اجتماع بوتين – الأسد: مشاورات أم استعراض؟
ألف
2018-08-30
أولًا: مقدمة
في السابع عشر من أيار/ مايو 2018، قام رأس النظام السوري بشار الأسد بزيارة مفاجئة غير مُعلنة إلى منتجع سوتشي، التقى خلالها بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولم يُستقبل بالبروتوكولات الرئاسية التقليدية، كما لم تُعلن وسائل الإعلام السورية الرسمية عن الزيارة إلا بعد أن عاد الأسد إلى دمشق.
ليست هذه أول مرة “يُستدعى” فيها الأسد إلى “حضرة” بوتين كجندي من جنوده المطواعين، ففي 11 كانون الأول/ ديسمبر 2017، استقبل بوتين الأسد في قاعدة حميميم “الروسية” في اللاذقية، وعامله بفوقية ظاهرة، وسخر السوريون من منع أحد الضباط الروس للأسد من الاقتراب من بوتين حين أراد أن يحيّي جنوده العاملين في القاعدة الجوية التي اتخذها الروس مقرًا عسكريًا لهم، وكذلك لم تُعلن وسائل إعلام النظام عن الزيارة إلا بعد مغادرة بوتين للقاعدة.
قبل ذلك، في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، “استدعى” الرئيس الروسي الأسد إلى مدينة سوتشي، ووصلها -وفق وسائل إعلام- بطائرة عسكرية روسية، من دون مرافقين أو وفد، أو على الأقل مترجم، وكان واضحًا التعالي الروسي في التعامل معه بحيث لم يوضع العلم السوري إلى جانب الأسد، وكالمرات الأخرى، لم تُعلن وسائل إعلام النظام عن الزيارة إلا بعد يوم كامل من حصولها.
ثانيًا: في الشكل والمضمون
في الشكل، كانت الطريقة التي استُدعي فيها الأسد إلى لقاء بوتين في المرات الثلاث غير لائقة برئيس، وأوضحت بلا لبس أن الروس يتعاملون مع الأسد مثل مدير تنفيذي لمخططاتهم، وأنه ضعيف إلى درجة لم يكن قادرًا فيها على فرض حضور وفد معه يضم مرافقيه أو معاونيه السياسيين أو الأمنيين، ويدعم هذا الافتراض أن الروس هم من أعلن عن اللقاء في كل المرات، وهم من أعلن عن ما دار خلالها بين الرئيسين.
في المضمون، لم يُعرف سبب الزيارة الأخيرة ولا الأهداف الحقيقية من وراء “استدعاء” الروس لرأس النظام السوري، وجلّ ما صدر من تصريحات هي إخبار بوتين الأسد أن روسيا تتوقع من “القوات المسلحة الأجنبية الموجودة في سورية” الانسحاب من سورية، وأن مثل هذا الانسحاب “سيكون جزءًا من تسوية للحرب الطويلة”، وتأكيده على ضرورة أن يتحول الاهتمام إلى المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار بعد التسوية السياسية.
لم يتضح على الفور المقصود بـ “القوات الأجنبية” التي أشار إليها بوتين، حيث إن لروسيا وإيران والولايات المتحدة وتركيا ولبنان والعراق والأكراد وغيرهم قوات عسكرية وميليشيات في سورية، لكن البعض اعتقد أن روسيا ترغب في الانخراط بالجهد الغربي لتطويق وتحجيم النفوذ الإيراني تحديدًا، وأن بوتين قصد بـ “القوات المسلحة الأجنبية” القوات العسكرية الإيرانية والميليشيات المتعددة الموالية لإيران المُقاتلة في سورية، خصوصًا أن هذه التصريحات ترافقت مع زيادة الضغوط الغربية والأميركية على إيران بعد أن أعلن الرئيس الأميركي إلغاء الاتفاق النووي معها.
اعتقد بعض المعارضين السوريين أن روسيا استدعت الأسد على عجل لتخبره أنها لا تريده أن يوقع عقودًا اقتصادية مع إيران، وأملت عليه أن يرفض طلب إيران إقامة قاعدة بحرية جنوب مدينة طرطوس على المتوسط، ومررت عبره هذه الرسائل لعدم وجود رغبة لديها في الصدام سياسيًا مع إيران بشكل مباشر.
لكن هذا الاعتقاد يصطدم بحقيقة أن نظام الأسد لا يستطيع أن يواجه الإيرانيين، خاصة أنهم أصحاب نفوذ وتأثير كبير عليه لا العكس، ولا يستطيع فرض مسار على إيران التي باتت لها قواعد عسكرية عديدة في سورية، إلى الحد الذي صار فيه تحالفه مع إيران مشكلة ومعاداته لها مشكلة أيضًا.
في المقابل، اعتقد المؤيدون للأسد أن هذا اللقاء يُعزز موقفه تجاه الدول الغربية، خاصة أنه عُقد قبل أيام من استقبال بوتين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وقبل نحو عشرة أيام من لقائه بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ونقلت وسائل الإعلام السورية عن الأسد قوله إن اللقاء “فرصة لوضع رؤية مشتركة للمرحلة المقبلة بالنسبة إلى محادثات السلام سواء أكانت في أستانا أو سوتشي” من دون أن يأتي على ذكر محادثات جنيف، التي لا تعترف المعارضة السورية إلا بها كمدخل للحل السوري.
حسم الكرملين الجدل بشأن تصريحات بوتين حول المقاتلين الأجانب، ونفى الاحتمال الذي تداولته المعارضة السورية، وقال الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف إن المسلحين الأجانب الموجودين في سورية سيغادرونها بعد بدء العملية السياسية، إذا كان وجودهم هناك غير شرعي، ورأى أنه يوجد في الأراضي السورية اليوم عسكريون من عدة دول، ووجودهم غير شرعي بحسب القانون الدولي، وشدّد على أن الاتحاد الروسي “ذهب إلى سورية بطلب من القيادة السورية، ولديه كل الأسس الشرعية للوجود بعكس بعض الدول الأخرى؛ فوجودها هناك مخالف للقوانين الدولية”، ومن ثمّ يمكن استنتاج أن روسيا حاولت أن توحي بأنها لا تعني إيران في حديثها عن انسحاب القوات الأجنبية، حتى لا تضطر إلى المواجهة، إذ لم يحن الوقت -من وجة النظر الروسية- لفكّ الارتباط مع إيران في سورية في الوقت الراهن.
لكن مبعوث الرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرنتيف، عاد ليثير التساؤلات عندما قال إن المقصود من تصريحات بوتين بشأن الحاجة إلى انسحاب القوات الأجنبية من سورية هو جميع المجموعات العسكرية الأجنبية التي توجد على أراضي سورية، بما فيها القوات الإيرانية وميليشيات (حزب الله) والقوات التركية والأميركية. وقال إن كلام الرئيس الروسي يُمثّل “رسالة سياسية”، لكنه دعا إلى عدم النظر إليه كبداية لعملية انسحاب القوات الأجنبية من سورية، لأن انسحاب هذه القوات برأيه “مسألة معقدة للغاية لأنه يجب تنفيذ هذه الإجراءات جماعيًا، وينبغي أن تبدأ هذه العملية بالتوازي مع سير إحلال الاستقرار”.
ثالثًا: استدعاءات استعراضية
يُعتقد أن تكرار استدعاء بوتين للأسد كل بضعة أشهر يصب في خانة الاستعراض أمام الغرب والقوى الإقليمية في الشرق الأوسط، لتذكيرها أن سيد الكرملين هو المسيطر والمهيمن على القرار السوري، وأن الأسد يدير الأزمة وفق المعايير الروسية، وأن الملف السوري يُدار بيد روسية فقط، واللقاء الأخير جاء خصوصًا بعد أن تبيّن أن الضربة العسكرية الثلاثية (الأمريكية – البريطانية – الفرنسية) لم تأخذ مداها بعد.
في لقاء حميميم السابق بين بوتين والأسد، أمر الأول ببدء التحضير لسحب القوات الروسية من سورية، وقال “آمر وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة ببدء سحب مجموعة القوات الروسية إلى نقاط مرابطتها الدائمة”، وتوعّد من أسماهم بـ “الإرهابيين” بأنه سيوجه إليهم ضربات لم يروها من قبل “في حال رفعوا رأسهم من جديد”، وسرعان ما أعلن نائب ﻭﺯﻳﺮ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ الروسي ﺃﻭﻟﻴﻎ صيرومولوتوف ﺃﻥ سحب القوات الروسية من سورية “يتوقف على تطورات الوضع”، وأن القاعدتين العسكريتين في حميميم وطرطوس “ستواصلان العمل”، أي أنه أفرغ إعلان بوتين من مضمونه كلّيًا، ليتبيّن بعد ستة أشهر أن روسيا لم تسحب أي جندي من جنودها، بل على العكس زادت من أعدادهم في سورية بشكل كبير.
في لقاء سوتشي الأول، أكّد بوتين أن المرحلة المقبلة تتطلب التوصل إلى حل سياسي، وقال إن روسيا تُعوّل على مشاركة الأمم المتحدة بشكل فعال في التسوية في سورية، وشدد على ضرورة تنظيم العملية السياسية لحل الأزمة السورية.
لكن روسيا عرقلت -خلال سبعة أشهر- تمرير مشاريع قرارات في مجلس الأمن كان يمكن لها أن تُخفف من حدة التدمير والقتل في سورية، كما أوقفت قرارات أممية تسمح بتمديد مهمة لجنة التحقيق الدولية في استخدام الأسلحة الكيماوية في سورية، ونشرت المزيد من وحداتها العسكرية في مناطق متعددة بما فيها العاصمة دمشق وريفها، وحرصت على حماية النظام السوري سياسيًا وعسكريًا، وساعدته في طرد المعارضة السورية من آخر معاقلها قرب العاصمة دمشق، ولم تقم بأي خطوة تُترجم من خلالها ما قاله بوتين للأسد في ذلك اللقاء.
تُشدد المعارضة السورية على أن روسيا شريكة للنظام السوري في جرائمه وفظاعاته، لأنها قتلت منذ تدخلها العسكري في سورية في 30 أيلول/ سبتمبر 2015 أكثر من 6133 مدنيًا سوريًا، بينهم 1761 طفلًا، وارتكبت 317 مجزرة، ودمّرت 167 منشأة طبية، و140 مسجدًا، و55 سوقًا، وشنّت 223 هجومًا بذخائر عنقودية، و122 هجومًا بأسلحة حارقة، وساندت النظام السوري بثلاث هجمات كيماوية؛ وعليه فإنها -وفق المعارضة- لا يمكن أن تُقدّم أي حل، ولا يمكن أن تتخلى عن النظام السوري أو تعمل ضدّه، وهذه هي -في رأيها- ضوابط لقاء بوتين مع الأسد.
رابعًا: أستانا تُترجم الأهداف
توّجت روسيا خلاصة اللقاءات الثلاثة عبر اجتماعات أستانا، التي باتت عبارة عن سلسلة طويلة من الاجتماعات التي يُخشى ألّا تكون لها نهاية، وهي اجتماعات تهدف إلى سحب البساط من مؤتمر جنيف الذي توافقت الدول الكبرى على مخرجاته المتمثلة أساسًا ببيان جنيف 1 الذي ينص على أن الحل السياسي في سورية يحصل عبر تشكيل هيئة حاكمة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة تبدأ بإدارة المرحلة الانتقالية وتُشرف على كتابة دستور جديد لسورية وتُحضّر لانتخابات برلمانية ورئاسية بإشراف أممي ودولي.
لكن الروس في النسخة التاسعة من أستانا، وبتغطية من الدول الضامنة لاتفاق مناطق خفض التصعيد في سورية (تركيا وإيران)، أرادوا شيئًا مختلفًا، ودفعوا الأطراف المشاركة في أستانا، وهم النظام وبعض المعارضين السوريين الأفراد الذين لا يُمثلون أي تكتل أو هيئة أو تجمع معارض مُعترف به، إلى بحث فكرة تشكيل “لجنة دستورية”، وافق رأس النظام السوري على إرسال قائمة من مرشحيه ليكونوا أعضاءً فيها، تكون مهمتها “تعديل” الدستور الحالي من قبل المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، أي دستور 2012 الذي لا تعترف به المعارضة السورية نهائيًا، والذي يمنح الرئيس السوري صلاحيات استثنائية لا يتمتع بها أي رئيس دولة آخر، ويمنحه القدرة على التحكم بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائي بشكل كامل.
كل ما نتج عن أستانا بنسخته التاسعة هو استمرار عمل مناطق خفض التصعيد وحمايتها، أي زيادة الفرص أمام النظام والروس للسيطرة على مفاصل الواقع الميداني، كما أوصى بـ “مواصلة الجهد المشترك الذي تهدف إلى تعزيز عملية التسوية السياسية من خلال تنفيذ توصيات مؤتمر الحوار السوري في سوتشي”، وهو المؤتمر الذي حاور النظام فيه نفسه عبر معارضة مُصنّعة مفتعلة لا تعترف بها معظم الكيانات المعارضة السورية التقليدية.
لا بدّ من التذكّر دائمًا أن الولايات المتحدة لم تحضر محادثات أستانا، وإن حضرتها في وقت سابق فمن دون تمثيل رسمي ومن دون مشاركة، فهي لا تعترف بهذه المبادرة كمدخل لحل القضية السورية، وأعلنت غير مرّة أن مسار جنيف هو المسار الوحيد المعترف به دوليًا والمقبول أميركيًا والقادر على إنهاء الحرب السورية، والذي ينطلق من مبدأ تغيير السلطة السياسية تدريجيًا.
وتعزيزًا لأستانا، وفي المقرّ نفسه في سوتشي، وبالتزامن مع استدعاء بوتين للأسد، التقى الرئيس الروسي بالمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، والتقى أيضًا بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبحث عددًا من القضايا على رأسها الملف السوري، في مسعى روسي لكسب تأييد للخطط الروسية حول طريقة حل الأزمة السورية، وسعي روسي لتوزيع حصص ملف إعادة الإعمار بينه وبين الغرب، على أن يتم ذلك “بالتنسيق مع السلطات الشرعية” وفق قول بوتين خلال اجتماعه بميركل.
خامسًا: حضور إسرائيلي
في الأسبوع الذي سبق “استدعاء” الأسد إلى سوتشي، التقى بوتين برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في موسكو، وكان الوضع السوري على سلّم أولويات المحادثات بين الجانبين، وفي عقبها، قال فلاديمير كوجين، مساعد بوتين الذي يُشرف على المساعدات العسكرية الروسية للدول الأخرى، إن روسيا لا تجري محادثات مع الحكومة السورية لإمدادها بصواريخ (إس 300) أرض جو المتطورة ولا تعتقد أنها ضرورية، في تحول لافت في موقف موسكو لم يخف على المحللين. كذلك أعلن بوتين أن سفنًا عسكرية روسية مزودة بصواريخ (كاليبر) الموجهة ستكون في حالة تأهب دائم في البحر المتوسط للتصدي لما وصفه بـ “التهديد الإرهابي في سورية”، وهو رسالة تطمين إلى الإسرائيليين تؤكد أن روسيا ستسعى لمنع أي امتداد للحرب إليها.
يبدو أن الخلاف بين روسيا و”إسرائيل” ليس جوهريًا حول إنهاء النفوذ الإيراني في سورية، وبعد أن ساعدت روسيا النظام السوري على استعادة الغوطة الشرقية وجنوب دمشق، بدأت الأطراف التفكير في مرحلة ما بعد الغوطة، وطُرحت فكرة توجّه قوات النظام إلى جنوب سورية، وهو أمر يُقلق الإسرائيليين، خاصة بوجود ميليشيات تابعة لإيران ضمن وحدات وقوى النظام في الجولان ودرعا، وهي تخشى أن ينهار وقف إطلاق النار الذي فرضته الولايات المتحدة في جنوب سورية.
رزمة الشروط التي فرضتها الولايات المتحدة و”إسرائيل” خلال الفترة السابقة والتي تتعلق بتجنب العمل العسكري في جنوب سورية، وتحييد السلاح الثقيل، وانسحاب الميليشيات الموالية لإيران إلى مسافات متفق عليها تصل إلى 25 كيلومترًا من الحدود مع الأردن و”إسرائيل”، ومحاربة فصائل الجيش الحر تنظيمي (جبهة النصرة) و(جيش خالد) التابع لـ (تنظيم الدولة الإسلامية)، دفعت طهران لحثّ النظام السوري على التوجّه إلى جنوب سورية، وإلى المناطق القريبة من الحدود الإسرائيلية التي تُشكّل مناطق أمن قومي إسرائيلي، وحاولت الإيحاء أكثر من مرّة بأن لديها إمكانية الردع العسكري لإسرائيل في حال تصاعدت المواجهات في الجنوب، وهو ما اعتبره الروس مغامرة فيها مخاطر.
هذه النيات، دفعت “إسرائيل” خلال الأسبوعين اللذين تليا “استدعاء” الأسد إلى سوتشي إلى التصعيد عسكريًا وشن هجمات متتالية وموجعة ضد أهداف عسكرية إيرانية في سورية، منها مطارات اتخذتها القوات الرديفة الحليفة لإيران مقرات لها وأنشأت فيها مخازن أسلحة، ومنها معسكرات أو مقرات للأمن والقوات المسلحة السورية باتت في السنوات الأخيرة مرتكزات للميليشيات التابعة لإيران.
في هذا السياق، لا بدّ من التذكير بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكد لكتلته في البرلمان في تصريحات بثها التلفزيون الإسرائيلي أن موقفه بشأن سورية واضح، وقال “نعتقد أنه لا مجال لأي وجود عسكري إيراني في أي مكان في سورية” وهذا يتوافق تمامًا مع الاستراتيجية الأميركية المُعلنة.
قد تتوافق روسيا و”إسرائيل” على ضرورة إقصاء اللاعب الإيراني عن حَلبة الصراع السورية، ولا تُمانع من توجيه ضربات مؤذيه له، لكن بالتأكيد تُفضّل أن تكون محدودة، وفي الغالب يعتقد الكرملين أنه بات من الضروري منع إيران من أن تتحصن في جنوب وجنوب غرب سورية مراعاة لإسرائيل، خاصة أن روسيا هي القوة الكبرى الوحيدة التي لها علاقات مهمة مع إيران، وتُنسّق معها في العمليات العسكرية في سورية، لكنّها في الوقت نفسه، باتت تشعر أن التمدد الإيراني غير محدود، وكذلك النيات الإيرانية بالتغلغل عميقًا في المجتمع والدولة السوريين، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، وهو ما لا يتوافق مع الاستراتيجية الروسية في سورية، يُضاف إلى ذلك رغبة روسيا في عزل نفسها نسبيًا عن إيران التي تُعاني عزلة دولية شبه كاملة.
سادسًا: إيران بيت الداء
قالت وسائل إعلام روسية إن بوتين أبلغ رأس النظام السوري خلال استدعائه له أن روسيا لن تُدافع عن إيران في سورية، وليست معنية بذلك في الوقت الراهن، وستقف على الحياد تجاه أي استهداف للقوات الإيرانية والميليشيات الموالية لها.
يأتي ذلك في عقب تطورات دولية ضد إيران، بدأها الثلاثي الدولي (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا) بشنّ ضربات عسكرية استهدفت مواقعَ عسكرية في سورية في 14 نيسان/ أبريل 2018 يُرجَّح أن تكون على صلة بنشاط طهران العسكري في سورية، أتبعتها “إسرائيل” بشنّ غارات جوّية على مراكز تابعة للقوات الإيرانية والميليشيات التي تدعمها طهران، في ما يشبه التنسيق بين الضربتين، ثم توّجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعلانه انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع طهران من طرفٍ واحد، وفرض عقوبات اقتصادية “على أعلىٍ مستوى” ضد إيران.
يعزّز هذه الفرضية موقف روسي بدأ يتضح تدريجيًا، فقد صمتت روسيا تجاه ضرب الثلاثي الدولي لأهداف عسكرية في سورية، ولم ترد على تهديدهم بالمزيد من الضربات، كما صمتت عن الضربة على الرغم من علمها المسبق بأهدافها التي بدت إيرانية الطابع أكثر من كونها تتعلق بالبنية العسكرية للنظام السوري، وصمتت أيضًا تجاه ضرب سلاح الجو الإسرائيلي لأهداف إيرانية في سورية مؤخرًا، ما يوحي بقوّة بوجود تنسيق أميركي – روسي في ما يخص الضغط على إيران.
كانت إيران حليفًا لروسيا في حربها في سورية، وتوافقتا على دعم النظام السوري إلى أقصى حد، كما انسجمتا في الرؤية بضرورة تدمير المعارضة السورية وحواضنها الشعبية مهما كلّف ذلك من دمار وخسائر بشرية في صفوف المدنيين، لكن التحالف بينهما كان أيضًا موقّتًا وتكتيكيًا، وجاء ضمن خيارات الضرورة التي لا بديل منها؛ فروسيا تريد في سورية قوى عسكرية على الأرض لم يعد النظام السوري قادرًا على تأمينها بسبب خسائره الكبيرة في الأرواح وانهيار جزئي لميليشياته وقواته العسكرية، وإيران تريد دعمًا جويًا ودولة كبرى تُغطي أفعالها، لأنها غير قادرة وحدها على إنقاذ النظام السوري ومجابهة القوى الدولية، ولا حتى الإقليمية والمحلية.
الأهداف الروسية في سورية مختلفة عن الأهداف الإيرانية، بل هي متضاربة في كثير من جوانبها، وهذا ما أوصل العلاقة بينهما إلى طرق بعضها مسدود، وطفت الخلافات الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية بينهما في سورية، فعطّلت موسكو اتفاقيات عسكرية واقتصادية بمليارات الدولارات كانت طهران وقّعت على مشاريعها الأولية مع النظام السوري، منها قاعدة عسكرية في طرطوس، ومصفاة لتكرير النفط، وشبكة مُشغّل خليوي وغيرها، وبات الدور الإيراني يُشكّل عبئًا على روسيا، خاصة مع وجود إجماع دولي على نبذ نظام طهران إلى الحد الأقصى.
إلى ذلك، يمكن ملاحظة أن موسكو وسّعت وجودها العسكري في سورية، حجمًا ونوعًا، وباتت قادرة جزئيًا على الاستغناء عن الدعم العسكري البري الإيراني، وصارت تُراهن على “اتفاقيات المصالحة” وتُشرف عليها وترعاها، وهذا ما حصل في حلب وحمص وجزء من ريف دمشق الشرقي.
تأتي تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في 28 أيار/ مايو بأن “قوات الحكومة السورية هي الوحيدة التي يجب أن توجد على الحدود الجنوبية” في منزلة إشارة إلى إيران بسحب قواتها من الحدود الجنوبية لسورية، والذي هي في الوقت نفسه مطلب إسرائيلي وأميركي.
سابعًا: افتراق تدريجي
تستعجِلُ موسكو الحل في سورية خوفًا من ارتفاع الفاتورة العسكرية والاقتصادية والسياسية، ومع ارتفاع الأصوات في روسيا الرافضة للحرب والمطالبة بتبيان المكاسب الروسية في هذه الحرب وكذلك الغايات النهائية، والمطالبة أيضًا بتوضيح سبب التضحية بالمقاتلين الروس في سورية، سواء أكانوا من الجيش الروسي النظامي أو من مرتزقة ميليشيات (فاغنر).
توحي المسارات التي تجري فيها الأوضاع العسكرية والسياسية، أن موسكو ضغطت بالفعل هذه المرة على الأسد حين استدعته، وأوصلت له فكرة أنه آن أوان وقف إطلاق النار الكلي، كما آن أوان البدء في أولى خطوات الحل السياسي، وأن بقاء النظام وتعويمه لا بدّ أن يُقابله إجهاز على الدور الإيراني في سورية.
تُدرك موسكو أن تدخلها العسكري في سورية صار أقرب إلى الورطة، في ظل الرفض الأميركي والغربي للانخراط في مساعي الحل على الطريقة الروسية، وترتفع التكاليف الروسية وتزيد الخسائر، وتحاول روسيا ألّا تغرق في المستنقع الذي بدأت إيران تغرق فيه، كما أنها بدأت تُدرك أن استثمار المأزق الإيراني الراهن قد يُرضي الأطراف الغربية نسبيًا ويقنعها أن تنخرط في الحل السياسي في سورية.
تحسب روسيا حسابًا لردة الفعل الإيرانية، وقد لا تستطيع موسكو وحدها استيعابها، لهذا تُفضّل التدرج البطيء السلبي في العلاقة مع إيران، وفي الوقت نفسه تُرحّب أن تُدمّر الدور الإيراني قوى إقليمية ودولية أخرى غيرها، كما تُرحّب برفع مستوى العقوبات الاقتصادية ضدها، وبالضربات الجوية الإسرائيلية لقواها العسكرية، وهذا ما يحصل عمليًا.
يبدو هذا السيناريو متفائلًا بشكل مُفرط، لأن الافتراق الروسي – الإيراني لا يمكن أن يتم بهذه السهولة والسرعة، فمن غير المتوقع أن تُسلِّمَ طهران به بسلاسة وهي التي تغلغلت في سورية عسكريًا واجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيًا، ولن تتردد في افتعال إشكاليات كبيرة حتى لروسيا فيما لو اتّخذت موقف مواجهة علني ومباشر ضدها، فلدى إيران ميليشيات طائفية الطابع كـ (حزب الله) اللبناني، و(الحشد الشعبي) العراقي و(الحوثيين) اليمنيين وغيرهم الكثير، يمكنهم “المشاغبة” حين تطلب إيران ذلك، كما أنها قادرة على تشكيل حركات جهادية جديدة، تستهدف مصالح روسيا ومصالح غيرها من الدول لخلق حالة عدم استقرار في هذه الدول وفي الشرق الأوسط عمومًا.
كذلك، لن تدفع العقوبات الاقتصادية وحدها طهران لتقديم تنازلات من هذا الحجم، تنازلات تتعلق بجوهر مشروعها طويل الأمد في الشرق الأوسط، الذي يمكن أن يُعجِّل في تقويض أركان النظام الثيوقراطي الحاكم. كما أنَّ الصين تُبدي استعدادها لشراء المزيد من النفط الإيراني وكسر طوق العقوبات الأميركية، والموقف الأوروبي من العقوبات والمقاطعة مُتردد وبطيء لأن مصالحها المالية ستتضرر فيما لو التزمت العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة على طهران.
كذلك، لا بدّ أن طهران، البارعة في حياكة المؤامرات، قد وضعت حساباتها لمثل هذه اللحظة، منذ أن بدأ التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية قبل نحو سنتين ونصف، وسبق لها أن أعلنت عدم ثقتها بالرئيس السوري في أكثر من موقف، ووصفته وسائل إعلام مقربة من الرئيس الإيراني بأنه “ناكر للمعروف”، كما قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، في 21 ايار/ مايو إن إيران “ستبقى في سورية طالما هناك إرهاب، وطالما أرادت ذلك حكومة دمشق”، مضيفًا “لا أحد يستطيع إرغام إيران على الخروج من سورية، ومن يجب أن يخرجوا هم من دخلوا إلى هذا البلد من دون إذن الحكومة”، مُعلقًا بذلك على التصريحات الروسية التي أشارت إلى “ضرورة إنهاء الوجود الأجنبي في سورية”، وهي تصريحات تؤكد ازدياد حدة الخلاف الروسي – الإيراني، إلاَّ أنها تؤكد أيضًا أن طهران لن تُسلِّمَ بسهولة.
ثامنًا: خاتمة
في الغالب الأعم، يستمر الرئيس بوتين –من خلال استدعائه للأسد- في مناوراته السياسية، التي تسندها مناورات عسكرية مستمرة تسعى لترسيخ القوة الروسية داخل سورية، لكن مناوراته السياسية تبدو ضمن سقف واضح، سقف يدعم النظام السوري إلى النهاية، ويرفض مطالب المعارضين للنظام السوري الذين قاموا بثورة من أجل الحرية والتعددية والخلاص من الديكتاتورية والحكم الأمني الشمولي.
ومع هذا، تتوافق الأطراف الخارجية المتدخلة في الحرب السورية على ضرورة أن تتوقف إيران عن سياستها التوسعية وتعود إلى حجمها الطبيعي، وإن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي ليس أخطر القضايا التي تنتظر إيران، فهناك التوافق الروسي – الإسرائيلي، والعقوبات المتتالية التي تفرضها الخزانة الأميركية ضد شخصيات من (حزب الله) اللبناني – الإيراني، وضرب “إسرائيل” للمواقع العسكرية الإيرانية في سورية، وإعلان مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي عن اثني عشر شرطًا على إيران تتلخص في ضرورة إعادة إيران صوغ كل نظامها، وليس فحسب تدخلها في المحيط الإقليمي، وفي أن تصدير الثورة والأزمات إلى الخارج قد انتهى زمانه، وإضافة إلى ذلك، هناك “إسرائيل” المتضررة من (حزب الله)، ودول الخليج التي دفعت المليارات لتحجيم النفوذ الإيراني، وهناك طبعًا الأزمة الاقتصادية والسياسية العميقة التي تهيمن على إيران في الداخل، والتي تهدد بتجدد الثورة الشعبية والسياسية.
تعتقد روسيا أن إيران تنافسها على الثروات الباطنية السورية، وعقود إعادة الإعمار، والمشاريع الاقتصادية، فضلًا عن منافستها لها على خرائط النفوذ العسكرية والأمنية، وهي الموجودة عمليًا في معظم مناطق الوجود الروسي ومناطق سيطرة النظام، وتستخدم الأسد لتمرير رسائلها عبره، وفي الغالب فإنها، مع الولايات المتحدة، لن تسمح لها بأن تصبح دولة إقليمية ذات شأن كبير، ولن تسمح لها بمنافستهما في هذه البقعة المهمة والخطيرة من الجغرافيا الدولية، وإيران من دون شك غير قادرة على مواجهة هذه التحديات مجتمعة.
عن موقع جيرون