كتاب : معجز أحمد أبو العلاء المعري
ألف
خاص ألف
2018-06-23
العراقيات الأولى
قال أبو الطيب أحمد بن الحسين الكوفي الجعفي رحمه الله وهو أول شعر قاله في صباه
أبلى الهوى أسفاً يوم النوى بدني ... وفرق الهجر بين الجفن والوسن
يقال بلى الثوب يبلى بلى وبلاء. وأبلاه غيره إبلاء. والأسف: شدة الحزن. يقال: أسف يأسف أسفاً فهو آسف وأسيف، ومعنى إبلاء الهوى البدن: إذهاب لحمة وقوته، بما يورد عليه من شدائد. وخص يوم النوى، لأن برح الهوى إنما يشتد عند الفراق، والهوى عذب مع الوصال سم مع الفراق كما قال السرى الرفاء:
وأرى الصبابة أريةً ما لم يشب ... يوماً حلاوتها الفراق بصابه
وانتصب أسفاً على المصدر، ودل على فعله ما تقدمه من قوله: أبلى الهوى لأن إبلاء الهوى بدنه يدل على أسفه، فكأنه قال: أسفت أسفاً، ومثله كثير في التنزيل؛ كقوله تعالى: " صنع الله الذي أتقن كل شيء " ، ويوم النوى: ظرف للإبلاء، ومعموله. ويجوز أن يكون معموله المصدر الذي هو أسفاً.
والمعنى يقول: أدى الهوى بدني إلى الأسف، والهزال، يوم الفراق، وبعد الهجر من الحبيب؛ بين جفني والنوم. أي: لم أجد بعده نوماً ولا راحة.
روحٌ تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
يقول: روح تردد: أي تجيء وتذهب، في بدنٍ مثل الخلال في النحول والدقة والهزال، بحيث إذا طيرت الريح عنه الثوب لم يظهر ذلك البدن لدقته. أي: إنما يرى لما عليه من الثوب، فإذا ذهب الثوب فهو لا يرى. ومثل الخلال صفة للموصوف المحذوف، تقديره: في بدنٍ مثل الخلال.
وأقرأني أبو الفضل العروضي: في مثل الخيال؛ وقال: أقرأني أبو بكر الشعراني خادم المتنبي: في مثل الخيال وقال: ولم أسمع الخلال، وما دونه من البيت يدل على صحة هذا، وإن الوأواء الدمشقي سمع هذا البيت فأخذه وقال:
وما أبقى الهوى والشوق مني ... سوى روح تردد في خيال
خفيت على النوائب أن تراني ... كأن الروح مني في محال
كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
يقول: كفاني نحولاً كوني رجلاً، لو لم أتكلم لم يقع علي البصر، أي إنما يستدل علي بصوتي، كما قال أبو بكر الصنوبري:
ذبت حتى ما يستدل على أني حي ... ي إلا ببعض الكلام
وأصل هذا المعنى قول الأول:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
والباء في بجسمي زائدة، تزاد مع الكفاية عنها؛ في الفاعل كثيراً كقوله تعالى: " وكفى بالله شهيداً " " وكفى بك على هؤلاء شهيداً " " وكفى بربك هادياً ونصيراً " وتزاد مع المفعول أيضاً كقول بعض الأنصار
وكفى بنا فضلاً على من غيرنا ... حب النبي محمدٍ إيانا
معناه كفانا فضلاً، فزاد الباء وقد قال أبو الطيب
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا
فزاد في المفعول في قوله: بجسمي لما ذكرنا وانتصب نحولاً، على التميير، لأن المعنى كفى جسمي من النحول.
وقال يمدح محمد بن عبيد الله العلوي:
أهلاً بدارٍ سباك أغيدها ... أبعد ما بان عنك خردها
الأغيد: الناعم البدن، وجمعه غيدٌ وأراد هاهنا، جارية، وذكر اللفظ، لأنه عنى الشخص، والخرد جمع الخريدة وهي: البكر التي لم تمس. ويقال أيضاً: خرد بالتخفيف، وفي قوله: أبعد أوجهٌ ورواياتٌ، والذي عليه أكثر الناس الاستفهام، وفيه ضربان من الفساد: أحدهما في اللفظ والثاني في المعنى، والذي في اللفظ من الفساد هو: أن تمام الكلام يتعلق بالبيت الذي بعده، وذلك عيب عند الرواة يسمونه المضمن والمبتور، ومثله:
لا صلح بيني فاعلموه ولا ... بينكم ما حملت عاتقي
سيفي وما كنا بنجد وما ... قرقر قمر الواد بالشاهق
والضرب الثاني من الفساد؛ في المعنى، وهو أنه إذا قال: أبعد فراقهم تهتم وتحزن؟ كان محالاً من الكلام، والرواية الصحيحة: أبعد ما بان بضم الدال.
يقول: أبعد شيء فارقك جواري هذه الدار. وروى قوم، أبعد ما بان بفتح الدال، على أنه حال من الأغيد والعامل في الحال سباك أي: سباك أغيدها أبعد ما بان عنك، وخردها بدل من الأغيد وهذا من العجب، أي أن السابي يسبي وهو بعيد.
ومعناه أنه أسرك بحبه، وهو على البعد منك، وانتصب أهلاً بفعل مضمر تقديره: جعل الله تعالى أهلاً بتلك الدار؛ لتكون مأهولة؛ أي ذات أهلٍ؛ وإنما تكون مأهولة إذا سقيت الغيث فأنبتت الكلأ، فيعود إليها أهلها، وهو في الحقيقة دعاء لها بالسقيا.
ظلت بها تنطوي على كبدٍ ... نضيجةٍ فوق خلبها يدها
يريد ظللت، فحذف أحد اللامين تخفيفاً كقوله تعالى: " فظلتم تفكهون " .
يقول: ظللت، بتلك الدار تنثني على كبدك واضعاً يدك فوق خلبها، والمحزون يفعل ذلك كثيراً لما يجد في قلبه من حرارة الوجد يخاف على كبده أن ينشق، وهذا كما قال غيره:
عشية أثنى البرد ثم ألوثه ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدعا
وقال آخر:
لما رأوهم لم يحسوا مدركاً ... وضعوا أناملهم على الأكباد
والانطواء كالانثناء، والنضج لليد، ولكن جرى نعتاً للكبد في الإعراب لإضافة اليد إليها كقوله تعالى: " من هذه القرية الظلم أهلها " فإن الظلم للأهل، وجرى صفة للقرية.
والمعنى: التي ظلم أهلها، وهذا كما تقول مررت بامرأة كريمةٍ جاريتها، تصفها بكرم الجارية، وجعل اليد نضيجة لأنه أدام وضعها على الكبد فأنضجتها بما فيها من الحرارة، ولهذا جاز إضافتها إلى الكبد، والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا طالت صحبته إياه كقولهم لفناء الدار: العذرة، وللمطمئن من الأرض: الغائط. وإذا جاز تسميته باسم ما يصحبه كانت الإضافة أهون ولطول وضع يده على الكبد أضافها إليه، كأنها للكبد لما لم تر إلا عليها، والخلب: غشاء للكبد رقيق لاصق بها، وارتفع يدها بنضيجة، وهو اسم فاعل يعمل عمل الفعل كما تقول: مررت بامرأةٍ كريمةٍ جاريتها، ويجوز أن تكون النضيجة من صفة الكبد، فيتم الكلام ثم ذكر وضع اليد على الكبد، والأول أولى.
يا حاديي عيرها وأحسبني ... أوجد ميتاً قبيل أفقدها
روى: عيرها وعيسها وهي أحسنها لأن العير: هي التي تحمل النساء، والعيس: هي الإبل البيض التي تعلو بياضها شقرة: والهاء في عيرها للمحبوبة وأحسبني: أي أظنني، والفقد: العدم، وقوله: أفقدها، الأصل فيه النصب؛ لأنه أراد: قبيل أن أفقدها، إلا أنه حذف أن ورد الكلام إلى أصله وهو الرفع؛ لأن العامل فيه غير مظهر.
يخاطب حاديي العير التي كانت محبوبته في جملة ركبهما، ويسألهما أن يقفا عليه بالإبل ليستمتع بالنظر إليها، لما ذكره في قوله: قفا، ثم قال: وأحسبني. أي وإن التمست من الحاديين وقوفهما بهذه المرأة علي لأتزود منها بالنظر، فإني أظن أني أوجد ميتاً قبل أن تغيب هذه المرأة، فلا يكون في النظر إليها طائل، وإنما صغر فقال: قبيل لينبه على أن موته إنما يحصل حال الفراق وقبله بوقت يسير، وهو الوقت الذي يتحقق الفراق فيه، وإن ما قبلهما هي حالة الوصال ولا يليق به الموت، وقوله يا حاديي أراد به السائق والقائد، والحادي: اسم السائق، لكنه سماهما باسم واحد للجمع بينهما تغليباً لأحدهما على الآخر، وفي ذلك إخبار عن عظم حال هذه المرأة الجليلة وأن لها قائداً يأخذ بزمام المطية، وسائقاً يسوقها، ويحتمل أن يكون حاديين على الحقيقة.
قفا قليلاً بها علي فلا ... أقل من نظرةٍ أزودها
قليلاً: منصوب؛ لأنه صفة لظرف محذوف. أراد: زماناً قليلاً، أو لأنه صفة لمصدر الفعل الذي هو قفا أراد: وقوفاً قليلاً. وقوله: فلا أقل ويروى بالنصب وهو الوجه؛ لأن لا يبنى الاسم بعده على الفتح إذا كان نكرة، وأقل نكرة، وقد روى بالرفع على معنى ليس وقوله: قفا يتعلق بقوله: يا حاديي عيرها والهاء في بها يحتمل أن تكون للإبل وأن تكون للمرأة.
يخاطب الحاديين فيقول: قفا بهذه المرأة علي لأتزود منها بالنظر إليها، وإن كان ذلك الوقوف قليلاً، ثم قال إن لم آخذ منها الاستمتاع وطول الملازمة واستدامة الملاقاة فلا أقل من نظرة أزودها: أي إني أجعلها زادي. ويروى: أزودها أي بجعل تلك النظرة زادي بعد مفارقتي إياها ومثله للآخر:
ألما على الدار التي لو وجدتها بها ... أهلها ما كان وحشاً مقيلها
وإن لم يكن إلا معرج ساعةٍ ... قليلٌ، فإني نافع لي قليلها
وقال الآخر:
قليلٌ منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له: قليل
ففي فؤاد المحب نار هوىً ... أحر نار الجحيم أبردها
المحب أراد به نفسه، والكناية في أبردها لنار الهوى، وكأن هذا البيت علة في سؤاله الحاديين الوقوف بالمحبوبة.
يقول: إن في فؤادي ناراً من هواي إياها، والجحيم في جنبها أبردها، يعني أن أبرد نار الهوى مثل أحر نار الجحيم؛ وقصد بذلك تعظيم الهوى، وقد ورد الخبر بأن نار جهنم تزيد على نار الدنيا بسبعين درجة، فإذا كان أبرد هذه النار تزيد على أحر تلك، فلا مبالغة فوقه.
شاب من الهجر فرق لمته ... فصار مثل الدمقس أسودها
الفرق: موضع الفرق هاهنا، وفرق الرأس: وسطه، واللمة: ما ألم بالمنكب من الشعر، التي هي أفعل من كذا، وهو الأشد سواداً، وإنما أراد به الاسم أي مسودها، يعني اللمة.
يقول: شاب شعر رأسي من ألم الفراق! لا من الكبر في السن، حتى إن الشعر الأسود صار كالحرير الأبيض. وإنما خص موضع الفرق؛ لأن ذلك في قمدم الرأس، والعرب تزعم أن ابتداء الشيب إذا كان منه كان فيه دلالة الكرم، وإذا كان من جهة القفا كان فيه دلالة اللؤم، وهذا البيت مثل قول الآخر:
وما شاب رأسي من سنين تتابعت ... علي ولكن شيبتني الوقائع
والأصل فيه قوله تعالى: " يوماً يجعل الولدان شيباً " .
بانوا بخرعوبةٍ لها كفلٌ ... يكاد عند القيام يقعدها
الضمير في قوله: بانوا لأصحاب العير، أو الحداة، والخزعوبة: الجارية الناعمة الجسم، اللينة العصب، الطويلة.
يقول: بانوا بجارية خرعوبة عظيمة العجز، حتى إنها من كبر كفلها يقرب كفلها عند القيام من أن يقعدها ويلقيها. ومثله لأبي العتاهية قوله:
بدت بين حورٍ قصار الخطا ... تجاهد بالمشي أكفالها
ربحلةٌٍ أسمرٍ مقبلها ... سبحلةٌٍ أبيضٌٍ مجردها
الربحلة: الضخمة الحسنة الخلق، والسبحلة: الطويلة العظيمة. وقيل: السمينة اللحيمة. ومقبلها: أراد به شفتها، لأنها موضع القبلة في الغالب، ويستحسن فيها السمرة، وقيل: أراد وجهها وسوالفها، لأن ذلك مما يقصد بالقبلة كالشفة، ويكون وصف ذلك بالسمرة تنبيهاً على أنها عربية؛ لأنها الغالبة على العرب، وهي أحب ألوان النساء عندهم، والمجرد: قيل أراد به سائر بدنها، والمستحسن فيه البياض. وقيل: أراد به ما جرت العادة بتجريد في الغالب: كالوجه، والعنق واليد والرجل. فيكون قد وصف جملة البشرة بالبياض، والغرض وصف المرأة بأنواع الحسن، ليعذر في حبه لها وشغفه بها.
ويجوز في سبحلة وربحلة الجر عطفاً على خرعوبة والرفع على أنه خبر ابتداء محذوف فكأنه قال: هي ربحلةٌ وهي سبحلةٌ.
يا عاذل العاشقين دع فئةً ... أضلها الله كيف ترشدها؟!
الفئة: الجماعة، وأراد بها العشاق. وقوله: أضلها الله: أغراها بالضلال، ووجدها ضالة، والظاهر أنه متعدى ضل والمعنى: أنها همت بالضلال فأضلها الله، والإرشاد: ضده.
يقول: دعهم عن العذل على العشق، فإن التمادي فيه ليس منهم، حتى ينفع عذلك فيهم، إنما هو من الله تعالى، أضلهم بالعشق عن سبيل السلوة، فكيف ترشدهم إليها؟! أو أوجدهم ضالين عن سبيل الرشاد والسلو.
ليس يحيك الملام في همم ... أقربها منك عنك أبعدها
يحيك بضم الياء أفصح، وجاء: حاك يحيك، والهمم: العقول والعزائم.
يقول: ليس يؤثر الملام في همم، وهي همم العشاق. أقربها في ظنك أيها العاذل من العمل، أبعدها عنك في الحقيقة، وعلى هذا الهمم: هي العزائم ويجوز أن يراد بها العقول.
فيقول: إن العشاق لا عقول لهم، والعذل إنما ينفع لمن له عقل، فلا وجه إلى ملامهم، وروى: ليس يحيك الكلام.
وسئل المتنبي عن قوله: أقربها منك عنك أبعدها فقال: أقربها منك سمعاً وأبعدها عنك طاعةً.
بئس الليالي سهدت من طربي ... شوقاً إلى من يبيت يرقدها
سهدت بالدال، لأنه لا يستعمل إلا في العشق. والسهر عام. والطرب: الخفة في فرح أو حزن، وأرادها هنا ما يكون من الحزن، ويرقدها: أي يرقد فيها، والهاء ترجع إلى الليالي.
يذم الليالي التي سهر فيها حزناً على المحبوبة؛ لأنها ليالي المحنة، لمفارقتها من وجهين: أحدهما من حيث الشخص، والثاني أنها لم تقابله في المحبة فتسهر كسهره في تلك الليالي، ولا ساعدته على سبيل المجاملة، وقوله شوقاً: نصب لأنه مفعول له، ويحتمل أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال.
أحييتها والدموع تنجدني ... شئونها والظلام ينجدها
إحياء الليل: هو السهر، والشئون: مجاري الدموع، والإنجاد: الإمداد والإعانة، والهاء في أحييتها لليالي، وفي شئونها للدموع، وأضافها إليها لأنها مجاريها، والهاء في ينجدها قيل: ترجع إلى الليالي.
ومعناه: أحييت الليالي على حال تنجدني شئون الدموع فيها على ما كنت فيه من طول الليل الذي حصل بالغم والسهر؛ لأن من شأن الدموع أن تخفف على المحزون، وكأن الظلام يعين الليالي ويمدها ظلمةً أكثر من ظلمتها، ويزيدها طولاً إلى طولها، لانفراده به وعدم مشاهدته ما يتشاغل به عما هو فيه من الغم كما قال الشاعر:
بلى إن للعينين في الصبح راحةً ... لطرحهما طرفيهما على كل مطرح
وقيل: إن الهاء في ينجدها للدموع.
ومعناه: أن الدموع كانت تعينني لما فيها من الراحة، والظلام كان يعين الدموع، وكلما ازداد الليل ظلمةً ازداد الغم.
لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
أجهدها: من جهدت الناقة إذا أشققت عليها في الحمل والركوب والرهان: المراهنة في مسابقة الخيل. وأراد بالناقة: النعل وأشار إلى أنه أحيا هذه الليالي وهو سائرٌ راجل، وجعله نعله ناقته من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " المنتعل راكبٌ " ثم بين مخالفته حالها بحال الناقة من وجهين: أحدهما أنها لا تقبل الرديف ولا تسع غير رجله، الثاني أنها لا تجهد بالسوط يوم المراهنة؛ لأنه ليس لها فعل في السباق، ولا سرعة ولا إبطاء، ثم زاد في الدلالة على المخالفة فقال:
شراكها كورها ومشفرها ... زمامها والشسوع مقودها
الكور: الرحل، والمشفر: الشفة، والمقود: الحبل يقاد به الناقة، والزمام: السير المفتول.
شبه نعله بالناقة، وشراكها بالكور؛ لأنه يعلو ظهر الناقة، كالشراك يعلو النعل، وهو السير المعترض على القدم المشدود إلى جانبي النعلن والزمام: هو السير المشدود جانب منه إلى الشراك، وجانب إلى الشسع، والشسع: السير الذي يكون بين الأصبعين، فشبه كل آلة من النعل بشيءٍ من آلات الناقة.
أشد عصف الرياح يسبقه ... تحتي من خطوها تأيدها
عصف الرياح: شدة هبوبها. والهاء، في يسبقه: يرجع إلى العصف المضاف إلى الرياح، والتأيد: قوة الخطو، من الأيد وهو القوة.
يقول: قوة خطوها تحتي تسبق أشد عصف الرياح لأنها تبقى بعدها، وتفتر الرياح، وعنى بذلك قوة نفسه وسرعة مشيه.
وقيل: أراد بالتأيد: التثاقل والتثبت، كأنه جعل أهون سيره على النعل فوق أشد الهبوب للرياح مبالغة وكأنه قال: تثبت خطوها يسبق أشد الرياح فيصف قوته.
في مثل ظهر المجن متصلٍ ... بمثل بطن المجن قرددها
القردد: الأرض الصلبة. وقيل: ما انخفض من الأرض الناتئة.
يصف طريقه إلى الممدوح، وشبه ما ارتفع منه بظهر المجن، وما انخفض منه ببطن الترس، وبين أن بعض طريقه كان صعوداً وبعضه كان هبوطاً وذلك دلالة على فضل المشقة.
فيقول: تأيد خطوها، يسبق أشد هبوب الرياح، في طريقٍ مثل ظهر المجن ارتفاعاً، متصل بطريق مثل بطن المجن انخفاضاً، والأصل في هذا التشبيه قول الأعشى:
وبلدةٍ مثل ظهر الترس موحشةٍ ... للجن بالليل في حافاتها زجل
وقيل: إنه شبه ابتداء سفره إليه بظهر المجن، إشارة إلى أنه كان موحشاً، وانتهاءه ببطنه، لما أدى إلى لقاء الممدوح، إشارة إلى أنه كان مؤنساً؛ لأن ظهر المجن يلي العدو وبطنه يلي نفس من حمله، والأول أقوى. ويجوز في متصلٍ: الرفع على الابتداء أو خبره، والجر على أنه صفة لمثل، أو بدل له.
مرتمياتٌٍ بنا إلى ابن عبي ... د الله غيطانها وفدفدها
روى: في مرتمياتٍ: الرفع على أن يكون خبراً لغيطانها وفدفدها، وتكون هي مبتدأ، وروى بالكسر فتكون في موضع النصب، على أن تكون حالاً سادةً مسد خبر المبتدأ. والغيطان: جمع الغائط وهو المطمئن من الأرض، والفدفد: ما نشز منها.
يقول: رمت بنا هذه الغيطان والفدفد إلى ابن عبيد الله: الذي هو الممدوح، يذكر مشقته ليكون أقرب إلى الإكرام.
إلى فتىً يصدر الرماح وقد ... أنهلها في القلوب موردها
إلى: يتصل بقوله: مرتمياتٍ والإيراد: أراد به إورادها وهو الإتيان بالمواشي إلى الماء، والإصدار: صرفها عنه بعد الري. وقوله: أنهلها: من النهل، وهو في اللغة: الشربة الأولى، وروى موردها وهو مصدر ورد، ويجوز أن يكون مكان الورود وهو جسم المطعون، وهو رفع على أنه فاعل أنهلها.
يقول: رمت بنا هذه المفاوز إلى فتىً يسقى رماحه من دم قلب عدوه، ويصدرها عنه وقد رويت من الدم. والهاء في أنهلها للرماح، وخص القلوب لأنها أولى المقاتل.
له أيادٍ إلي سابقةٌ ... أعد منها ولا أعددها
وروى: سابقةٌ وسابغةٌ أي تامة. والأيادي: النعم.
يقول: إن له علينا نعماً سابقة، لا أقدر أن أحصيها من كثرتها، غير أني أعد من تلك النعم، وأوجد منها، يشير إلى أنه خلصه من يد عدو له، أو أنه جنى عليه بما يستحق القتل، فوهب له نفسه، ومثله:
لا تنتفنى بعدما رشتني ... فإنني بعض أياديكا
وروى أعد منها يعني: أعد بعض هذه النعم، وأما جميعها فلا أقدر أن أحصيها لكثرتها، لأن من للتبعيض.
يعطى فلا مطله يكدرها ... بها ولا منه ينكدها
الهاء في بها وفي يكدرها وفي ينكدها: للأيادي. وتقدير البيت: يعطى فلا مطله به لأن المطل يتعدى بالباء، وينكدها.
يقول: يعطى من دون مطلٍ بما يعطيه، ولا مدافعة ينكد بها، ولا يمن به إذا أعطى، فكأنه قال: له أياد لا يكدرها مطلٌ ولا ينكدها منٌّ فكأنه أخذه من قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " ومثله للحكمى:
فما في جوده منٌّ ... ولا في بذله خسرُ
خير قريشٍ أباً وأمجدها ... أكثرها نائلاً وأجودها
المجد: الشرف، والهاءات: للقبيلة، التي هي قريش؛ وأباً ونائلاً: منصوب للتمييز، وكان هذا الممدوح علوياً، وليس في قريش خير من بني هاشم خيرٌ من العلوية؛ فلهذا قال: خير قريش أباً، ففضله في نفسه، ثم في مجده، ثم في سخائه.
وقريش: اسم لمن ولده النضر بن كنانة، وقيل لمن ولده فهر بن مالك؛ والأصح هو الأول.
أطغنها بالقناة أضربها ... بالسيف، جحجاحها مسودها
الجحجاح: السيد الممتلىء كرماً، والمسود: هو الذي اتفق الناس على سيادته. فقيل: هو المخاطب بالسؤدد، وذلك عن أجداده، وهذا أبلغ في الجلالة، وإنما قيد الطعن بالقناة، والضرب بالسيف؛ إما تأكيداً كقولك: رأيت بعيني، وإما لأن الطعن قد يكون بغير القناة من اللسان وغيره، كذلك قد يكون بغير السيف، كالخشب ونحوه، وليس في ذلك مدح. فرفع الإشكال بالتقييد، والجحجاح والمسود يعني: السيد المسود.
أفرسها فارساً وأطولها ... باعاً ومغوارها وسيدها
فارساً: نصب على الحال.
يقول: إن هذا الممدوح أفرس قريش، في حال كونه راكباً للفرس، فدل به علىأنه إنما يركب الفرس في بعض الأحوال، إذ ركوبه في جميع الأحوال من عادات الرائضين، وقيل: إنه نصب على التمييز.
والمعنى أنه أفرس من سائر فرسان قريش، كقولك: هو أجود قريش جواداً، وقيل: إنه أراد به: أفرسها فروسيةً. أي فراسة، ويكون أيضاً نصب على التمييز، وقوله: أطولها باعاً. كناية عن مد يديه بالعطاء، أو يكون كناية عن نيله كل ما يريد بفضل قوته وقدرته، والمغوار: كثير الغارة
تاج لؤي بن غالبٍ وبه ... سما لها فرعها ومحتدها
لؤي بن غالب: اسم جد النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو قريش، وأراد به: القبيلة، والمحتد: الأصل الكريم، وأراد بالمحتد هاهنا: السلف، وبالفرع: الخلف منهم.
يقول: إنه تاجهم وغرتهم، وإن علوهم به، خلفاً وسلفاً، لانتسابهم إليه.
شمس ضحاها هلال ليلتها ... در تقاصيرها زبرجدها
الضحا: ارتفاع النهار، والتقاصير: جمع التقصار وهي القلادة القصيرة.
بين أن قريشاً يستضيئون بنوره، وجعلوه لأنفسهم كالشمس والهلال، في نهارهم وليلهم، وأضاف الشمس إلى الضحا؛ لأنه اسمٌ لأوائل النهار، وأضاف الهلال إلى الليلة لأنه يسمى هلالاً في أوائل الشهر؛ ليدل على حداثة سن الممدوح، وأن فيه رجاء الزيادة والنماء، وأنه منظور إليه، يرمقه الناس ويصدرون عن أمره ونهيه، ويحكم فيهم بحكمه، وذلك مختص بالهلال، إذ لا ينظر إلى البدر كما ينظر إلى الهلال، ولا يتعلق بالبدر ما يتعلق بالهلال من الأحكام، ثم بين أن قريشاً بمنزلة القلادة زينة، أراد أن الناس يتزينون بهم، إذ هم رؤساؤهم، وأن الممدوح أجل أولئك السادة قدراً، وأعظمهم خطراً لأن أجل ما في القلادة الدر والزبرجد، فكأن الناس يتزينون بهم، وهم يتزينون به.
يا ليت بي ضربةً أتيح لها ... كما أتيحت له، محمدها
أتيح: أي قدر.
وتقدير البيت: يا ليت بي ضربةٌ أتيح لها محمدها كما أتيحت له؛ كان الممدوح أصابته ضربةٌ في وجهه في غزو الكفار، فتمنى هو أن تلك الضربة كانت به دون الممدوح، تفديةً له بنفسه أو تسلية حيث يسعد بها الممدوح، لأنه كثر بسببها عليه الثناء، وكتب له من أجلها الثواب؛ ولفظ الإتاحة؛ تنبيهاً على أنها كانت اتفاقاً وفجاءةً، لا عن فضل قوة الضارب على الممدوح، فدل بذلك على شجاعة الممدوح؛ أو يكون إتاحة الضرب له من حيث أنه نوه بذكرها وبذكر من سبب إليها، والحديدة التي وقعت بها، فكأنه كسب له الفخر، وكسبت هي له السعادة والثناء وجزيل الثواب.
وقد كان يستقيم المعنى من دون أن يذكر محمدها ويكون تقدير البيت: في ضربة أتيح لها، كما أتيحت له. لأنه صرح بذكره للحاجة إليه، وإن لم يكن في ذلك إحالة المعنى.
أثر فيها وفي الحديد وما ... أثر في وجهه مهندها
المهند: السيف المنسوب إلى الهند، والهاء في فيها، وفي مهندها لضربة، وتأثيره في الضربة على معنيين: أحدهما أن يكون سلاحه قد عطل وأبطل تأثيره بشجاعته فلم تؤثر ضربته فيه تأثير مثلها، فلما كان كذلك صار كأنه لم يكن للضرب، ولا للحديد تأثيرٌ فيه، فيكون غرضه أن الضربة لم تعمل في الممدوح، أو عملت عملاً قليلاً يخالف قصد الضارب، إذ أراد أن تعمل عملاً عظيماً.
والثاني أن يكون قد جعل الممدوح مؤثراً في الضربة والحديد، من حيث أن الضربة وقعت على الوجه فزانته، وما شانته، لأنها دلالة الشجاعة؛ فلما كان كذلك فكأن الضربة والحديد لم يؤثرا فيه؛ لأن تأثيرهما في الشين والإيلام، وإذا كان على ما ذكرنا؛ فكأنه لا ألم فيه ولا شين، والأظهر أن يكون تأثيره في الضربة والحديد من أنه نوه بذكر تلك الضربة وشرفها وشرف الحديد وقلله، فكأنه قال: أثر في الضربة بالتشريف وفي السيف بالتفليل، وأثر السيف فيه تأثير مثله من الوجه الذي بيناه وعلى هذا يدل البيت الذي يليه وهو قوله:
فاغتبطت إذ رأت تزينها ... بمثله والجراح تحسدها
الجراح: جمع جراحة، والهاء في تزينها، وتحسدها للضربة، ورأت من رؤية العين وهي استعارة ها هنا.
يقول: إن الضربة فرحت بحصولها في جسمه وحلولها ببعض أجزائه، وسائر الجراح تحسد هذه الضربة لأجل ذلك، وفي هذا تنبيه على أنه كان هناك جراحة، فكأنه يقول: إذ رأت تزين نفسها لأن الهاء فيها للضربة، وقوله: بمثله. فيه زيادة مبالغة؛ لأن تزين الضربة إذا حصل بوقوعه بمثل الممدوح، فلأن يحصل إذا وقع به أولى، وروى بوجهه أي بوجه الممدوح وهو أظهر الروايتين.
وأيقن الناس أن زارعها ... بالمكر في قلبه سيحصدها
الهاء في قلبه للزارع. يقول: إن زارع هذه الضربة في وجهه بالمكر، سيحصدها: أي أن عاقبة أمره تئول إلى أن ينتقم منه ويقتله، وذكر المكر يدل على أن هذا الضرب حصل اغتيالاً ومكراً لا مبارزة ومقاومة! وقوله: في قلبه: يحتمل أن يكون ظرفاً للمكر، يعني أنها حصلت بالمكر الذي كان في قلبه، دون أن يظهر ذلك له، إذ لو ظهر لعجز عنه، ويحتمل أنه سيحصد هذه الضربة في قلبه، يريد أنه سيقتله؛ لأن القلب مقتل، ويجوز أن تكون الهاء في قلبه للمدوح، كأنه قال: أيقن الناس أن زارع هذه الضربة في قلب الممدوح سيحصدها، فشبهها بالبذر وشبه الجزاء بالحصاد.
أصبح حساده وأنفسم ... يحدرها خوفه ويصعدها
يحدر بالفتح أفصح. يقال: حدرت السفينة أحدرها حدراً فانحدرت. وأحدرت لغةٌ ضعيفة.
يقول: فزع الحساد منه فزعاً عظيماً بحيث لا قرار لهم من الخوف، حتى كأن ما بهم من الخوف يحدر أنفسهم مرةً ويصعدها أخرى، وهذا الفزع يجوز أن يكون من حيث أنهم خافوا أن يعظم محله بانتقامه منهم، أو خافوا نفس الانتقام.
تبكي على الأنصل الغمود إذا ... أنذرها أنه يجردها
لعلمها أنها تصير دماً ... وأنه في الرقاب يغمدها
الهاء في أنذرها، وفي يجردها، للأنصل. وفي علمها للغمود، وفي أنها للأنصل، وكذلك في يغمدها والضمير في أنه للمدوح وقوله: تصير دماً أي تختضب بالدماء.
يقول: تبكي الغمود على الأنصل إذا أعلمها الممدوح، وخوفها أنه يجردها ويخرجها من غمودها، وإنما تبكي الغمود لأنها تعلم أنها تصير دماً، وأنه يغمدها في رقاب أعدائه، فيجعل رقابهم أغماداً لها بعد إغماده إياها في أغمادها، ومثله لحسان قوله:
إذا ما غضبنا بأسيافنا ... جعلنا الجماجم أغمادها
أطلقها فالعدو من جزعٍ ... يذمها والصديق يحمدها
الهاء في أطلقها وفيما بعده للأنصل، وإطلاقه لها لقتلهم بها. إطلاق يده بالضرب بها في الأعداء.
يقول: يذم العدو هذه السيوف التي أطلقها الممدوح، لعلمهم أنه يقتلهم بها، والصديق يثني عليها لأنها تكسبه العز لما تجلبه من الظفر للمدوح، وبين أن العدو يذمها جزعاً؛ ليدل على أنها غير مذمومة في الحقيقة، وحقق ذلك بقوله: والصديق يحمدها.
تنقدح النار من مضاربها ... وصب ماء الرقاب يخمدها
قدحت النار فانقدحت، والمضارب: جمع مضرب، وهو حد السيف الذي يضرب به.
يقول: تقطع هذه السيوف ما تحتها مما تصيبه حتى تصل إلى الأرض وتهوي فيها، ولا يردها إلا حجرٌ يقدحها، ويتبعها الدم من الموضع الذي أصابته فيخمدها.
وقيل: إن انقداح النار: حين قدت اللحم وقطعت العظام فتقدح منها النار من شدة الوقع، ثم انصب عليها الدم فأخمدها.
إذا أضل الهمام مهجته ... يوماً فأطرافهن تنشدها
أي أنها تطلب الهمام: وهو الملك العظيم الهمة، والذي إذا هم بالأمر أمضاه، وقد روى: أطرفهن بفتح الفاء وينشدها بالياء وفتحها، وكذلك بالتاء وفتحها، من نشدت الضالة: أي طلبتها، وروى فأطرافهن بضم الفاء وتنشدها بالتاء وضمها، من أنشدت الضالة: إذا عرفتها.
والمعنى على الأول: أن الهمام إذا اشتد عليه القتال حت أضل مهجته فيه، وهو أن يصادفها مجروحة أو مقتولة، فإنه يطلبها عند أطراف سيوف هذا الممدوح؛ لأن من شأنها إصابة مهج الملوك. ويكون نصب أطرافهن على الظرف، تقديره: أطرافهن تنشدها، أو يكون المراد بإضلالها: أن يذهل عنها فزعاً، فيكون كأنه أضلها، فعند ذلك يطلبها من أطراف سيوفه لاعتيادها لأرواح الملوك، فهي التي تدل كل ملك على مهجته إذا قتلت، أو جرحت فلم يهتد لها، ولم يقدر على ارتجاعها فإن أطراف سيوفه هي التي تدل عليها. وتقول: هي عندنا. إذ هي موكلة بمهج الملوك وسالبةٌ لها، ويحتمل أن يكون المراد به أن أطراف سيوفه تنشد للهمام مهجته عند إضلاله إياها وإشرافه لها على الهلاك، وتنقذها من الضلال فتكون هي الناشدة لها، وقد روى بدل: الهمام الشجاع.
قد أجمعت هذه الخليقة لي ... أنك يا ابن النبي أوحدها
وأنك بالأمس كنت محتلماً ... شيخ معدٍّ وأنت أمردها
الإجماع: اتفاق الكلمة على الشيء، والخليقة: البرية. والأوحد: الذي لا ثاني له، والهاء فيه للخليقة، وأراد بأنك: أنك وأجراها مع المضمر كالمظهر من قوله:
كأن ثدييه حقان
ومحتلماً: نصب على الحال، وشيخ معدٍّ: نصب بخبر كان، وروى: وأنت بالأمس مكان وأنك.
يقول: قد اتفقت البرية كلهم يا ابن رسول الله على أنك أوحد هذه البرية؛ وإنما قال ذلك؛ لأنه علوي، ولا خلاف في شرفهم، واتفقتْ أيضاً أنك كنت بالأمس في حال احتلامك شيخ هذه القبيلة المنتسبة إلى معد بن عدنان ورئيسهم، وأنت حينئذ أمرد، فكيف بك اليوم وقد علا سنك، وقد جربت الأمور، فإذا كنت قد سدتهم في أول أوان البلوغ فالآن أنت بالسيادة أولى.
فكم وكم نعمةٍ مجللةٍ ... ربيتها كان منك مولدها
يجوز في نعمةٍ الفتح على الاستفهام، والجر على الخبر، وهو أجود؛ لأنها أدل على الكثرة، ومجللةٍ: بفتح اللام على معنى مبهمة ومعظمة، أو محكوم لها بالجلال، وبكسرها على معنى أنها تنسب إلى الجلال والتعظيم فهي مجللة.
يقول: وكم من نعمة عظيمة ابتدأت بها، ثم أتبعت مثلها، وجعل ابتداءها: ولادةً. وإدامتها: تربيةً.
وقد روى: ربيتها بضم التاء، والمعنى على هذا: أني شكرتها فاستوجب لها المزيد، فكنت كالمربي لها.
وكم وكم حاجةٍ سمحت بها ... أقرب مني إلي موعدها
الموعد: وقت الوعد، لإنجاز الحاجة.
يقول: كم حاجةٍ وبغيةٍ جاد الممدوح بها وقضاها لي، وكان موعدها في الإنجاز أقرب من نفسي إلى نفسي، يريد بذلك أنه يبتدىء بالعطاء من غير تقديم وعدٍ؛ لأن قربه على هذا الحد كناية عن فقد الوعد.
أو يريد طريقة الصوفية؛ كأنه فضل نفسه، أي أن وقت حضور موعده أقرب إلي من نفسي إلى نفسي، والأول أولى. وروى: أقرب شيء إلي موعدها وهو أظهر في المعنى والأول أبلغ وأفصح.
ومكرماتٍ مشت على قدم البر ... ر إلى منزلي ترددها
المكرمات: جمع مكرمة، وأراد بها الخلع، والهدايا، والمشي استعارة هاهنا. قد جعل للبر قدماً يمشي بها.
يقول: كم من مرة رددتها إلى منزلي ماشيةً على قدم برك وإحسانك. وقيل: دل بقوله: على قدم البر على أن الخاطئين كانوا له من جملة الهدايا، وفي خير العطايا، كأنهم كانوا غلماناً وجواري أهداهم إليه.
وروى: ترددها، وترددها فالأول خبر، والثاني مصدر، والمعنى واحد.
أقر جلدي بها علي فلا ... أقدر حتى الممات أجحدها
يقول: أقر جلدي بها علي لكثرتها وظهور أثرها على بشرتي ونضارة وجهي بها، وحسن حالي بسببها، فلست أقدر ما عشت أن أجحدها؛ لأني إذا جحدتها شهدت علي؛ وهو مأخوذ من قوله تعالى: " تعرف في وجوههم نضرة النعيم " ومثله قول الشاعر:
إذا ما جحدنا جوده ظل شاهداً ... جوارحنا مهما أقمنا على الجحد
ويحتمل أنها كانت من جملة الملبوس؛ فلهذا خص الجلد بذكره ونزل أجحدها منزلة المصدر، وتقديره فلا أقدر على جحودها، ويجوز أن يكون الأصل أن أجحدها غير أنه حذف أن فوقع الفعل بعده كقوله فيما تقدم: قبيل أفقدها.
فعد بها لا عدمتها أبداً ... خير صلات الكريم أعودها
عد بها: أي أعدها لا عدمتها: دعاء، لإبقاء مكرماته، وهو حسنٌ مليح، وأعودها: أدومها عادة.
يقول: قد عودتني مكرماتك، فأعدها لا عدمتها مدى الدهر، فإن خير الجوائز ما تدام عادتها، وتعاد، وقوله: لا عدمتها أبداً: وإن كان دعاء للنعم بالبقاء، فهو يتضمن الدعاء للمدوح بدوام القدرة على الإحسان، وقوله: خير صلات الكريم أعودها. مثلٌ له.
وقيل له وهو في المكتب: ما أحسن هذه الوفرة؟! فقال ارتجالاً:
لا تحسن الشعرة حتى ترى ... منشورة الضفرين يوم القتال
أراد بالشعرة هاهنا: جملة الشعر الذي كان على رأسه، ولم يرد الشعرة الواحدة. وروى مكانها الوفرة، والضفرين: الضفيرتان. وهما من ضفرت السير أي فتلته.
يقول: لا تحسن هذه الوفرة حتى تنشر يوم القتال؛ لأن من عادة العرب أنهم يكشفون عند الحرب رءوسهم وينشرون شعورهم، وهو يظهر من نفسه حب الحرب؛ تنبيهاً على شجاعته.
على فتى معتقل صعدةً ... يعلها من كل وافي السبال
الاعتقال: أن يضع الفارس رمحه بين ركابه وساقه، ويمسكه بفخذه. والصعدة: القناة المستوية، وقيل: هي ما صغر من الرمح، ويعلها: يسقيها من العلل وهي الشربة الثانية، والهاء في يعلها للصعدة.
يقول: لا تحسن شعرتي هذه حتى تراها منشورة يوم القتال، على فتىً، وهو يعني به نفسه. وقد اعتقل رمحه، يسقيه من دم وافي السبال.
فكأنه يقول: إنما تحسن الوفرة على من لا سبال له، وهو أمرد؛ يقاوم الملتحي عند المقاتلة، لأن السبال لا يكون وافياً إلا إذا كان تام اللحية. ينبه بذلك على فضل قوته وشجاعته.
وقيل: إن وافي السبال كناية عن الشجاع. لأن أهل الحرب كانوا لا يحفون شواربهم حتى يكون أهيب لهم عند القتال.
وقيل: إنه تعريض بالمتعجب من الشعرة. وكان من أصحاب اللحية الضخمة.
يقول: لا تحسن الشعرة حتى تكون علي وقد اعتقلت رمحي أسقيه من دم كل علج طويل اللحية، وافي السبال مثلك أيها المتعجب من وفرتي.
هذه، وروى أنه قال: ربما أنشدت على فتىً في يد صعدة ويقال عل يعل ويعل بالكسر لغة قيس، والضم لغة تميم.
وقال أيضاً في صباه:
محبي قيامي ما لذلكم النصل ... برياً من الجرحى سليماً من القتل
تقديره: يا محبي قيامي. وهو نداء مضاف، خطاب للجماعة. ودل عليه قوله: ذلكم. والقيام بمعنى الإقامة والمقام، وقد روى أيضاً محبي مقامي. كأنه يخاطب أهله وعياله.
ويقول: يا من يحب إقامتي وتركي الأسفار والمطالب. كيف أفعل ما تحبون: من إقامتي معكم، ولم أجرح بنصلي أعدائي؟! وأورد ذلك مورد الإنكار على أهله حين أشاروا عليه بالقيام عندهم.
وقيل: إنهم استنصروه وسألوه الوقوف معهم فقال: يا من يحب مقاتلتي العدو معهم: ما لنصولكم متنحية عن هرج أعدائكم، غير منكسرة من كثرة القتل! فإن م حق المستنجد أن يتسم أولاً للحرب، ويبلى جهده، ثم يستنصر غيره: فأما أن ينتحي ويغري غيره على الحرب فليس من حقه! ويحتمل أن يكون القيام من قولهم: قام بالأمر إذا تولاه وسعى فيه.
والمعنى: يا من يحب قيامي بأموره وترك فراقه، ما لذلكم النصل لم أجرح به ولم أقتل؟ فكأنه يقول: لا أختار القيام بأمورك على حال أن ذلك النصل لم يؤثر في الأعداء جرحاً وقتلاً، يعني أن أعمال النصب أحب إلي من القيام عليك. ونصب برياً وسليماً على الحال من النصل.
أرى من فرندى قطعةً في فرنده ... وجودةُ ضرب الهمام في جودة الصقل
فرند السيف: جوهره. بالغ في وصف نفسه بالمضاء والشجاعة وفضل نفسه على السيف حيث جعل فرند السيف قطعة من فرنده وبعضاً منه! ثم قال: وجودة ضرب الهمام في جودة الصقل، وظاهر معناه: أن السيف إذا كان صقيلاً جيد الصقال كان ذلك سبباً لجودة ضرب الهمام؛ وهذا مما لا يستمر، لأن جودة الصقل قد توجد، ولا يكون متضمناً لجودة الضرب، وذلك إذا لم يكن للسيف جوهر كريم، غير أنه أثبت أولاً للسيف جوهراً كريماً ثم أخبر عن صقاله.
فكأنه يقول: كيف أترك النهوض وأقعد عن محاربة أعدائي؟! ولي جوهر في المضاء والشجاعة، وللحرب آلة موفورة، وهو السيف الذي فيه الجوهر الكريم والصقل الجيد.
وخضرة ثوب العيش في الخضرة التي ... أرتك احمرار الموت في مدرج النمل
أراد بالخضرة الأولى: الرفاهية: في العيش، فجعل للعيش ثوباً أخضر، كناية عن طيب العيش لأن الخضرة أشهى إلى النفوس، لميلها إليها دون سائر الألوان، وقال في بيت آخر:
والعيش أخضر والأطلال مشرقة
وأراد بالخضرة الثانية: لون السيف، وكأنه وضعها في موضع الزرقة للتجنيس. واحمرار الموت: كناية عن احمرار الدم على السيف عند الضرب، وقد كثر حتى وصف به الشدة، يقال: موت أحمر، ومدرج النمل: ممره، وأراد به ما يرى في متن السيف من جوهر كأنه ممر النمل.
يقول: أرى خصب العيش وطيبة النفس في السيف الكريم الجوهر، الجيد الصقل، وهو المعبر عنه بالخضرة التي أرتك شدة الموت في مدرج النمل، وقصد به المبالغة في تصويب رأيه فيما اختار من النهوض وقصد محاربة الأعداء وقتلهم وجرحهم.
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه ... فما أحدٌ فوقي ولا أحدٌ مثلي
أمط: أي أبعد.
وقد أكثر الناس في هذا البيت: من حيث أن ما ليست من أدوات التشبيه.
نهاية الجزء الأول
ألف / خاص ألف/
يتبع ..