سورية : دراسة في التكوين المجتمعي والطائفية السياسية ـ أحمد الهواش
2018-06-02
مقدمة
تعدّ سورية مركز جذب حضاري وقد مرّ عليها عبر تاريخها الطويل مجموعة من الأقوام إلا أنها ظلت عربية اسلامية بحكم حقائق التاريخ والجغرافية والسكان والدين والثقافة وإن كان فيها أقوام غير عربية وأديان غير إسلامية، وهذه الدراسة تتناول تطور التاريخ السياسي لسورية والتكوين السكاني والديني والطائفية السياسية.
أولاً – التطورات السياسية في سورية :
1 - سورية تحت الانتداب الفرنسي :
سورية الحالية - الجيوسياسية - ليست نتاج سايكس بيكو , فقد طرأت تغييرات جذرية على تلك الاتفاقية , وإنما نتيجة اتفافية سان ريمو في 25 أبريل 1920 التي حددت مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية في المشرق العربي, حيث انعقد مؤتمر سان ريمو الذي نظّم مصالح الحلفاء المنتصرين, وقد سلّم المؤتمر صك الإنتداب إلى فرنسا لتحكم سورية ولبنان وإلى بريطانيا لتحكم فلسطين وشرقي الأردن والعراق, وبموجب الاتفاقية احتفظت بريطانيا بولاية الموصل.
وقد أصبحت المملكة السورية العربية التي أعلن عنها في 8 آذار 1920 تحت الاحتلال الفرنسي بعد معركة ميسلون في 24 تموز 1920، ثم عمد الجنرال غورو إلى تقطيع اوصال سورية فقسمها إلى عدة دويلات مستقلة وهي دولة دمشق 1920 ودولة حلب 1920 ودولة العلويين 1920 ودولة لبنان الكبير 1920 ودولة جبل الدروز 1921 وأصبح لكل منها علم وعاصمة وحكومة وبرلمان وعيد وطني وطوابع مالية وبريدية خاصة, وبسبب الرفض الشعبي للتقسيم وعدم الاعتراف به قامت فرنسا في عام 1922 بإنشاء اتحاد فدرالي فضفاض بين ثلاث من هذه الدويلات دمشق وحلب والعلويين تحت اسم "الاتحاد السوري"
وفي الشهر الأخير من عام 1924 قرر الفرنسيون إلغاء الاتحاد السوري وتوحيد دولتي دمشق وحلب إلى دولة واحدة هي دولة سورية، وأما دولة العلويين فقد فصلت مجدداً وعادت دولة مستقلة بعاصمتها في اللاذقية , كما جعل لواء اسكندرون إدارة مستقلة (1).
أدى هذا التقسيم لانطلاقة الثورة السورية الكبرى 1925 - 1927 التي عمّت غالبية الأراضي السورية , وقد استمرت الحركة الوطنية السورية المعارضة للانتداب الفرنسي , وحاول الفرنسيون أن ينظموا علاقاتهم مع الوطنيين السوريين , فدخل الطرفان في عام 1936 بمفاوضات لإقرار معاهدة تُعطي للسوريين شكلاً من الاستقلال , وقد أصرّ الوطنيون خلال هذه المفاوضات على ضم جبل الدروز وجبل العلويين إلى سورية , فأصدر المندوب الفرنسي قراراً بذلك مع الإبقاء على درجة من الحكم الذاتي , أما لواء اسكندرونة فقد تنازلت عنه فرنسا لتركيا في حزيران 1939 (2).
عملت الحرب العالمية الثانية على تغيير موازين القوى، فتهاوت فرنسا سريعاً امام ألمانيا عام 1940 ما جعلها تغير في سياستها مع إبداء بعض المرونة، فاعترفت باستقلال سورية اسمياً عام 1941 ثم جرت انتخابات برلمانية عام 1943 ، عادت خلالها الكتلة الوطنية الى الحكم واستلمت الرئاسات الثلاثة، غير أن الاستقلال التام والجلاء لم يحدث إلاّ في 17 نيسان 1946 عندها تمتعت سورية بكامل سيادتها واستقلالها, بعد أن فقدت لواء اسكندرون لصالح تركيا وبات لبنان الكبير دولة مستقلة كما أرادت فرنسا رغم اعتراض السوريين على ذلك (3) .
2 – عهد الاستقلال والانقلابات العسكرية :
ظهرت آثار كارثة فلسطين في سورية قبل غيرها من الدول العربية(4) , فقد أجمعت المصادر أن تقسيم فلسطين عام 1947 ، وإعطاء اليهود حق إنشاء دولة فيها، أعقبها انهزام الجيوش العربية عام 1948 ، أثر على وضع سورية الداخلي وعجّل في القضاء على النظام الجمهوري الديمقراطي فيها(5).
فقد شهدت سورية من 1949 حتى 1970 عدة انقلابات , فقد بدأت تلك الانقلابات بانقلاب حسني الزعيم في 29 آذار 1949 ثم حدث انقلاب سامي الحناوي في 14 آب 1949 تولى فيه الزعيم سامي الحناوي السلطة ثم جاء الانقلاب الثالث والرابع الذي قاده العقيد أديب الشيشكلي في 19 كانون الأول 1949 , وكذلك في 2 كانون الأول 1954 , ثم كان انقلاب مصطفى حمدون على الشيشكلي في 25 شباط 1954.
وفي عام 1955 تم انتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية ولم يتوقف تدخل العسكر في الحياة السياسية ومناداة المطالبين منهم بالوحدة مع مصر وهذا ما تم في 22 شباط 1958 والحقيقة التي يجب أن تُقال بهذه المناسبة إنّ شخصية الزعيم جمال عبد الناصر وانتصاراته وتبنيه لفكرة الوحدة العربية وتأييد غالبية الشعب للوحدة فضلاً عن إجماع كافة الأحزاب السياسية باستثناء – الحزب الشيوعي – وإجماع القوات المسلحة على ضرورة الوحدة أدت لقيامها (6). لتنتهي الحياة الديمقراطية في سورية بوحدة تكرس حكماً شمولياً وزعيماً متفرداً ولم يمض إلا بعض الوقت على قيام الوحدة حتى ظهر أنّه نظام ديكتاتوري مطلق لا يختلف عن الانقلابات التي مرت على سورية إلا بالاسم والإمكانات الضخمة(7).
وفي 28 أيلول 1961 تمّ الانفصال بانقلاب عسكري قاده عبد الكريم النحلاوي(8) وقد عُرف بالعهد الجديد أو عودة الحياة الديمقراطية لسورية بعد أن حلّ عبد الناصر الأحزاب في زمن الوحدة وشهدت مرحلة ما بعد الانفصال أيضا حراكاً سياسياً نشطاً تجلى في تشكيل خمس حكومات وتشكيل لجنة لإعداد دستور دائم للبلاد (9). ولكن حدث انقلاب آخر في 28 آذار 1962 قاده النحلاوي وردّ عليه قادة المنطقة الشمالية والشرقية بانقلاب الضباط الأحرار حتى تم احتواء الموقف بإبعاد عدد من الضباط وإعادة آخرين وكان الرئيس في هذه المرحلة ناظم القدسي(10) ولم يدم هذا العهد طويلاً فقد قضى عليه انقلاب 8 آذار 1963 ليسيطر البعثيون على السلطة وتنتهي الحياة الديمقراطية في سورية ولتبدأ مرحلة تأسيس الطائفية السياسية.
3 - حزب البعث وتكريس الطائفية السياسية في سورية :
كانت بدايات حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1940 عندما بدأ نشاطه تحت إسم حركة الإحياء العربي واستبدل الاسم عام 1943 باسم حزب البعث العربي , وعقد مؤتمره التأسيسي في 7 نيسان 1947 وعد المؤتمر التأسيسي الأول , واندمج مع الحزب العربي الاشتراكي في 13 تشرين الثاني 1952 تحت اسم حزب البعث العربي الاشتراكي(11). وقد حلّ الحزب نفسه كما أسلفنا في عهد الوحدة مع مصر
لقد تم تأسيس حزب البعث بدمشق عام 1940 على يد ميشيل عفلق وهو مسيحي من الروم الأرثوذكس وصلاح الدين البيطار وهو مسلم سني، وكلاهما ينتمي إلى الطبقة الدمشقية البرجوازية الصغيرة، وكانا مدرسين بمدرسة التجهيز الثانوية التي جندا منها معظم أعضاء الحزب الأوائل ورغم أن عفلق والبيطار من دمشق، إلا أن معظم أعضاء الحزب الأوائل كانوا من المهاجرين من الريف الذين قدموا إلى العاصمة السورية لاستكمال دراستهم(12).
كان كل المنتسبين للحزب في دمشق من العناصر الشابة الطلابية القروية التي كانت تؤم الجامعات والثانويات بين 1940 - 1955، حتى إذا انتهت عادت إلى مسقط رأسها فتوالى نشاطه , ولقد كانت الشروط الاجتماعية في الريف مؤاتية لنشوء الحزب وامتداده فتضخم فيه وظل هزيلاً في المدن، وبخاصة دمشق ٠ ومع الزمن أصبح جسمًا كبيرًا برأسٍ صغير(13), إن حقيقة أن الكثير من البعثيين الأوائل كانوا من الإقليات وأبناء الريف قد شكلت فيما بعد عائقًاً اجتماعياً أمام انضمام أبناء المدن من أهل السنة إلى البعث، وذلك بسبب التناقضات التقليدية بين المجتمعات الريفية والمدينية وبين السنيين والأقليات الدينية , إن مثل هذه الحواجز الاجتماعية التقليدية قد عرقلت التوسع الطبيعي لمنظمة الحزب في أرجاء سورية وظهر ذلك جليًا في فترة الستينيات عندما تقلد حزب البعث زمام السلطة(14).
في 8 آذار 1963 أطاح انقلاب بقيادة ائتلاف من الضباط البعثيين والناصريين والوحدويين المستقلين بـنظام الانفصال، وما لبث أن ازداد عدد أعضاء الأقليات في سلك الضباط السوريين مرة أخرى على حساب السنة , وأحد الأسباب الرئيسة لذلك هو أن القادة البعثيين العسكريين الذين شاركوا في الانقلاب قاموا باستدعاء العديد من الضباط وضباط الصف الذين تربطهم بهم أواصر عائلية أو عشائرية أو إقليمية لتعضيد مراكزهم الجديدة التي حصلوا عليها على وجه السرعة(15).
فعلى الرغم من أن حزب البعث قد أعلن عن حلّ نفسه في عهد الوحدة إلاّ أن الواقع يُكذب ذلك فقد كان نشاطه سرياً ولاسيما في الجيش وهذا يترك أكثر من إشارة استفهام حول الحزبية في الجيش السوري والولاء الحزبي بدلاً من الولاء للوطن فالقيادة العليا للجنة العسكرية البعثية التي تأسست عام 1959 خلال الوحدة بين مصر وسورية من قِبل ضباط منقولين لمصر تكونت في البدء من خمسة ضباط من بينهم ثلاثة علويين وهم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد واسماعيليان وهما عبد الكريم الجندي وأحمد المير , وعندما توسعت اللجنة العسكرية فيما بعد لتشمل 15 عضوًا أصبح تشكيلها كالآتي: خمسة من العلويين وهم :محمد عمران من المخرّم (حمص) وصلاح جديد من دوير بعبدا (اللاذقية) وحافظ الأسد من القرداحة (اللاذقية) وعثمان كنعان من ريف منطقة حلب وسليمان حداد من حمام القراحلة (اللاذقية)، واسماعيليان وهما: عبد الكريم الجندي من السلمية (حماة) وأحمد المير من مصياف (حماة)، ودرزيان من جبل الدروز وهما: سليم حاطوم من (ذيبين) وحمد عبيد، وستة من السنة منهم ثلاثة من حوران وهم: موسى الزعبي ومصطفى الحاج علي وأحمد سويداني واثنان من حلب وهما :أمين الحافظ وحسين ملحم وواحد من اللاذقية وهو : محمد رباح الطويل وكان لمعظم أعضاء اللجنة العسكرية أصول قروية وينتمون لعائلات فقيرة(16).
ومؤسسو اللجنة العسكرية وهم خمسة نقيبان حافظ الأسد وعبد الكريم الجندي ورائدان صلاح جديد وأحمد المير ومقدم واحد هو محمد عمران كانوا مشتركين في غريزة قديمة هي الكتمان والتقية التي تتصف بها مجتمعات الأقليات في الشرق الأوسط وكانت خليتهم اللجنة العسكرية أشبه ما تكون بالمحفل الماسوني(17).
بعد 17 نيسان 1963 بدأ الفتور يدب بين البعثيين والناصريين لاسيما التشكيلات في الجيش السوري في غياب بعض القيادات في مصر حيث تم نقل بعض الضباط الناصريين إلى السلك الدبلوماسي أو الوظائف المدنية وإحالة بعضها للتقاعد ما أدى لاستياء القيادات الناصرية المشاركة في مجلس قيادة الثورة وتقديمها لاستقالاتها ورفضها لأي حوارٍ أو مساع حميدة بذلها رئيس الدولة الفريق الأتاسي ورئيس الأركان اللواء الحريري(18). فقاد العقيد جاسم علوان انقلاب 18 تموز 1963 وهي أول محاولة انقلابية في سوريا بعد استلام حزب البعث للحكم في 8 آذار 1963، وبعد فشل انقلابه هذا اعتقل وأقيمت محكمة استثنائية برئاسة اللواء صلاح الضللي حكمت عليه وعلى رفاقه بالإعدام إلا أنه بقي في زنزانته إلى أن تدخل الرئيس المصري جمال عبد الناصر لتخفيف الحكم عنه ونفيه إلى القاهرة. لم يستقر الأمر بين البعثيين , ولم يستقر حكم الرئيس أمين الحافظ , وقد نخرت الطائفية الجيش والسلطة , وبدا أن ثمة فصلاً بين سلطة مدنية غير فاعلة وأخرى عسكرية تهيمن عليها الطائفية تملك القرار طبقًا لما ذكره الدكتور منيف الرزاز، الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث في عام 1965 و 1966 فإن روائح التكتيل الطائفي المقصود بدأت تفوح , وبدأ الحديث عنها أول الأمر همسًا، ثم بدأت الأصوات في الارتفاع حين ظهرت بوادر مادية تسند الاتهام بأن في صراعهم على السلطة استغل العسكريون الروابط الطائفية بشكل يهدف للتسبب في نتائج سلبية للسنيين بالذات وهكذا يبدو أن المعايير الطائفية قد طبقت في تسريح الضباط وضباط الصف الذين دعوا إلى الخدمة في أوائل إنقلاب 8 آذار 1963 حيث تأثر العسكريون السنيون بالذات من جراء هذه التسريحات(19).
وفي 23 شباط 1966 قاد الانقلاب اللواء صلاح جديد وحافظ أسد وبدأت تصفية من كان معهما سابقاً وتكريس حالة طائفية تسيطر على مقدرات الدولة حيث عبر عن ذلك سليم حاطوم : إن الروح الطائفية تنتشر بشكل فاضح في سورية وبخاصة في الجيش سواء بتعيين الضباط وحتى المجندين وإن الفئة الحاكمة تعمد الى تصفية الضباط والفئات المناهضة لها , وتحل مكانهم من اتباعها في مختلف المناصب فقد بلغت نسبة العلويين في الجيش خمسة مقابل واحد من جميع الطوائف الأخرى(20).
وبعد أن تم الأمر للانقلابيين حصلت هزيمة حرب 5 حزيران 1967 واحتلال الجولان من قبل إسرائيل(21) وفي المؤتمر القطري الرابع في أيلول 1968 ظهر الصراع جلياً بين صلاح جديد وبين حافظ الأسد وفي أثناء أحداث أيلول 1970 في الأردن تدخلت القوات السورية بأمر من صلاح جديد، لكنها تعرضت لهجمات الطيران الأردني والإسرائيلي فطلب صلاح جديد من حافظ الأسد إرسال مساندة جوية لكن الأخير رفض فكان أن فشلت العملية، فدعا صلاح جديد إلى مؤتمر طارئ للقيادة القومية في 30 تشرين الأول 1970 لمحاسبة وزير الدفاع اللواء حافظ الأسد ولكنه في 16 تشرين الثاني 1970 قام بانقلاب عسكري اعتقل فيه صلاح جديد وأخرين وسُمي الحركة التصحيحية(22)
ثانياً - التكوين السكاني والديني في سورية :
تعدّ بلاد الشام والعراق أو الهلال الخصيب بلاد جذب حضاري فهي بلاد الحضارات الأولى وقد مرّت على المنطقة عبر تاريخها الطويل مجموعة من الأقوام والغزاة وبنت أهم الحضارات القديمة وحين ننظر إلى المنطقة من خلال البحث اللغوي نجد أن حضارات الشام والعراق كانت حضارات سامية نتيجة الهجرات من شبه الجزيرة العربية وهذا يدل على عربية المنطقة منذ الأزل فما يُعرف باللغات القديمة في المنطقة هي لهجات من اللغة الأم فمقارنة حروف اللغة العربية مع الآرمية والسريانية والعبرية نجد أن عدد الحروف والأصوات لصالح اللغة العربية وهذا يعني أن السامية التي تقسم إلى شمالية وجنوبية هي لهجات من اللغة الأم العربية وليست أخوات كما ذهب بعض الباحثين ومن حيث البنية الجغرافية فإنّ سورية جزء من العتبة العربية(23) .
وقد أوضحنا آنفاً تكوين الدولة السورية الحديثة بحدودها السياسية , وإذا أردنا أن نلقي ضوءاً على التنوع السكاني والديني في سورية فإننا سنجد الآتي : رغم عدم توافر مصادر موثوقة ومعتمدة تحدد بشكل واضح معالم التركيبة السكانية في سورية، إلا أن المعلومات العامة تشير إلى وجود عرب وأكراد وشركس وأرمن وداغستان وتركمان وشيشان وغيرهم, أما من ناحية الأديان والطوائف فتوجد أغلبية مسلمة من السّنة والعلويين والشيعة، والأغلبية هم السّنة ومسيحيون ودروز وأقلية يهودية ويزيدية(24).
وهذا يدل على غنى حضاري يؤكد أن سورية عبر تاريخها كانت بلداً يتمتع بالتسامح وقبول الآخر وهناك اختلاط في غالبية المناطق وليس هناك منطقة لفئة دون أخرى بالمعنى الدقيق للكلمة وإن كانت بعض المناطق ذات أغلبية لطائفة ما فهذا ناتج عن عوامل وأسباب تخص هذه الطائفة أو تلك , وسنستعرض اولاً من حيث العرق والقوميات التي وفدت إلى سورية , والظروف التي دفعت ببعض القوميات للجوء إلى سورية , قبل أن نستعرض التكوين من خلال الدين , والمذهب.
1 - التكوين السكاني :
أ - العرب :
إن سورية من حيث الثقل السكاني عربية في غالبيتها بقطع النظر عن تسميات عرب سنة , وعلويين , ودروز , وشيعة , وإسماعليين , ومسيحيين , فهؤلاء من العرب وبالتالي فإن نسبة العرب تتجاوز 90% من سكان سورية , وهذه يعني أن سورية دولة عربية , وإن سورية من حيث الهوية هي دولة عربية إسلامية بحكم الوقائع، وبخاصة منها الثقافية والحضارية(25)
وكما أسلفنا فإن الوجود العربي في سورية هو الأقدم , وأن الفتوحات الإسلامية توضح أن سكانها قاتلوا إلى جانب الجيش العربي المسلم من منطلق نقاتل مع أبناء جلدتنا وكانوا في غالبيتهم من النصارى , ومن القبائل الوثنية , وأن الناظر إلى الجزيرة العربية يجد أنها تضم الشام والعراق , ولا حدود طبيعية تفصل الجزيرة العربية عن الشام والعراق(26). ويمكن فهم الحالة العربية في سورية من منظورين : الأول أنهم عرب نسباً احتفظوا بأنسابهم وقبائلهم , سواء عاشوا البداوة أو نصف البداوة أو المدنية وهذا نلمسه في المناطق الشمالية والشرقية وجنوب سورية وحواف حماة وحمص والثاني عرب ثقافة , ولساناً حيث اختلطت كثير من الأعراق في المدن السورية , ولم يعد يهتم الناس بالنسب , وهذا يتبدى في المدن الكبرى .
وسنجد أن العرب نسباً يتوزعون كقبائل كبيرة منها ما هو عابر للحدود مرتبط بعلاقة الدم في المحيط العربي , ومنها عشائر تكاد تكون مقتصرة على سورية من حيث الاسم ولكنها تتفرع من قبائل أكبر عربياً(27).
ب - الأكراد :
يُقدر عدد الأكراد في سورية بين 7 - 8% من عدد سكان سورية ويتميز ما بات يُسمى المسألة الكردية في سورية عن المسائل المماثلة في إيران والعراق , وتركيا , إذ نشأت المسألة الكردية أساساً من تحطيم الكماليين لمعاهدة سيفر 1920 وإرغام الدول الكبرى على استبدالها بمعاهدة لوزان 1923 التي صفّت الدولة العثمانية قانونياً(28) والأكراد في سورية ينُظر إلى وجودهم من زاويتين :
الأولى : الأكراد الذين شكلوا عماد جيش صلاح الدين الأيوبي إبان الحروب الصليبية القرن الحادي عشر الميلادي وهؤلاء عاشوا في المدن وانصهروا مع السكان وليس لديهم سوى معرفة الأصل الكردي ويتحدثون العربية بلهجات المدن السورية وقد ذهب كثير من المؤرخين إلى أن صلاح الدين عربي ينتهي إلى هشام بن عبد الملك(29).
والثانية : الأكراد الذين يعيشون في الشمال السوري ولاسيما في منطقة الجزيرة , وحلب والذين حافظوا على لغتهم وتقاليدهم وعاداتهم وقد لعبت عدة عوامل من حيث زيادة عددهم أو تسجيل عدد منهم كـأجانب أو سحب الجنسية السورية منهم ,أو منحهم الجنسية بعد انطلاقة الثورة السورية(30) وكان وراء هجرات العشائر الكردية إلى الجزيرة السورية بسبب تحطيم الكماليين لـمعاهدة سيفر 1920، التي أقرت حقَّ الحكم الذاتي للمناطق التي تسكنها أغلبية كردية وتقع شرق نهر الفرات وجنوب الحدود الأرمنية وشمال سورية بين تركيا والعراق. هذا الحكم الذاتي كان يمكن أن يتطور إلى استقلال تام(31) فبعد أن أنهى الأتراك هذه المعاهدة قامت عدة ثورات كردية في تركيا ولعل أهمها ثورة سعيد رضا 1925 , وسيد بيران 1938 أدت لنزوح عشرات الآلاف من الأكراد نحو سورية التي كانت في حينها تحت الانتداب الفرنسي وقد ازداد عدد سكان الجزيرة، بفعل هذه الهجرات، من بضعة آلاف إلى أكثر من مئة ألف نسمة عام 1937، ثم ارتفع عام 1943 إلى نحو 146 ألف نسمة، ناهيك عن المكتومين من عرب وكرد. وبعد ذلك قفز العدد إلى 316083 ألف نسمة مع موجة الهجرة الثانية بين عامي 1945 و1963، فاعتمدت الحكومات السورية سياسات تقييدية في تسجيل الأكراد، وقامت حكومة العظم بإحصاء استثنائي في محافظة الحسكة في 5 تشرين الأول 1962، اعتُمد مؤشراً أساسياً في تثبيت الجنسية، هو أن يكون الشخص مسجّلاً في قيود الأحوال المدنية قبل عام 1945 وأن يكون مقيماً في سورية منذ ذلك الوقت حتى لحظة إجراء الإحصاء وكانت نتيجة هذا الإحصاء تسجيل 85 ألف مقيم في محافظة الحسكة بصفة أجانب "أتراك" وهو ما يعادل 28% من سكان المحافظة البالغ يومئذ 302 ألف نسمة (32).
وإذا أردنا الدقة في النسبة السكانية الكردية سنجد أنها غير دقيقة فالأعداد الكردية الحالية في الجزيرة السورية تعود في أصولها لمشكلة تركية حيث رفضت تركيا قيام كيان كردي وهذا ما أدى لهجرات كردية باتجاه الجزيرة السورية حيث لم تتوقف الهجرات الكردية من تركيا فقد شهدت مرحلة الوحدة مع مصر 1958- 1961 هجرة جديدة من تركيا نحو سورية قدرت بالألوف نتيجة خراب قرى الأكراد في جنوب الأناضول وبغية الانتفاع من عملية توزيع الأراضي على الفلاحين , وهي الأراضي التي استولت عليها مؤسسة الإصلاح الزراعي , وكانت الشرطة تسلم بعضهم بموجب محاضر ضبط إلى القضاء الذي كان يحكم عليهم بوصفهم مكتومين بشهادة المختار وشاهدين آخرين ولعدم تمييز حكومة الوحدة في توزيع الأرضي المستولى عليها بين فلاح وآخر على أساس قومي , وهذا ما سهل لهؤلاء امتلاك الاراضي الخصبة وهم ليسوا سوريين(33).
وهذا يبين أن طرح ما يسمى كردستان الغربية هو مصطلح غير منطقي ونتيجة لتأثيرات سياسية وإذا ما عدنا لأدبيات الأكراد في تحديد كردستان فإننا نجد أنهم يعرفون أكراد سورية وأرمينيا , وأذربيجان , وجورجيا , وغيرها بوصفهم من الأكراد الذين يعيشون خارج كردستان(34).
ج - التركمان :
أكدت غالبية الدراسات أن قبائل التركمان قد وصلوا بلاد الشام , والمنطقة عموماً قبل العثمانيين بقرون , وأنّ التركمان في سورية قد استعرب قسم كبير منهم , واندمجوا في المجتمع السوري , لاسيما في دمشق , وحمص , وحماة , ومنهم عائلات عريقة , وشهيرة في سورية , وهناك قسم آخر قد حافظ على لغته وعاداته , ولا يوجد إحصاء رسمي لعدد التركمان , ولكن تشير بعض التقديرات أنهم يشكلون نحو 3% من سكان سورية , وهم مسلمون سنة ، و يتوزع تركمان سوريا في سوريا بين القرى والمدن وأهم تجمعاتهم في حلب ودمشق واللاذقية وحمص حيث يوجد فيها باب اسمه باب التركمان, وفي دمشق يوجد حي ساروجة نسبة للقائد المملوكي التركي صارم الدين صاروجة، وفي حلب يتركز التركمان في القرى الشمالية لمدينة حلب.
ويقسم التركمان السوريون إلى قسمين:
1 - تركمان المدن : وهم من العائلات التركية التي تمتد جذورها إلى السلالات التركية التي وجدت في سوريا منذ قدوم السلاجقة ومن ثم المماليك والعثمانين وبعض هذه العائلات التركمانية قدمت كموظفين في عهد الدولة العثمانية أو في الجيش العثماني. ومن هذه العائلات: عائلة قباني ومردم بك, وغيرهم.
ولا يجوز تعميم صفة تركمان (أوغوز) على هذه العائلات فالبعض من عائلات المدينة أتراك من التتر أو الأيغور أو الأوزبك أي ليسوا من الغز مثل عائلة البخاري في دمشق و العائلات التركية في حي ساروجة.
وبحسب كتاب الدكتور فاروق سومر ترافق اسم التركمان مع قبائل الأغوز لذلك لا يجوز إطلاق هذا الصفة على كل الأتراك.
2 - تركمان القرى: خليط من عشائر تركمانية (تعود بأصلها إلى قبائل الأوغوزوجميع القرى التركمانية في سوريا من الأغوز(35).
د - الشركس :
كان وصول الشركس إلى سورية في القرن التاسع عشر نتيجة الاحتلال الروسي للقفقاس والقضاء على ثورة الشيخ شامل وبدأ حرب الإبادة ضدهم , وتذهب بعض التقديرات إلى أن الشركس يشكلون أقل من 1% من الشعب السوري وربما أقل من نصف في المئة وقد اندمج هؤلاء في المجتمع السوري وقد ظهر منهم شخصيات سياسية وعسكرية , وثقافية وقد هاجر الشركس من شمال القفقاس إلى تركيا في الثلث الثالث من القرن التاسع عشر وهنالك مجموعات هاجرت بعد إقامة مؤقتة في تركيا باتجاه بلاد الشام تحت شعار شام شريف. كل القفقاسيين المهاجرين هم من المسلمين والشركس ينتمون تاريخياً إلى أكثر من عرق وكل عرق يتكلم لغة مختلفة تماماً عن الآخر وليس لهجات(36).
والشركس في سورية يعدون نحو 150 ألف نسمة يتوزعون جغرافياً على محافظات القنيطرة وحمص وحلب وبعض الريف الدمشقي قدسيا- الكسوة- مرج السلطان والجزيرة(37) وقد بدأ عددهم بالتناقص مع بدء الثورة السورية , وقد عاد قسم منهم إلى موطنه الأصلي .
ه - الأرمن :
وفد الأرمن كموجات بشرية إلى سورية مع الحرب العالمية الأولى في أعقاب العنف المتبادل بين الأرمن , والسلطة العثمانية 1915 إبان سيطرة حزب الإتحاد والترقي على السلطة , وكانت الدول الغربية وعلى رأسها فرنسا، وعدت المتطرفين الأرمن، بمنحهم دولة ووطنًا قوميًا في الأناضول أثناء حربهم ضد الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، كما حاربوا إلى جوار الروس ضد القوات العثمانية التي كانت تسعى إلى مساعدة مسلمي القوقاز ممن تعرضوا في غالبيتهم إلى التهجير(38).
ويذكر الباحث التركي كوركجو أوغلو مدير مركز أبحاث العلاقات التركية الأرمنية بجامعة أتاتورك أن المجازر كانت بحق المسلمين على يد العصابات الأرمنية وأوضح أن الجانب التركي، قدم تقريرا خلال مؤتمر باريس عام 1919، يظهر مقتل 519 ألف شخص على يد العصابات الأرمنية، ويستعرض أسماء القرى والبلدات، والمناطق التي شهدت المجازر، مشيرا أن ولاية أرضروم تاتي في مقدمة المناطق من حيث عدد الضحايا، حسب المعطيات المتوفرة(39).
وهذا لا ينفي تعرض الأرمن لعمليات انتقامية تركية , ويعد الأرمن أن ما حدث لهم مجازر وحرب إبادة , ويقدرون ذلك بنحو مليون أرمني , وإذا أمعنا النظر بتلك الأرقام نجد مبالغة فيها حيث وفد الأرمن إلى المنطقة ولا سيما سورية , ولقوا معاملة متفردة من قبل سكان سورية , ولاسيما منطقة الجزيرة الفراتية وحلب , وكانت سورية وقتها ولاية عثمانية , يقدر عدد الأرمن في سورية بنحو مئة ألف وغالبيهم من أتباع كنيسة الأرمن الأرثوذكس، مع أقلية من الأرمن الكاثوليك والإنجيليين, وهم يتوزعون في حلب , ودمشق , والساحل ولاسيما مدينة كسب , والجزيرة الفراتية , وقد تمت مصاهرات عديدة بين العرب والأرمن لاسيما في الجزيرة السورية إبان هجرة الأرمن , ولا سيما مدينة ديرالزور ,فقد تزوج كثير من الشباب من نساء أرمنيات دون إجبارهن على تغيير دينهن , ويوجد في مدينة ديرالزور كنيسة شهداء الأرمن حيث يحج إليها الأرمن سنوياً من كل مكان في العالم .
و- الآشوريون والكلدان والسريان :
أثبتت الدراسات الحديثة أن الأشوريين أو الآثوريين لا علاقة لهم بالآشوريين أو الكلدان والحضارة الآشورية والحضارة الكلدانية اللتان سقطتا وتلاشتا على التوالي 612 ق.م و 539 ق . م , وإنما نتيجة قومنة الوجود المسيحي في الموصل وإغراء فرنسا لهم باحتلال الجزيرة الفراتية ديرالزور كما رسم لهم ذلك غورو 1920 بصناعة كيان مسيحي كردي في الجزيرة السورية(40).
وبعودة تاريخية سريعة نجد أن سكان جبال وقرى ومدن الجزء الشمالي الشرقي من العراق , وامتداداتها في إيران والأناضول اعتنقوا الديانة المسيحية بمذهب يدعي النسطورية نسبة إلى الأسقف نسطوريوس أسقف القسطنطينية الذي أسس المذهب 431م بعد حرمانه وطرده من الكنيسة الكاثوليكية الجامعة , وفي القرن الخامس عشر , قامت الكنبسة الكاثوليكية بجهد كبير بغية تحويلهم إلى الكاثوليكية , ولتمييزهم أطلقوا عليهم كلدان وذلك باعتبارهم من أرض بابل الكلدية وليس لأنهم من سلالة الكلديين المنقرضة إذا هي لا تعدو مجرد تسمية للتعريف جغرافياً(41).
أما تسمية الآشوريين فإنه في آواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ظهر مطران مسيحي كلداني - كاثوليكي واسمه المطران أدي شير ومؤلفه القيم الموسوم كلدو - اثور, من عندها ابتدات هذه الأقوام تداول المصطلح اثور كنوع من تأسيس لهوية تحفظ لهم كينونتهم, اشتد الضغط على الاقليات العرقية والدينية واضطهاد الترك والكرد للأقليات بسبب اندلاع الحرب العالمية الاولى وحصول واقعة مذابح الأرمن بعد 1915 بسبب موقفهم المناويء للدولة العثمانية حينها و مساندتهم لروسيا القيصرية ما عد حينها صراعاً (عسكري- ديني) انسحب الأمر على جميع المكونات المعتنقة للديانة المسيحية في العراق حينها واخذ كل مذهب يحاول تأسيس هوية معينة للتعريف والتميز والحفاظ على كينوته من الضياع والانقراض ووجد النساطرة ضالتهم بالتسمية التي اطلقها المطران أدي شير عليهم الاثوريون(42).
أدت الاضطرابات بين الأكراد المدعومين من الدولة العثمانية والآثوريين والكلدانيين المدعومين من بريطانيا وفرنسا 1915 إلى هجرة واسعة وبنهاية الحرب العالمية الأولى أضحى معظم الآشوريين والكلدان نازحين بالعراق بينما نزح ما تبقى من السريان إلى سورية ولبنان. وخلال العشرينيات التحق العديد من آشوريي حكاري باللواء العسكري - الليفي - الذي أنشأه البريطانيون في العراق، وكثرت المشاحنات بينهم وبين الجيش العراقي المنشأ حديثا والذي اعتمد على ضباط خدموا في الجيش العثماني ما أدى إلى انعدام الثقة بين الطرفين. وبعد استقلال العراق سنة 1933 سرت إشاعات أن الآشوريين الذين استوطنوا في السهل الواقع بين دهوك وسهل نينوى يسعون للانفصال من العراق فنفي بطريرك كنيسة المشرق الآشورية إلى قبرص وقام بكر صدقي أحد الضباط بالجيش العراقي بالتعاون مع عشائر كردية بالهجوم على تلك المناطق وتدمير القرى الآشورية فيها وكان أهمها في 7 آب 1933 عندما هوجمت بلدة سميل ما أدى إلى نزوح ثلث سكان سهل نينوى الآشوريين إلى شمال غرب سوريا حيث أسسوا 35 قرية على ضفاف نهر الخابور قرب الحدود مع تركيا(43).
وبعد أن فشل الآشوريون في الحصول على نينوى، قدموا للانكليز مطلباً بديلا عن الحكم الذاتي وهو ان يُمنح البطريرك الآشوري مار شمعون سلطات سياسية في الدولة العراقية، هذا الطلب رُفض من قبل الانكليز والحكومة العراقية. بعدها كان هناك مقترحات بأن يتم نقل اللاجئيين الآشوريين من تركيا وإيران إلى خارج العراق واستيطانهم في غويانا الانكليزية او في النيجر او البرازيل. لكن وبعد مباحثات مستفيضة بين بريطانيا وفرنسا من جهة وعصبة الامم من جهة اخرى، تم تمرير قرار من قبل بريطانيا بان يتم توطين وإسكان اللاجئين الآشوريين في شمال سوريا وشمال العراق في الجزيرة بين نهري دجلة والفرات وعلى ضفاف نهر الخابور(44).
الأيزيديون :
يتمركزون في الجزيرة السورية , ويقدر تعداهم بنحو 20 ألفاً , ويرجع بعض الباحثين أصولهم إلى القومية الكردية , وهناك من يرجعهم لأصل فارسي , وهم لا علاقة لهم بالخليفة الأموي الثاني يزيد بن أبي سفيان كما يتردد , أو حتى بمدينة يزد في فارس، بل هي مشتقة من الكلمة الفارسية "إيزيد" والتي تعني الملاك أو الإله(45).
2 - التكوين الديني والمذهبي :
سورية بلد جذب حضاري حيث إنها موطنٌ للأديان القديمة والديانات السماوية فهي تعد من حواضن المسيحية وكذلك سكنها اليهود ثم كانت أولى البلاد فتحاً بعد استقرار الدين الإسلامي وقيام الخلافة الراشدة , وباتت بعد الخلافة الراشدة مركزاً للخلافة الأموية , ومنها انطلقت جيوش الفتح حتى وصلت حدود فرنسا .
أ - المسلمون :
1 - السنة :
يشكل المسلمون الأغلبية ويعد المسلمون السنة في الصدارة من حيث العدد , وحين نقول السنة فإننا نشمل العرب السنة ومعهم الأكراد والتركمان والشركس فكلهم من أهل السنة , وأكثر مذهبين انتشاراً المذهب الشافعي , والحنفي , في حين ينحصر الحنبلي ببعض مدن الغوطة , ولاسيما دوما , في حين يكاد يتلاشى المذهب المالكي , وتقدر نسبة السنة بنحو 85%(46)
2 - الشيعة :
هناك خلط مقصود في تقدير عدد الشيعة في سورية حيث يُلحق بعض الباحثين عن جهل أو علم النصيرية العلويين بالشيعة وهناك من يُلحق الدروز أيضاً بالشيعة فتبدو الأرقام كبيرة وهذا خطأ بحثي وعقدي وهناك من لا يحسن التفريق بين الشيعة الاسماعيلية , والشيعة الإثني عشرية , وهذا ما سنبينه في بحث كل طائفة على حدة , مع التفريق بين الشيعة الموجودين على الأرض السورية , وبين المتشيعين من السنة والعلويين وبقية الطوائف , كذلك الشيعة القادمين من العراق , وإيران , ومناطق أخرى , واستوطنوا في سورية .
لم يظهر التشيع في دمشق كواقع اجتماعي إلا من خلال أسر معدودة , مثل (اللحّام , والنوري , والروماني , وسعد , والمرتضى , ونظام , وبيضون , ونحاس..) وغالبية هؤلاء كانوا في حي الأمين حيث افتتح لأبنائهم رجل الدين الشيعي محسن الأمين العاملي 1925, المدرسة المحسنية , ويتوزع الشيعة في حي الأمين والجورة قرب الأموي ، في حي يفصل حي اليهود عن حي النصارى ، وفي حي زين العابدين بالمهاجرين ، وفي الغوطة قرية عين ترما وقرية راوية ، وهذه دخلها التشيع من القرن الثامن الهجري ، وقرية نبل حلب، والفوعة ادلب، وحي البياضة بمدينة حمص، وقرية أم العمد ويسمون المتاولة أو الأرفاض وكانت نسبتهم عام 1953 4ر0% فقط (47)
وفي الثورة السورية استعان النظام بمليشيات شيعية من خارج سورية , تقاتل إلى جانبه , وتم تجنيس أعداد هائلة من الشيعة الإيرانيين , والعراقيين ,وكذلك بيع أراضٍ وأملاك لهم في دمشق .
وفد لعبت عدة عوامل في ظهور حالة التشيع , منها سياسية , واجتماعية , واقتصادية , فالمزاج السياسي العام للنظام كان في تحالف مع إيران الخمينية منذ قيام ثورة الخميني , ولا ننسى أن حافظ أسد أخذ شرعية حكم سورية بعد انقلابه من خلال فتوى دينية من موسى الصدر في عام 1973 أن النصيرية جزء من الإثني عشرية , وهذا يعني أن حافظ أسد يدين بالمذهب الشيعي , رغم محاولة حافظ أسد أن يظهر كزعيم قومي علماني , ولعل أول محاولة لنشر التشيع يشرف عليها النظام كانت من خلال جمعية المرتضى التي أنشأها جميل الأسد 1981 لنشر التشيع بين النصيرية , وسكان بادية حمص وحماة , ومن ثم قام بحلها بضغط من حافظ أسد في عام 1984 وقيل إن سبب حل الجمعية أن جميل الأسد أيد رفعت الأسد في محاولة الانقلاب على حافظ .
وقد فتح النظام الأبواب للعراقيين الشيعة إبان الحرب العراقية الإيرانية التي وقف فيها النظام إلى جانب إيران , كذلك سهل لإيران الهيمنة على مقامات تُنسب لآل البيت أو اختراع مقامات في الأراضي السورية .
وقد لعبت الظروف الاقتصادية السيئة للمواطن السوري دوراً مهماً في تقبل التشيع من خلال أعطيات مالية كانت تشرف عليها السفارة الإيرانية في دمشق , وكذلك الانتشار الهائل للمطبوعات الشيعية التي كانت تُقدم مجانا أو بأسعار رمزية من خلال الملحقية الثقافية , وفتح التلفزيون السوري لأحد معممي الشيعة ليقدم برامج دينية عبد الحميد المهاجر , وفي عهد بشار الأسد بدأت تنتشر الحسينيات علناً في المدن والأرياف , وقد ساعدت المخابرات السورية بذلك , وكان من مؤيدي نشر التشيع المفتي أحمد حسون الذي لم يخف تشيعه .
وثمة أسباب اجتماعية , وقد تمّ ذلك من خلال التواصل مع القبائل التي تنُسب أو تحسب على النسب الشريف , وقد كان التواصل عن طريق وعاظ معممين من عراقيين , وإيرانيين .
وقد انبهر البسطاء بالانتصارات الوهمية لحزب الله في لبنان , وشعار المقاومة ضد إسرائيل .
ولا توجد أرقام دقيقة لنسبة المتشيعين , ولكنها تقدر بـ 80 ألفاً من العلويين والسنة والإسماعيليين وهي الآتية :
نسبة المتشيعة السَّنة هي 21 %، ونسبة المتشيعة الإسماعيلية هي 9% ونسبة المتشيعة العلويين هي 70%، أي أن نسبة المتشيعة السُّنة تحتل الدرجة الثانية، وتمثل قرابة ثلث عدد المتشيعة العلويين، وأكثر من ضعف المتشيعين الإسماعيليين(48).
أ - العلويون :
العلويون هو اسم حديث أطلقته فرنسا عليهم , وهم تاريخياً معروفون باسم النصيرية, ومؤسس هذه الفرقة هو أبو شعيب محمد بن نصير النميري البصري المتوفي عام 260 هـ الذي عاش في العراق , وادعى أنه الباب للإمام الحادي عشر الحسن العسكري وهو الذي جمع عقائد الفرق الشيعية المتطرفة ليصوغ منها المعتقدات النصيرية التي اتسمت بالسرية وأهمها تأليه الصحابي علي بن أبي طالب والقول بالتناسخ وتأويل كل الأوامر الشرعية بأن لها باطناً يخرجها عن مفهومها الشرعي، وجاء بعده محمد الجنبلاني الذي رحل من إيران إلى مصر وهناك تبعه الحسين بن حمدان الخصيبي الذي حاول نشر مبادئ هذه الفرقة عندما استقر في حلب أيام الدولة الحمدانية(49).
وتذهب بعض التقديرات إلى أن نسبتهم في سورية في أعلى تقدير نحو 11% وحقيقة لو عدنا لما ذكرناه آنفاً من تشيع حصل في هذه الطائفة , إضافة لمجيء أعداد منهم من لواء اسكندرون بعد أن ضمته تركيا , نجد أن النسبة غير دقيقة , وفي أفضل حالاتها لا تزيد عن 9% .
والنصيرية في أدبياتهم لا يقرون بانتمائهم للدين الإسلامي(50). , ومن الصعوبة أن يبوحوا بمعتقداتهم , ومن يفعل ذلك قد يكلفه حياته كما حصل مع صاحب الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية سليمان أفندي الأذني، أو كما يصف بعض مثقفي الطائفة أن العلوية ليست تتبع السنة أو الشيعة و وقد عبر عن ذلك آفاق أحمد أحد المنشقين عن النظام : بأن العلوية ليست ديناً بل تيار فلسفي , والعلويون ليسوا شيعة لا سياسياً ولا دينياً(51).
وتعد الفرقة النصيرية مكفرة عند الشيعة الأمامية وذلك بفتوى المجلسي في بحار الأنوار(52) , وغالبية كتب الشيعة , ويتوزع العلويون في جبال الساحل السوري , وقرى سهل الغاب , وحمص .
وهناك من العلويين فرقة انشقت عنها إبان الاحتلال الفرنسي , وتعرف بالمرشدية ,أو اتباع سلمان المرشد الذي أعدمه الحكم الوطني في 1946 , وقد كان قبل ذلك عضواً في البرلمان السوري , واتباع هذه الفرقة تعد بالآلاف(53).
ب - الإسماعيليون :
تعد الاسماعيلية ثاني اكبر جمهور الشيعة بعد الاثني عشرية, ولعل معظم جمهور الاسماعيلية يتركز في شبه القارة الهندية، سورية، العربية السعودية، اليمن، وشرق القارة الافريقية, وفي الآونة الاخيرة، انتشرت الاسماعيلية في القارة الاوروبية وأمريكا الشمالية نتيجة هجرات الاسماعيليين لتلك الأماكن وتشترك الاسماعيلية مع الاثنا عشرية بمفهوم الأئمة المنحدرين من النبي صلى الله عليه وسلم ، وابنته فاطمة رضي الله عنها , ولكن انشق الاسماعيليون عن جمهور الشيعة الاثنا عشرية عند الامام السادس جعفر الصادق ومن سيخلفه من ابنائه, فجنح الاسماعيليون مع ابن جعفر الصادق الأكبر اسماعيل بينما تبنى الاثنا عشريون ابنه الأصغر موسى الكاظم.
وهناك من يقدر عدد الإسماعليين في سورية بـ 1% وهذا لا يتسق مع الواقع , فهم يقيمون في مدينة سلمية , التابعة التابعة لمحافظة حماة(54), وهي مدينة صغيرة ذات غالبية إسماعيلية , ويقدر عدد سكانها بنحو مئة وستة آلاف , وجزء في مصياف وكما أسلفنا فإن كثيراً من أتباع الاسماعلية تسنن أو تشيع .
ج – الدروز :
هي فرقة باطنية تؤلِّه الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله ، أخذت جل عقائدها من الإسماعيلية، وهي تنتسب إلى نشتكين الدرزي، نشأت في مصر لكنها لم تلبث أن هاجرت إلى الشام، عقائدها خليط من عدة أديان وأفكار ، كما أنها تؤمن بسرية أفكارها ، فلا تنشرها على الناس ، ولا تعلمها لأبنائها إلا إذا بلغوا سن الأربعين .
وقد كان للدروز دور مشرف في الثورة السورية الكبرى 1925 , وبرز منهم سلطان باشا الأطرش قائد الثورة ، كذلك لم يقبل الدروز الانفصال عن سورية ، وبعد الاستقلال رفض الدروز أن يشملهم قانون الأحوال الشخصية المستمد من المذهب الحنفي , وقد تمّ لهم أن تكون معاملاتهم حسب معتقداتهم أسوة بالمسيحيين(55).
يعيش غالبية الدروز في محافظة السويداء , وفي الجولان المحتل , وفي بعض مناطق ريف دمشق كـ جرمانا , وصحنايا , وبعض قرى إدلب ، وقد تناقص عدد الدروز كثيراً بسبب الهجرة إلى الأمريكيتين , وعدة دول غربية , يُقدر عدد الدروز بـ 121 ألفاً(56).
ب - المسيحيون :
تعد بلاد الشام الموطن الأول للمسيحية , ومهد السيد المسيح عليه السلام , وسورية الجزء الأكبر من بلاد الشام تعد إحدى حواضن المسيحية عبر التاريخ , ولا يمكن دراسة التاريخ المسيحي بمعزل عنها , ونستطيع أن نقول : إن غالبية أبنائها قد تحولوا إلى المسيحية لأمرين : الأول لكون بلاد الشام هي مهد المسيح وما زال سكان معلولا يتكلمون لغة السيد المسيح –الآرامية - إلى الآن .
والثاني لاعتناق الامبراطورية الرومانية الديانة المسيجية واعتبارها ديناً رسمياً لها , حيث اعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين الديانة المسيحية 306 – 337 م، وسورية كانت تحت الاحتلال الروماني حتى الفتح الإسلامي .
ورغم ما تعرضت له العقيدة المسيحية من تغيير ودخول عقائد الروم إليها بعد أن اتخذها الروم ديانة , إلاّ أنّ الصبغة العامة لبلاد الشام , وبقية أجزاء الامبراطورية الرومانية كانت تدين بذلك , وقد دخل عرب سورية في تلك الديانة , ومنها إمارة الغساسنة , وكذلك قبيلة تغلب , وطيء , وكثير من القبائل العربية , وقد قاتل قسم كبير من القبائل العربية إلى جانب جيش الفتح الإسلامي , وقد تأثر السوريون عامة والدمشقيون خاصة بديانات الدول التي احتلتهم. ففي البدء غلبت الديانات الوثنية مع بعض التجمعات السكانية التي آمنت بالديانة اليهودية ومن ثم المسيحية إلى أن اعتنقت الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية حيث بدأت المسيحية بالإنتشار الواسع, وبعد انقسام الإمبراطورية في القرن السادس للميلاد بقيت الكنيسة تتبع ديانة البيزنطيين الذين ورثوا حكم بلاد الشام(57).
وفي الفتح الإسلامي لم يجبر المسلمون السكان على تغيير دينهم , وقد لعب نصارى الشام دوراً بارزاً في الإدارة , والمالية , في دواوين ولاية الشام لاتقانهم اللغة الرومية ,حتى تمّ التعريب زمن عبد الملك بن مروان .
وعبر تاريخ طويل ظل الوجود المسيحي هو الثاني بعد الإسلامي , وكانت العلاقة تمتاز بالود بين أصحاب الديانتين , ولم يُسجل صدام بينهما مطلقاً , ولكن ثمة محطتين مهمتين يمكن التوقف أمامهما : الأولى الامتيازات الأوربية , وحماية الأقليات المسيحية وقبول السلطنة العثمانية بالمساواة بين المواطنين(58). والثانية اضطرابات دمشق عام 1860(59).
بدأ تناقص عدد المسيحيين في سورية , منذ نهاية القرن التاسع عشر , وبداية القرن العشرين نتيجة الهجرة للأمريكتين , ولم تقتصر الهجرة على المسيحيين بل شملت أيضاً المسلمين , وعندما احتلت فرنسا سورية كان تُقدر نسبة المسيحيين بنحو 20% , في حين قُدرت نسبة المسيحيين حتى انطلاق الثورة السورية أقل من 10% ، وبعض الدراسات تقدرهم بـ 8% , وهذه النسبة تشمل المسيحيين بكل فئاتهم العربية وغير العربية ومذاهبهم , ومسيحيو سورية متنوعون طائفياً فهناك الروم الأرثوذكس , وهم الأغلبية ، يليهم السريان الأرثوذكس ، والروم الكاثوليك مع وجود جماعات مختلفة من اللاتين والبروتستانت , والموارنة والكلدان والآشوريين والسريان الكاثوليك والأرمن، وتحوي حلب وحدها عشر أبرشيات في حين تعدّ دمشق كرسي بطريركي ومقرًا لثلاث كنائس على مستوى العالم هم بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس ,وبطريركية أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس,وبطريركية أنطاكية والقدس والإسكندرية للروم الملكيين الكاثوليك، وأغلب مسيحيي سورية على تنوّع مشاربهم يتكلمون العربية، مع بعض الاستثناءات المتعلقة بمنطقة معلولا مثلاً حيث تستخدم الآرامية , وبعض قرى الجزيرة حيث تستخدم السريانية.ويشكل الروم الارثوذكس الغالبية ,وهم يتوزعون على كافة المناطق السورية(60).
ج - اليهود : قلّ عددهم كثيراً سواء بعد 1948 أو بعد سماح حافظ أسد لهم بالهجرة عام 1992 , وكانوا جزءاً من النسيج الاجتماعي السوري , لا يوجد إحصاء رسمي لعددهم , وإن هناك تقديرات أنهم بالمئات , وقبل هجرة اليهود كانوا ينتشرون في المدن السورية بأحياء تُنسب لهم(61).
ثالثاً - حافظ أسد وتكريس الطائفية السياسية :
رغم أن حافظ أسد كان ينتمي إلى حزب البعث العربي الاشتراكي القومي التوجه إلاّ أنه يعد من أهم من كرس الطائفية في الجيش قبل أن يصل إلى السلطة , فقد أثبتت الأحداث أنه يعمل بغريزته الطائفية , فقد عمل الأسد ورفقاؤه في اللجنة العسكرية, على علونة البعث , وعلونة السلطة , وقد بدأت عمليات تطييف الجيش والبعث منذ انقلاب 8 آذار 1963 , واشتد مع تسلم الأسد لوزارة الدفاع في عهد نور الدين الأتاسي 1966 - 1970 , وبلغت ذروتها بعد انقلاب الأسد , حيث بدأ بإزاحة السنة من الجيش , والسلطة , ويفجر أسوأ أحداث شهدتها سورية بين عامي 1978 - 1982(62).
ولعل المأزق الذي تعرض له بعد انقلابه في 16- 11- 1970 هو الانتماء للطائفة النصيرية , وكان يبحث عن حلّ جذري حتى لا يتعارض مع المادة الثالثة لدستور البلاد في أن يكون دين رئيس الجمهورية الإسلام , وقد سعى للحصول على فتاوى من شيوخ الشيعة في لبنان وإيران لاعتبار العلويين طائفة من الشيعة لوجود مادة في الدستور السوري - حاول الأسد حذفها لكنه لم يفلح - تنص على أن دين رئيس الدولة الإسلام، حيث أن أهل السنة والشيعة الإثنى عشرية لا يَعتبرون العلويين الذين ينتمي إليهم الأسد مسلمين ، وسرعان ما لجأ الأسد إلى رجل الدين الشيعي الإمام موسى الصدر، فأصدر له في تموز 1973، فتوى تقول بأن العلويين مسلمون، وهم طائفة من الشيعة(63).
واعتمد حافظ الأسد على الأسرة والطائفة لكي يثبت أركان حكمه فقد اعطى مناصب عسكرية ومدنية لأخوته , وانسبائه , قبل أن يبدأ فيما بعد بإعداد أولاده لتوريث الحكم , ويذكر باتريك سيل أن والد حافظ أسد تزوج مرتين وأنجب ما يزيد على أحد عشر من البنين والبنات ، وكان حافظ الابن الرابع من الزوجة الثانية ناعسة ، ولعل من عُرف بالحيا&