البائع المتجول حسيب كيالي
خاص ألف
2018-05-19
قطع نداءه وقال لي: "أهلين أستاذ. والله اشتقنا".
قلت: "شكراً. فيه محل إلى اللاذقية؟".
- فيه.
- جنب السائق؟
- لا والله يا أستاذ. فيه، في الصدر. اختر المحل الذي يعجبك.
- اقطع لي إلى اليمين، المحل الأيمن قرب النافذة.
- تكرم على رأسي ثم عيني.
- شكراً. متى تمشي السيارة؟
- في الواحدة كالعادة. ولكنها قد تمشي قبل عشر دقائق، ربع ساعة، حسب التيسير. كن هنا أعمل معروفاً في الواحدة إلا ربعاً.
- طيب، خاطرك.
- مع ألف سلامة.
عدت في الواحدة إلا ربعاً كما أمر:
- طبقت أبو النور.
- طبقت تفضل.
- أراها لم تطبق تماماً.
- لا، طبقت. ركاب قدام والوسط جاهزون. في الصدر راكب وجنابك، وفيه حرمة في المجتهد سنذهب نحضرها. إذا شئت أستاذ حسن أن تدخل السيارة وتستريح حتى نفرغ من حزم الظهر...
- وهو كذلك.
- ودخلت السيارة. كان في المحل الذي قطعته رجلاً في حوالي الخامسة والثلاثين نحيفاً، يضب قبته بيده اليسرى وتحمل اليمنى سيكارة. قلت:
- عفواً حضرة الأخ، أظن أن المقعد الأيمن، هنا قرب النافذة ، لي أنا.
- لك؟
- أي نعم، أنت تستطيع سؤال الأخ الدلال. معه القائمة.
قال في صوت أبح مزكوم:
- حضرتك صادق أستاذ، تفضل.
وانتقل إلى الطرف الآخر، الأيسر، من الصدر طيعاً وديعاً مستسلماً. قلت:
- شكراً لك. لا تؤاخذني. أنا أدوخ قليلاً من رائحة المازوت، ولذلك أختار مقعداً قريباً من النافذة..
لم يسألني لماذا لم أختر النافذة اليسرى التي ستظل الشمس تنصب منها هي غاربة حتى حمص.
قال وقد خالطت البحة المزكومة رنة من تهذيب مكسور، مسحوق:
- ما عليه شي أستاذ أبوس يدك.. تفضل اختر المطرح الذي يرضيك...
قلت له:
- لماذا تبتعد هكذا إلى أقصى اليسار. ابق هنا قربي..
- لا يا أستاذ. أنا، بعيد عنك، مزكوم. أخاف أن أزعجك..
وارتفع صوت الدلال خارج السيارة:
- يالله يا عطا، اطلع إلى سيارتك كفاك ملكعة..
وقال عطا الذي كان يقف على الرصيف:
- أنت لا تصلح إلا لشغلة معلم مكتب..أشتهي أن أسمعك ذات يوم تطلب مني شيئاً من غير أمر..
قال أبو النور:
- الأولاد مقصوفو الرقبة شرواك يحتاجون إلى الشدة. العصا من الجنة! وضحك عطا:
- أمرك .. ماذا تأمر؟
قال أبو النور آمراً:
- ضروري أن نعيد الدرس ألف مرة. قلنالك اطلع عبي مركزك وتيسر.
- أمرك. فيه أوامر أخرى؟
- توص بأستاذنا.
- من؟
- الأستاذ حسن هنا.
ومد عطا رأسه إلى داخل السيارة:
- أهلا وسهلا أستاذنا العزيز، وصلت الأمانة؟
قلت:
- وصلت، شكراً لك يا عطا. ولكني وكيلك الله ما ذقت منها غير قرص واحد.
قال عطا:
- بالله عليمك؟ والله يا أستاذنا حسن شنكليشات موصى عليها، شغل أم ممدوح ذاتها. والله أنا في عمري ما ذقت أفكه منها.
قلت ضاحكاً:
- إذن أنت أيضاً ما قصرت؟!..
- والله يا أستاذ إذا كان الكذب ينجي فالصدق أنجى. أنا قلت في نفسي: "هذه الشنكليشات لأستاذنا.. وما فيه فرق بيننا..." قمت أكلت لي مثلما تقول قرصين ثلاثة..
- قل أربعة خمسة..
- ولكن مستحيل أن يكون الرقم قد ارتفع إلى الستة السبعة (ضحك).
- إن شاء الله مأكول الصحة. على كل حال أنت نصيبك أكبر من نصيبي. أنا ما أصابني غير قرص واحد.
- والبقية؟
- جلاها حمد. الجيران صاروا يتواصون بها. أم عدنان بشرت أم رياض، أم رياض زفت الخبر إلى أم سمير: "روحي اطلبي لك قرصين شنكليش من بيت الأستاذ. شنكليشات للنظر ما هي للأكل.. وهكذا انطبلت الحارة.. وطبلت من التنكة وزمرة...
قال عطا ضاحكاً:
- يا ليتني أكلت سبعة ثمانية.
ونقر أبو النور الشباك على عطا:
- يالله يا عطا دوّر. كفاك علكاً يا ابني امش..
قال عطا:
- أمر مولانا مطاع. إلى الأمام سر يا سيد عطا. أين هذه الحرمة التي في الصدر قلت لي؟
قال أبو النور:
- معك العنوان، في القائمة.
- خاطرك.
- مع السلامة. سلم لي على أبو عمر.
السيارة تتحرك في اتجاه شارع سعد الله الجابري، خالد بن الوليد، المجتهد. عطا ينزل أمام بناية يطرق الباب. صوت امرأة من الداخل:
- من؟
قال عطا:
- سيارة اللاذقية يا أختي، يا الله.
- أي يا أخي جيت.
- عجلي يا أختي من فضلك.
- جيت، جيت. فريزة هاتي السلة. سناء المحفظة. سامر تعال عاوني.
ولكن أحداً لا يخرج من المنزل. ويعود عطا يطرق الباب:
- الركاب تنتظر يا أختي.
- أي يا أخي أي. خذ يا ابني يا نادر احمل هذه البقجة. الحقه يا سامر. سامية خذي هذا الحذاء حطيه قدامي.
وأخيراً انفتح الباب واندفعت من البيت مظاهرة مسلحة صغيرة:
قال عطا:
- فيه شي نحزمه على الظهر؟
- لا تقبرني ما معي شي. كلها محفظة وسلة أضعها أمامي. نادر، سامر، سناء، فريزة عاونوني.
عطا يحمل المحفظتين الثقيلتين إلى الظهر والمرأة تحتج:
- أضعها أمامي. ما فيه غير غرضين. يوه، أين محلي أنا؟
قال عطا:
- في الصدر.
قالت المرأة وهي تدخل السيارة:
- في الوسط؟ لا ومئة نبي...
قال الراكب المزكوم:
- تفضلي يا أختي، نقي المحل الذي يعجبك.
- أنا أريد جنب الشباك.
- تفضلي خذي المحل جنب الشباك.
وانتقل الرجل في الاستسلام ذاته إلى المقعد الأوسط. وهو يقول لي:
- العفو .. لا تؤاخذني يا أستاذ. أأضايقك؟
- لا. اقعد جيداً. خذ حريتك. المقعد أساساً واسع.
وعادت السيارة إلى شارع النصر فسعد الله. المعامل. الغوطة. زيتونة سمينة مثل جارتنا اللاهثه هذه، أخرى عجفاء مثل أختي زينب. عشب ذو خضرة ندية تأسر القلب، لا تأسره وحسب ولكنها تجعله يقف على شعرة من حنان وإشفاق ووجد.. ما فيه فائدة. سأموت وأنا عاشق، عاشق. عاشق مزمن، عاشق أزلي. العشق! الله، الله! رب اجعله ديدني أبد الدهر.. أنا أنغمس حتى الأذنين في هذه العذوبة الخريفية. وي! لقد ذهلت عن اخراج غليوني!
سأسطر نفساً كما يقولون في قهوة البرج. هذا الذي يجلس قربي شهّاني. إنه لا يطفئ السيكارة إلا ليشعل أخرى. يا رب كم هو مطحون! مطحون حتى العظام. كم عمره؟ لعله أن يكون في الثلاثين، في الخامسة والثلاثين. إنه يشبه هوتشي مينه على أصبى. كنزة تحت القميص المفتوحة رقبته..
الجار يسعل.
قلت:
- ما لك يا حضرة الأخ؟
- سيدي، الشكوى لله.. معي نزلة على الصدر.
- ولكنك تدخن كثيراً.
- أي والله. الله يلعن الشيطان . أنا ليس لي غير هذه السوسة. أنا الداعي لا أسكر ولا ألعب ولا أتعاطى شيئاً حرمه الله.. مالي غير هذه الملعونة!
- من أين أنت؟ ألست من حلب؟
- بلى. وأنت؟ لا تؤاخذني على فضولي..
- أنا من جهات حلب، ولكني أسكن الشام منذ عشرين سنة.
- الله يعمرك يا شام.
صمت.
- هذه السلسلة من الطلعات تسمى الثنايا.
- أي سيدي.
- يقال أن خالد بن الوليد..
- سيدنا خالد؟
- أي نعم، يقال إنه هو الذي سماها الثنايا. أتعلم ما معنى الثنية؟
- لا يا سيدي، أنا لا أعرف.
- الثنية وتجمع على ثنايا هي هذه: أسنان مقدم الفم. ثنتان من فوق وثنتان من تحت.. ولعل معناها أن يكون أيضاً الطريق العسيرة لأن العرب كانت تقول: فلان طلاع الثنايا.. انظر، ان المعنيين ينطبقان على هذه المنطقة...
- كيف يا سيدي؟
- أولاً تتثنى الجبال فتشبه الأسنان، انظر. ثانياً، في هذه المنطقة عسر واضح. انظر أنها جبال صعبة، يكش لمنظرها البدن ما فيها عرق أخضر واحد. حبذا لو امتدت أبعد تلك الغوطة الطرية مثل الخسة. من هنا وصاعداً تسحب السيارة ساعات من غير أن يرى الإنسان عرقاً أخضر إلا شجيرات السماق القميئة على سفوح التلال الغربية في القلمون...
سعلة مكتومة من الجار.
- أي نعم يا سيدي..
- لا تقل لي بعد الآن سيدي أيها الأخ.
- استغفر الله. أهل الكرامات لهم علامات.
- ما اسمك؟
- علي.
- وأنا اسمي حسن.
- تشرفنا.
- اسمع يا علي، أنا رجل درويش مثلك، ولكني لا أسوِّد أحداً عليّ.
- نعم سيدي (بعد فترة) هل تسمح لي أن أسألك سؤالاً؟
- تفضل.
- صحيح أن الغليون أنفع من السيكارة؟
- أرذل..
- قال علي في دهشة:
- والله أنا قال لي واحد إن الغليون أنفع من السيكارة..
- لو أنك قلت أخف ضرراً. ولا أظن أن شيئاً من هذه الآفات فيه ما ينفع الناس أو حتى ما يهدئ الأعصاب كما يزعمون.. قلت لي إنك حلبي؟
- نعم سيدي.
- قل حسن.
- نعم أستاذ حسن.
- ولكنك ذاهب إلى اللاذقية.
- أي نعم. أنا أعمل هناك.
- أين؟ في المرفأ؟
- لا يا أستاذ. أنا بائع متجول. بسطاتي (في صوت خفيض) وجنابك؟
- أنا صحافي.
- يعني تكتب في الجرائد؟
- أي نعم.
- أنعم وأكرم. ومن بيت من؟
- من بيت هلال.
- أنعم وأكرم. أنتم أجاويد.
- حط في الخرج أخي علي. الجود ليس حكرة أسرة من الأسر. ولكن قل لي ماذا تعمل في دمشق، وأنت بسطاتي في اللاذقية؟
- أي سيدي خلني أخدمك. أنا آتي إلى دمشق، أقصد أحد التجار، أشتري منه بضاعة حقها ألف ليرة.. طبيعي، واحد مثلي لا يملك ألفاً في حال من الأحوال. التاجر، لا تؤاخذني، يأخذ مني خمسين ليرة عربوناً، ويبدأ يرسل إلي طروداً من طريق وكالة شحن. مثلاً خمسة طرود، كل طرد حقه مئتان. أسلم الوكالة المئتين، كل أسبوع أسبوعين، فأتسلم الطرد.. هكذا حتى ينتهي شحن البضاعة المطلوبة وتسديد ثمنها..
- وما هي البضاعة التي تبيعها على بسطتك؟
- والله يا أستاذ مشكّلة: بيجامات انترلوك، كنزات ولادية جوارب.. نأخذ كل هذه الأصناف نضربها بعضها في بعض ونبيع القطعة قلم قايم بليرة..
- في ربح اجمالاً؟
- والله فيه شيء يربح فرنكين، فيه شيء يربح أربعة فرنكات. تستطيع أن تقول أنها مستورة..
وصمت قليلاً ثم عاد يقول:
- مستورة ولكنها مصلحة ما فيها زبدة. اليوم الذي نربح فيه عشر ليرات نكون دفعنا حوالي خمس منها أجور سيارات.
- أجور سيارات؟ إلى أين؟
- معلوماتك.. أنا آخذ مطرحاً في سيارة، سيارة تكسي في الأغلب، وأحزم بسطتي على الظهر، وأروح أدور.. الحفة، طرطوس، دمسرخو، جبلة، قرداحة.
فترة قصيرة ثم:
- المشكلة أنه يمر عليك يوم يرمي لك ربحاً حسناً ولكنك لا تلبث أن تفاجأ ببسطتك وقد سرق منها أربع خمس قطع..
قلت متعجباً:
- سرق منها؟ من يسرق؟
واستمر يقول:
- أحياناً أمسك السارق مسك اليد. نسوان، الله وكيلك، فيه منهن من تكون ذراعاها ملآنتان أساور. الأسورة قرب أختها رصاً.
- وماذا تفعل أنت في هذه الحال؟
- استأجر ولداً (ضحكة خفيفة تتبعها سعلة) قد يكون غشيم صنعة، عامل بيتن سابقاً ولكنه – الله ما بيني وبينه – أمين...
- وإذا لم يتيسر لك ولد؟
- أدفع عربة البسطة إلى قرب دكان أعرف صاحبها وأسأله أن يدير لي باله عليها.... وأفشخ وراء الحرمة التي عملتها...
- وهل يجدي ذلك دائماً؟
- والله يا سيدي في الأغلب تنحل المشكلة صلحاً، من غير عياط...
- كيف؟
- أقرّب (يهمس) أهمس في أذنها: ستي، أظن أنك، لا تؤاخذيني (الصوت باسم) أخذت بنطلون بيجاما ولادي من طريق الخطأ (يقلد صوت امرأة) أنا؟ أنت غلطان يا أخ! (يعود إلى صوته المعسول) سيدتي المحترمة ما أنا غلطان أؤكد لك (صوت المرأة) لا، حضرتك غلطان.. أمثالنا يا حضرة لم يعتادوا الغلط! (صوته) أرجو عفوك سيدتي المصونة، أنا شفتك بعيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود (صوت المرأة ) وقح (صوته) ما فيه مانع نتكلم في هدوء ولا نرفع صوتنا، لأن شرطياً عابر سبيل إذا.. من قبيل المصادفة.. مر بنا.. مصادفة أقول .. وسأل عن سر العياط، عن سر الخناقة، وقلت له أن السيدة.. تستطيع يا حضرة الشرطي أن تتفضل فتنبشها.. (صوت المرأة) والله يا ابني الإنسان مركب على الخطأ. أنت على صواب.. أنا، ما عسى أن أقول؟ يدي انخطفت (صوته) لا أبوك ولا أبو الشيطان. ارجعي لي رزقي وروحي في سبيلك، الله يسامحك...
وضحكت من صميم قلبي:
- لاحظت أنك قلت في الأغلب...
- أنا؟
- أي أنت.
قال في براءة:
- متى؟
- منذ قليل. قلت: في الأغلب تحل المشكلة صلحاً.
- أي تذكرت. أي نعم . أحياناً قد تقع على واحدة – عدم المؤاخذة – قارحة، تروح تولول وتصيح (يقلد) ويلي. هذا البياع مبهدل، يتحرش بي، أنا أم أولاد..
ضحك ثم صمت قصير.
وفكرت: "هذه هي المرة الأولى أرى فيها بسطاتياً يركب سيارة صغيرة!".
وقلت له:
- انك تسعل يا علي.
- أي والله مثلما قلت لحضرتك، شيء – الشكوى لله – نازل على صدري. هذه حدفة، الله العليم. ادع لي يا أستاذ أن لا يرميني الله من حيلي.. كله محتمل يا أستاذ كل شيء: السرقة، الشقاء، التعتير، اللوبان في القرى... كله على الرأس والعين، نعمة.. إلا المرض. إذا مرضت يا أستاذ لا يشق أحد علي الباب ويقول لي "مابك؟" لا أحد يقول لي: "خذ لك يا أبا أحمد هذين القرشين حق دواء..."
بعد فترة:
- وحدي، وحيد. لا أحد غيري. أنا وصحتي ولا معين.
- إذن أنت أعزب؟
- لا يا سيدي. أنا متزوج وعندي الحمد لله (يبوس يده وجهاً وقفا) ثلاث بنات.. أي نعم ثلاث بنات.. قد تسألني: كيف أركب سيارة تكسي أجرتها عشر ليرات، أنا البسطاتي الدرويش. لماذا لا آخذ الباص؟ أي سيدي هذا هو السبب: أنا لا أستطيع أن أنام إلا إذا تمسيت بوجوههن الصغيرة. في عمري، أقصد منذ أن تزوجت، ما نمت ليلة واحدة خارج البيت. قد أكون في الشام، في حلب. في طرطوس.. ولكن متى ما يُمْسِ المساء أغسل يدي من كل شيء، من كل شيء مرة واحدة ولو كان شغلي الذهب، و.. يا قديم الإحسان إلى اللاذقية، إلى البيت.. وسواء كنت رابحاً أو خاسراً، مرضوض العظام من التعب أو مرتاحاً مثل طفل ما به جوع ولا هو موجوع.. يحدث لي، آمنت بالله، أني، منذ أن أضع قدمي على برطاش الباب، أحس أني اغتسلت من كل تعب اليوم، من العناء ، من الشنططة والغربة والقلق والخشية من المرض جميعاً...
ويستمر علي في تحنن:
- "بابا" .. عندما أسمعها، ما لك علي يمين يا أستاذ، أحسن أن شيئاً فيّ يذوب، يقف على شعرة.. وأتصور كيف كانت تكون هذه الدنيا لولا هذه البراعم الثلاثة من زهر الرمان، من زهر التفاح؟...
مطحون، مطحون أنت حتى العظام، ولكنك تحيا لأن لك هذاك الشط الوديع الغرير تلوذ به كل مساء. وأما أنا فلا شط وديع غرير مؤنس ألوذ به. أنا شراع في بحر لجي، غضوب، ولا شاطئ.
وقلت له:
- أتعرف يا علي لماذا أنا شراع ضائع؟
قال في دهشة وريبة كأنه وقع على إنسان ممسوس:
- نعم؟
- كنت أسألك يا أبا أحمد ما إذا كنت تعلم لماذا أنا شراع ضليل متشرد في بحر لجي غضوب ولا شاطئ؟
- سيدي، أنا في عمري ما قعدت في المدرسة. مافهمت عليك.
- كنت أقول لك لماذا اخترت اللاذقية وأنت حلبي؟
- أنا؟
- أي نعم، أنت.
وعاد إلى سرده الميسور كأنما كذّب أذنيه:
- والله يا أستاذ البسطاتية في حلب كثار. إذا كانت المصلحة في اللاذقية ما فيها زبدة فهي في حلب ناشفة على القطنة...
وساد صمت امتد طويلاً. تذكرت قصيدة من الشعر الحر نظمتها أقص فيها كيف ضللت طريقي في بلدي، وعدت أسأل حتى عن بيتي...
وأما علي البسطاتي فلا يضل حتى في بلد غريب...
من مجموعته: "حكاية بسيطة"