدر من التركيز الذي حظيت به التوراة”، قبل أن تستدرك أن هذا “هو منطقة محرمة أيضًا”.
ترى هذه المرأة أنه من المبكر جدًا معرفة الفكرة التي سوف تكشفها الدراسة التي يجريها فريقها حول تلك المخطوطات والنصوص القديمة، حيث إن المشروع انطلق مجددًا خلال العام المنصرم في أكاديمية برلين براندنبرغ للعلوم الإنسانية، ويحظى بتمويل رسمي من الدولة لمدة 18 عامًا قد تستمر لأطولَ من ذلك، بما أن أقرب تلك المخطوطات عهدًا، يعود إلى نحو 700 عام، ويتعين التدقيق فيها بشكل كبير، خصوصًا وأن أكثرها صعب الحل، مما يعني أنها قد تؤدي إلى استنتاج قراءات متنوعة.
ثم إن ما يعتبر لعنة أو لغزًا، ظل يلازم أرشيف ميونيخ هذا منذ البداية، فالعالم الذي اكتشفه مات في حادث تسلق في العام 1933 وورثه شخص آخر توفي في حادث طائرة في 1941 بخلاف السيد سبيتالر، الذي كان أحسن حالاً بعد أن تولى حفظه وإخفاءه إلى أن توفي وقد بلغ من العمر 93 عامًا.
ظلت لفات الفيلم تلك في علب سجائر وصوان بلاستيكية، إلى جانب علبة كعك قديمة، ولكنه حاليًا محفوظ في مكان آمن ببرلين، حيث سوف تشكّل صور هذه المخطوطات قاعدة بيانات تعتقد السيدة نوويرث والفريق العامل معها أنها ستساعد على كشف جوانبَ كثيرةٍ من تاريخ النصوص الإسلامية، والنتيجة كما يقول السيد مايكل ماركس -مدير المشروع البحثي- ستكون الخروج بأول ‘دراسة نقدية’ للنص القرآني، واكتشاف التداخلات بينه وبين النصوص الأخرى في التوراة وغيرها من الكتب المقدسة في الأدبين المسيحي واليهودي.
هنالك أيضًا مجموعة من التونسيين شرعت في مَهمة موازية، لكنهم لا يرغبون في الكشف عن تفاصيلها؛ تجنبًا لغضب المسلمين، وفقًا لما قاله لنا منصف بن عبد الجليل -الباحث المشارك فيها- الذي يرى أن “الصمت أفضل”، خاصة وأن السلطات الأفغانية خلال العام الماضي، اعتقلت مسئولاً هناك بتهمة المساهمة في ترجمة عامية للقرآن، وأدين بالكفر، في حين أن ناشرها قد اختفى حاليًا.
القرآن فريد!
إلى ذلك، فإن كثيرًا من النصارى أيضًا لا يحبذون فكرة قيام العلمانيين بفحص النصوص المقدسة والتشكيك فيها عبر رفض بعض المقاطع منها، ولكن النصارى في الواقع، يتقبلون فكرة أن الكتاب المقدس قد كتب خلال فترات متباعدة من قِبل أناس مختلفين، وأن الأمر قد استغرق قرونًا طويلة من التنقيب، حتى ثُبّت على شكله الحالي.
أما المسلمون، فهم على العكس من ذلك، يعتبرون القرآن كلام الله، ويقول الباحث المغربي عبده الفيلالي الأنصاري: إن التشكيك في ذلك يعني “كما لو أنك تقول للنصراني مثلاً: إن السيد المسيح كان شاذًا جنسيًا”.
بالتالي، فإن المناهج الحديثة في التحليل النصي التي طُورت في الغرب، ينظر إليها العالم الإسلامي على أساس أنه غير معنيٍّ بها في أحسن الأحوال، ففي العام 2003، كتب أستاذ جامعي من المملكة العربية السعودية يقول: “لا شيء غير كتابات المسلمين تستحق أن تلقى اهتمامنا” ليضيف: “لا بد أن تظل وجهة النظر الإسلامية ثابتة فيما يتعلق بالكتاب المقدس، فهو كلام الله غير القابل للتقليد، وغير الممكن تعديله؛ لأنه نقي جدًا وثابت”.
لقد حاولت “خبيرة” القرآن ببرلين، السيدة نوويرث، إلى جانب مدير أبحاثها السيد ماركس، توضيح المشروع إلى العالم الإسلامي عبر سفرها إلى كل من إيران وتركيا وسورية والمغرب، وحينما كشفت إحدى الصحف الألمانية عن المشروع خلال الخريف الماضي على صدر صفحتها الأولى وتنبأت أن هذا سوف “يُسقط الأنظمة والممالك”، بادر السيد ماركس إلى دعوة شبكة تلفزيون الجزيرة إلى جانب عدد آخر من وسائل الإعلام؛ لكي ينكر أمامها وجود أية نية للتهجم على العقائد الإسلامية.
الحكاية من البداية
لقد بدأ الأوروبيون دراسة القرآن خلال القرون الوسطى، وكان الهدف الأبرز وقتذاك هو محاولة الفضح، وبحلول القرن التاسع عشر، بدأت الأبحاث تأخذ طابعًا علميًا عبر دراسات أكثر جدية للنصوص القديمة، وفي هذا المجال كان الألمان سبّاقين.
كان التركيز الأصلي على التوراة. ولقد حاول القساوسة والحاخامات منعَ ذلك، إلا أن العلماء ضغطوا وأصروا بشكل تحدَّوْا من خلاله النظرة التقليدية للعهديْن: القديم والجديد، وهذا ما أدى إلى تقويض الإيمان بحرْفية الكتاب المقدس، وساهم اليوم في ولادة العلمانية بشكل كبير في أوروبا، ولقد أدار هؤلاء -مع مرور الوقت- اهتماماتهم صوب القرآن.
في العام 1857، عرضت أكاديمية باريس جائزة لأحسن ‘تأريخ نقدي’ للقرآن، ولقد فاز بها الألماني ثيودور نودلكه، وهذه الخُطوة أصبحت فيما بعدُ، حجرَ الزاوية في الأبحاث الغربية المستقبلية، حتى أن نوويرث تصف هذا الأخير بقولها: “إنه حجر كنيستنا”.
بدأ أرشيف ميونيخ على يد أحد مقربي نودلكه، الذي كان اسمه غوتهلف بيرغستراسر، وبما أن ألمانيا كانت قد انزلقت بشكل مبكر نحو الحكم الفاشي في بدايات القرن الماضي، فقد قام هذا الأخير بتجميع النسخ القديمة من القرآن من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يقول: إنه صور تلك النسخ بواسطة آلة تصوير من نوع Leica.
في 1933 وبعد شهور قليلة من تولِّي هتلر منصب مستشارية ألمانيا، لقي هذا الرجل حتفه في حادث تسلق جبلي بجبال الألب في بافاريا، ولأن جسمه لم يخضع لأية عملية تشريح، فلقد انتشرت إشاعات كثيرة حول موته، تراوحت بين الانتحار والغدر.
بعد ذلك، تولى العمل مستعرب ألماني آخر، هو أوتو بريتزل، الذي استعمل أيضًا آلة تصوير من ذات النوع، ففي عام 1934 وخلال زيارة له إلى المغرب، تمكن من زيارة مكتبة ملكية هناك، كانت تحوي نسخة قديمة من القرآن، واستطاع التدقيق فيها بعد أن كان محل ارتياب كبير، من قِبل رجال الدين المحليين، كما روى في مذكراته التي خطها حول تلك الرحلة.
ثم إن النازيين بدؤوا باستعمال المستعربين مبكرًا في الحرب، حينما بدأت القوات الألمانية بالتحرك صوب مناطقَ يغلب عليها المسلمون في شمال أفريقيا أولاً، ثم في الاتحاد السوفييتي بعد ذلك، حيث كان هؤلاء المتخصصون يُستعملون لنشر البروباغندا ويساعدون على بناء المدارس للمسلمين الذين جُندوا في القوات المسلحة الألمانية.
كان السيد بريتزل جامع المخطوطات، يعمل على ما يبدو، لحساب المخابرات العسكرية، حيث إنه كُلّف باستجواب الجنود الناطقين بالعربية الذين أُسروا بُعيْد احتلال فرنسا، قبل أن يلقى حتفه هو الآخر في حادث تحطم طائرة، حينما كان متوجهًا إلى العراق بقصد إثارة انتفاضة عربية هناك ضد القوات البريطانية.
تحولت المسئولية عن الأرشيف بعد هذا إلى إشراف السيد سبيتالر، الذي ساهم في جمع بعض الصور الأخرى، حيث كان يعمل خلال فترة الحرب في مكتب القيادة الألمانية، ولاحقًا كلُغوي مستعرب في النمسا، ولم يكن في الواقع يمتلك رتبة عسكرية رفيعة، طبقًا لسجلات تلك الحقبة.
بانتهاء الحرب، عاد الرجل إلى الحياة الأكاديمية، ولكنه بدلاً من إحياء مشروع القرآن، بدأ في العمل على مشروع مرهق وأقل حساسية، هو قاموس للغة العربية الكلاسيكية، وبعد نصف قرن من العمل، خرج القاموس مرتبًا فقط بالكلمات التي تبدأ بحرفين من الأبجدية العربية المكونة من ثمانية وعشرين حرفًا.
كان السيد سبيتالر نادر النشر، ينشر ولكنه كان يحظى باحترام واسع بالنظر إلى إتقانه الكبير للنصوص العربية، فيما يرى عدد قليل من الباحثين عكس ذلك، حيث يعتبرونه قليل الإنتاج وشديد الحذر، إلى جانب أنه كان معاديًا لوجهات النظر غير التقليدية.
يقول الباحث غانتر لولنغ -الذي كان مطرودًا من الجامعة في السبعينيات الماضية؛ بسبب بعض النظريات البدعية التي قدمها حول أصول القرآن-: “إن الفترة التي تلت 1945 بكاملها كانت مسمومة من قِبل النازيين”، ولقد جادل هذا الأخير في أطروحته للدكتوراه بأن القرآن مستخلص من الترانيم “المسيحية”، وهذا ما ولّد اعتراضًا من قِبل السيد سبيتالر، الذي تمكن من فصله من الجامعة، ليشن عليه لولنغ معركة قضائية استمرت ست سنوات كاملة، دون أن تحقق له أية نتيجة، لذلك فهو يقول عن سبيتالر: “لقد دمّر حياتي”.
لأجل هذا، فإنه كان يكتب الكتب والمقالات في منزله بتمويل من زوجته التي تعمل في ميدان الصيدلة، وحينما طلبت منه إحدى الصحف الفرنسية أن يعدّ لها ورقة عن المستعربين الألمان، سافر إلى برلين وبحث في سجلات الحرب، إلا أنه يقول: إن العلماء البارزين هناك في فترة ما بعد الحرب “كانوا كلُّهم مرتبطين بالنازية”، ويضيف في هذا الصدد مستشهدًا بالباحث بيرثولد سبولر الذي يقول عنه: إنه “كان مترجمًا للغة اليديشية والعبرية لحساب جهاز الغستابو” (عرف السيد سبولر بعض المتاعب فيما بعد خلال الستينيات الماضية، حينما صرخ الطلاب أثناء مظاهرة احتجاج أنه كان ‘يعمل في معسكرات الاعتقال’)، أما السيد رودي باريت الذي أصدر في العام 1962 ما بات يعتبر الترجمة الألمانية المعيارية للقرآن، فإن لولنغ يقول: إن هذا الباحث كان اسمه مدرجًا كعضو في ‘معهد البحث من أجل استئصال التأثير اليهودي عن الكنيسة الألمانية’ وبالرغم من نشاطات هؤلاء الباحثين أيام الحرب، ما تزال أعمالهم محل احترام بالغ.
في منتصف السبعينيات، كانت حياة السيد سبيتالر المهنية في ميونيخ، تقترب من نهايتها، حيث كان على وشك التقاعد، فبدأ حينها بتحريك تلك الصناديق ووضعها في غرفة مجاورة للتي كان يجري فيها مشروع قاموس أكاديمية العلوم البافارية، وهنا تتذكر طالبة الدكتوراه في ذلك الوقت، كاترين مولر، كيف أنها لمحت تلك الصناديق وشاهدت فيها أفلامًا قديمة، إلا أنها حينما سألت سبيتالر عن فحواها، لم تحصل منه على أي جواب، لتدرك الآن أن الأمر كان يتعلق بالمخطوطات القديمة للمصحف.
أما في أوائل الثمانينيات، وفي وقت ما يزال الاعتقاد فيه سائدًا بأن الأرشيف مفقود، سافر عالمان ألمانيان إلى اليمن؛ بقصد الفحص والمساعدة على إعادة ترتيب مخطوطات قديمة هناك، ولقد استغل الرجلان الفرصة، وقاما أيضًا بالتقاط بعض الصور، إلا أنهما حينما كانا يحاولان إخراجها من اليمن، منعتهم السلطات اليمنية من ذلك. ويروي السيد غيرد روديغر، الذي كان أحدهما، كيف تمكّن بعض الدبلوماسيين الألمان هناك أخيرًا من إقناع اليمنيين بالإفراج عن بعضها.
يقول السيد بوين: إن المخطوطات التي عُرضت عليه توحي له بأن “القرآن لم ينزل من السماء”، وإنما “له قصة”، وحينما أعلن هذا الموقف قبل نحو عقد من الآن، أثار غضبًا؛ حيث كتبت صحيفة ‘يمن تايمز’ تقول: “نرجو ألا يصل هذا الصنف من الباحثين إلى تلك الوثائق” لتضيف مختتمة: “لينصرنا الله على أعدائنا”.
كانت هذه الباحثة قد التقت بالسيد سبيتالر حوالي العام 1990 الذي كان أستاذًا لها في وقت كان قد صار فيه الرجل شيخًا هرِمًا في العقد التاسع من العمر، ولكنه ظل مع ذلك، صاحب عقل حادّ، وتتذكر ذات الباحثة كيف أنه كان “يحِنّ إلى الأيام الخوالي” قبل أن يسرد عليها قصة الأرشيف، وأنه ما يزال محافظًا عليه وكونه أيضًا، مستعدًا لتسليمها إياه، مع أنها كانت تظنه هي الأخرى، مفقودًا قبل أن تقرر بعد ذلك إيفاد طالبيْن عندها إلى ميونيخ، لأجل إحضاره وإخفائه في برلين.
لم يكن الخبر قد ذاع إلا وسط دائرة ضيقة من الباحثين حين وفاة سبيتالر في عام 2003، حيث كتب بول كونيتيزسك الذي هو باحث مستعرب آخر من ميونيخ، ينعي الأرشيف وانتهاء مشروع القرآن، مضيفًا: “لقد باتت العملية غير قابلة للتنفيذ؛ بسبب موقف العالم الإسلامي منها”.
بعد ذلك، بدأت المعلومات حول وجود الأرشيف بالترسب خارج تلك الدائرة إلى مجالات أرحب، ولم يفهم أحد سبب إصرار سبيتالر على إبقاء الأمر لغزًا، فكل ما كتبه حول الموضوع، كان هامشًا صغيرًا في مقالة نشرها خلال العام 1975 حول القرآن، ادعى فيها ضياع الأرشيف وقت الحرب، إلى جانب قوله: “لقد غيرت أوضاع عالم ما بعد 1945 الظروف، ولم يعد من الممكن الاستمرار في المشروع”.
تعتقد السيدة نوويرث -التي هي المسئولة حاليًا عن الأرشيف- أن السيد سبيتالر ربما كان “مريضًا”؛ ببساطة لأنه ضيع مشروعًا من هذا المستوى، وانصرف عنه إلى عمل آخر، في حين يقدّم السيد لولنغ تفسيرًا آخر أقل (خيرية) ملخصُه أن سبيتالر لم يكن يملك المواهب المطلوبة للعمل على الأرشيف، وأراد التأكد من أن غيره لن يتشرف بتحقيق ذلك.
إلى ذلك يقول كونيتيزسك، الذي كتب النعي: إنه ما يزال محيرًا من دوافع سبيتالر، ولذلك فهو يخمّن أن زميله السابق، كان يرى أن مشروع مخطوطات القرآن كان طموحًا جدًا، وبالتالي فإن المَهمة سوف تزيد بلا شك، من عداوة المسلمين للباحثين الغربيين، وهي المشاعر التي تغذت بتأسيس إسرائيل في 1948 ثم يضيف كونيتيزسك أن سبيتالر كان يعتقد: “أن المسألة بالنسبة إلى العرب تعتبر منتهية”.
أما بالنسبة لطالبة الدكتوراه عنده، كاترين مولر، فترى أن “الحرب كانت قاسية إلى درجة أنها أنهت الكثير من الأشياء، ودفنت أحلام ما قبلها بالنسبة لكثيرين من الألمان”، أما العامل الآخر، وفقًا لها دومًا، فهو الإيمان الديني الخاص والعميق، الذي كان عليه سبيتالر، ولأجل التدليل على ذلك، فهي تفتح أمامنا نسخة من القرآن التي كان يستعملها أستاذها الراحل الكاثوليكي حتى وفاته، ولقد كانت نسخة سليمة ونظيفة على خلاف غيرها من النصوص التي كانت مليئة بـ (الخربشات) على الهوامش، لتعلق في الأخير: “ربما كان الأستاذ يحترم الكتب المقدسة بشكل أكثر من اللازم”.
————–
* نقلاً عن مقال صحيفة الوول ستريت جورنال بعنوان “الأرشيف الضائع” للكاتب أندرو هيجنز (اضغط هنا)
ترجمة / عبد الحق بوقلقول