الشعرية في التشكيل السوري
2008-06-09
( قراءة في الورقة النقدية التي قدمها التونسي د. محمد بن حمودة في الملتقى التشكيلي الدولي في الرقة )
ربما كان أهم اكتشافات الملتقى التشكيلي الدولي، الذي استضافته مدينة الرقة مؤخرا، بجانيه النقدي، إبراز قصورنا النظري وقدم معلوماتنا الخاصة بهذا المجال من الفن، وكان ذلك واضحا في معظم الندوات، من خلال الحوارات التي كانت تعقبها، حيث كان المحاضر، في أغلب الأحيان، في جهة والمتداخلين في جهة أخرى، وقد برز ذلك بجلاء بعد البحث اللافت الذي قدمه التونسي أحمد بن حمودة.
في هذا البحث الذي جاء بعنوان (التشكيل السوري ومرئية الجليل) يسعى بن حمودة لإثبات تلك العلاقة اللا مشروطة بين الشعر والتشكيل، أي شعرية اللوحة وصوتها ولونية القصيدة وفضائها، وذلك من خلال مخطوطة شعرية للفنان طلال معلا الذي يسعى لتخطى مشكلية الفن، عبر مباشرة الشعرية واستعادة الممكن المباشر الذي تتضمّنه العلاقة الطّفولية الأولى مع العالم وتحويل التلقي الفني إلى خبرة معيشة تمتد فاعليته لتشمل الشرط المديني نفسه، وطلب اللا مشروط ضمن ما هو مشروط، أي ضمن الشرط التاريخي. ولهذا يجهد طلال معلا (والتشكيل السوري عموما) لبلورة (الجليل) خارج الطبيعة (ارتبط الجميل بالحقيقة في حين ارتبط الجليل بالهالة وبالبهاء، أي بالإبهام وبالروعة) ولإشغاله وفق المنوال السمعي-البصري.
ويرى بن حمودة أنّ الرهان الأعظم يجب أن يكون مداره وضع حدّ لتقسيم العمل الاجتماعي الذي ينقسم بمقتضاه الناس إلى فئتين، الأولى منتجة للقيم والثانيّة مستهلّكة لها، ولذلك كان لزاما علينا أن نوظّف منهجاً لا يهتمّ بالوضوح، لأنه يهتمّ بما هو أهمّ، توليد النديّة وخلق شروطها.
وفعلاً، فإنّه من هذا المنظور لا يعتبر مبدعاً فقط مَنْ صاغ نسقاً فلسفيّا، أو من أبدع رائعة فنية، بل يشمل الإبداع كذلك كلّ من يستطيع أن يدخل مع هذه الأفعال في أيّ صنف من أصناف علاقات النديّة، فيمكنه بالتالي أن يتمثلها بحيث يستطيع، مثله مثل مقترحها، أن يستلهمها ويحوّلها إلى خبرات مخصبة.
ضمن هذا السياق يكتشف بن حمودة أن الفنان أحمد معلا قد استطاع انجاز سلسلة من الاكتشافات المجازية، أتاحت له الاعتراف بقيمة التصوير الشعري، وحسّنت علاقاته بأعماق اللوحة وكشفت حجبها، مظهرا وجهة نظره الشرقية في إحياء الجسد الإنساني في إطار زماني متعدد المستويات والتساؤلات البصرية بعيدا عن الزمان الغربي المنفرد الذي يقتضي مكانا منفردا.
كذلك الأمر لدى الفنان غسان السباعي في لوحته (قوة الضمير) ذات الحميمية المتباينة تماما مع الذاتية الكلاسيكية، فهي ليست مشهدا ولا تسدي أيّ ضرب من ضروب المعرفة، وذلك لأنها أساسا مناخ ومزاج، والتي تستدعي تلك الطاقة التي يودعها المتلقي في العمل الفني فترتد إليه مرة أخرى، ويظل التجاوب بينه وبين مناخ اللوحة ومزاجها مرتكزاً على التعاطف وعلى الفراسة والحدس وغيرها من الأفعال التي تستنفر ملكاتنا.
مع الفنان ثائر هلال ستتسّعَ دائرةَ الاستلهام والاستيحاء، تاركاً الفرصةَ لقراءات غنية ومتنوعة، مبنية على احترامه لذاتية العلاقة مع الصورة، ولضرورة الاختلاف الثقافي، مصّراً على أن الثقافةَ تشكلُ القاعدة الإدراكية للرسالة البصرية.
ويعتقد بن حمودة أنّ الشعرية هي خيار يستمد خطورته من طبيعة المرجع الذي ينخرط ضمنه ولأجله، وهو خيار يوجه اللوحة نحو الوجود المفتوح والواعي على مجال الاستيهامي، وبهذا كان الجسد لدى نذير نبعة مقاوما، معلنا أعضاءه دون حياء، دون خوف، لا شيء يكسي عريه، و به يواجه الرصاص في مشهد مأساوي، لكنه يضج بالتحدّي، جسد هويته ماثلة باندفاعته المستندة على هندسة خفية وحركة معمارية، بنائية، مُشكلة بأقواس واستقامات تنحني بما لا يُضيّع تفاصيل التشريح، ودون أن يوقف الانطلاقة.
وكانت الأرض غرضا رئيسا في التشكيل السوري، فقد حاول محمود جلال أن يعبّر عن ارتباطه بها كرمز ووجود لهذا انحصرت مواضيعه بالفلاحين وبالأرض وبالبيئة، وطرحها كمادة للمناقشة وكقضية للمعالجة التقنية. ينسحب هذا على أعمال فتحي محمد وناظم الجعفري في رسمه الأسواق القديمة والأزقة والأحياء الشعبية بأسلوب انطباعي تحليلي تركزت قيمته في اللون، في مسعى لإيجاد هوية للتشكيل العربي مع إضفاء العنصر المحلي الذي تحقق بالتراث الشعبي.
ولكن في الوقت الذي اعتبر فيه حضور هذه الأرض علامة على وجود العنصر المحلّي فإنّ حاصل كل التجارب التي مرّ معنا ذكرها تبيّن أنها منظور ألهم التشكيليين السوريين المعاصرين عموما، وبشار العيسى على وجه الخصوص، نقطة للتقاطع بين المرئيّ واللا مرئيّ، لذلك انتمت الأرض، لدى كل الفنانين الذين سبق ذكرهم، لمجال الاستيهامي والعشقي، وانتمت لدى بشار العيسى إلى ميدان التخييل السينمائي، ومعلوم أنّ السينما غيّرت المنوال الفنّي جراء استبدالها النظرة المتمدّية (المديدة) بالنظرة القريبة التي طالما اعتبرها التصوير الكلاسيكي العلامة على جموح وخيم العواقب.
وإذا كان بعض الدارسين يربطون النظرة القريبة بما يسمونه (الإصرار الإدراكي) الذي يتسبب في (لزوجة الموضوع)، فإنّ بشار العيسى يطرح المسألة خارج محور الليلي والنهاري ليربطها بالممكن والمباشر، وفي ذلك يقول : وكلما ازدادت أبجديتي غنى بالممارسة والتأمل، ازداد ميلي إلى إلغاء التفاصيل التي لا نكهة لحضورها ..
أنهى التونسي بن حمودة تعقبه الشعري للتشكيل السوري آملا بإضافات الآخرين، لكنه فوجئ بمداخلات تتهمه بغزارة المصطلحات وضيق الأفق والاستعراض والابتعاد عن عنوان البحث وغيرها.
جدير بالذكر أن الملتقى قد شهد العديد من الندوات النقدية التي لا تقل أهمية عن ندوة بن حمودة، وقد حاضر فيها العديد من النقاد التشكيليين السوريين والعرب كان منهم د.عمر عبد العزيز(اليمن) ود. أمل نصر (مصر) وسعد القاسم و د. أثير محمد علي ومحمد العزو وغالية الخوجة وسامر إسماعيل (سورية) إضافة للفرنسي دومينيك بوتييه، وربما سنعود إليها في هذا المكان في وقت لاحق.
[email protected]
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |