اختلفت الآراء حول أنواع الزمن ، وقد تم تقسيم الزمن إلى :

ــ زمن طبيعي : إنَّ لهذا الزمن خاصيَّة موضوعيَّة من خواص الطبيعة ، وله جانبان ( الزمن التاريخي والزمن الكوني ) ، فالزمن الطبيعي مرتبط بالتأريخ ، لأنَّ التاريخ يُمثل " إسقاطاً للخبرة البشريَّة على خط الزمن الطبيعي ، وهو يُمثل ذاكرة البشريَّة ، يختزن خبراتها مدونة في نص له استقلاله عن عالم الروايَّة ، ويستطيع الروائي أن يغترفَ منه كلما أراد أن يستخدمَ خيوطه في عمله الفني " . إنَّ أي عمل روائي يعتمد على حدث ما أو قصة ، لا شكَّ أنَّه قد وقع في زمن محدَّد ومكان محدَّد ، أي أنَّ

هذا العمل وقع في تاريخ ، غير أنَّ هذا التاريخ الذي انتقل إلى الأعمال والنصوص المعتمدة على الحياة يعني أنَّه يعاني من هيمنة الموضوعة التاريخيَّة على السياق التخييلي . لهذا نجد أنَّ للزمن الطبيعي علاقة وثيقة بالتاريخ ، وهذا ما نحاول استجلاءه واستكشافه في روايات الكاتب ، حيث نجده قد وظَّف هذا الزمن (التاريخي) في روايَّة ( ليالي الأنس في شارع أبي نؤاس) " الأيام التالية قلائل. حميد جمع بقية اغراضه في صمت . اخيراً سألني : كيف حالها؟

ـ تنزف خمسة ايام

ـ ما قول الاطباء ؟

ـ ربما تنزف يومين ثلاثة اخرى

ـ خطر موتها وارد؟

ـ نزيفها غير قاتل "..

يوحي لفظ (الأيَّام) في النَّص بتحديده (خمسة ، يومين ، ثلاثة) عن المدَّة التي تقضيها الفتاة (نعيمة) في المستشفى وهـي تنزف. وفي لجة الحساس بالذنب ، بسبب حبل(نعيمة)

منهما: (سامي) و(عداي) ، يدرك (سامي) أنَّه حتى المشاعر السلبيَّة كالجبن والخوف ، ضروريَّة أحيانا ًمحتومة للانتباه وتدارك خطأ . (نعيمة) في عالم غير معقول في فردوس مهجور غزاه فيروس قاتل، فيروس التحزب إلى فئة ، والنتيجة عراك دائم . أمَّا (عداي) فقد أمسى نجماً أسود ضاع بريقه وراح يتهدم من الداخل

كبناء قديم آيل لسقوط (حميد) مهدم ، شاحب لم يعد كما كان ، فيه من الغضب والكراهيَّة الكثير بسبب فعلته الشنيعة " حطمتم إنسانة ، جعلتم العالم أمامها كله خطأ ". في تعاطف معها واضح طبعاً .

في هذا النوع من السرد إيحاء رمزي من قبل الكاتب ، فمن خلال إغتصاب (نعيمة) يُلمّح الروائي من طرف خفي إلى أنَّ الكل ساهم باغتصاب الأمل الجديد ، ثم إجهاضه بطريقة وحشيَّة جعلت (نعيمة) تنزف كعراق اليوم المنكوب زمناً مديداً .

يعود الكاتب إلى (نعيمة) يتابع مصيرها ، إي مصير العراق ، فنراها تمر في مراحل مختلفة بدءاً من الخطيئة ، حين تنحدر إلى قاع بيوت البغاء ،فقد صارت تعيش في بيت متعة ، في محلة الميدان القريبة من باب المعظم والمعروفة بأزقتها وبيوتها المشبوهة آنذاك "عزمت أخيراً الذهاب والبحث عنها في ذلك البيت المشبوه ، وصفته كلمات عداي بين بيوت الميدان أخزى من الخزي "كأنَّ المؤلف يقول إن تاريخ العراق يضيع حين تتغلب الإرادة الخارجيَّة على الذاتيَّة ، فيجدها الفنان المتحرر الذهن (سامي) وأهل الدار والسمسار يلقبونها بالأميرة "طول عمرك أميرة".

في البداية ترفض (نعيمة) عرض (سامي) في رجوعها إلى الشقة متعذرة بأن أمور البلد منذ الحـرب زادت اضطرابـاً ، وهـو غـير قـادر عـلى حمايـة نفـسه ، وعليـه فكّـرت فـي الهجرة إلى الخارج كمئات غيرها حيث تترك الوطن لتذهب إلى بيروت، هناك تلتقي (حميد) في فترة كأنَّها فترة نقاهة ، ثم تعود في نهاية الروايَّة امرأة واعية تشارك في انقاذ الوطن من هوان يتعرض له نتيجة احتراب شخصيات الرواية على خلفية احتراب الوطن كله .

كما يبدو التعيين الدقيق للزمن في تحديده مدة السجن ، واستعادة الراوي نظام الحياة فيه، وحفلات التعذيب " وبعد يا صاحبي فقد كان المفروض أن أقضي هناك أحد عشر عاما بالتمام والكمال ، ولكني قضيت منها ثلاث سنوات وأربعة أشهر وسبعة أيام فقط ". لقد عاش (مزعل) تجربة السجن مستشعراً تفاصيل الزمن ، ومنتظرا يوم الخروج ، لذلك لم يكن غريبا أن يكون لحساب الزمن أهمية كبرى لديه ، فالثلاث

سنوات وأربعة أشهر وسبعة أيام التي قضاها في السجن تعني له ما لا تعنيه لجلاديه.

وليس التاريخ أو الشهر وحده ما يؤكد دقة التحديد الزمني ، فمسميات الأشهر والأوقات والساعات تتوالى بشكل كبير في الرواية ، حيث يسترجع بالتحديد الزمن الذي بدأت فيه المعاناة " كانت آخر مرة رأيت فيها زوجتي في شباط عام 1955في مركز شرطة لواء البصرة ، في أوائل شباط على وجه التحديد ".

في حين يمكن لنا ملاحظة الوعي بالزمن وتحديده في رحلة (خالد) التي يحاول فيها أن ينسى ماضيه ليبدأ حياة جديدة ، ففي طريق الرحلة يسرد زمنه النفسي " إنها الرابعة والنصف وست دقائق آن لامست الأقدام أرض المطار الغريبة وجست الأبصار أرجاء سماء لا تختلف كثيرا عن سماء الوطن البعيدة".

لقد أدرك (خالد) أنه فقد بوصلته الزمنية في موسكو ، وأنه اتخذ القرار الخاطئ بمغادرته أرض الوطن ، فلكل مكان زمنه الخاص . " في لحظات ما يدرك مغترب أن عمره توقف لحظة غادر وطنه ، وهو يشيخ دون أن يكبر".

ومما يؤكد خصوصية التجربة الزمنية في الرواية الاحتفاء بأشكال عدة من معينات الزمن ومسمياته ، سواء الدالة منها على التحديد أم الاستغراق (أيام الأسبوع ، المساء ، الصباح ، الليل ، النهار ، بعد ، قبل ، منذ ، خلال).

أما عمر الشخصية الذي قدمته الرواية " كان خالد قد تجاوز الثلاثون من عمره"، فقد انعكس في الاهتمام بتحديد أعمار شخصيات أخرى " جاءته ستالينا مرة ومرتين إلى غرفته ، احتفلا سوية ببلوغها الواحدة والعشرين".

أما الزمن الكوني فيتحدد في الرواية بوصفه الجانب الثاني من الخاصية الموضوعية للزمن الطبيعي من خلال أوقات اليوم : الصباح ، المساء ، الاسابيع ، الايام ، الشهور والفصول والاعوام والسنين والعقود والدهور. ويتجلى هذا الزمن في رواية ( ليالي الانس في شارع ابي نواس) فعلى سبيل المثال يقول الراوي " أخيرا نزلت أمطار تشرين الثاني مدرارة ، فرح فقراء العاصمة لكن خافوا إظهار فرحتهم ، إنهيار سقف حقيقي أو غيره على الرؤوس محتمل في جو متلبك عموما ، لم يبال آخرون سوى بزرع تآلف في حـدائقـهم ، نقـل الجـميع مجلسه إلى داخـل المقهـى ، المستشفى

استقبلت جرح صدمات الجيش بأفراد الحرس القومي بعضهم لم يغادر موقعه على المباني الحكومية توقعت أرى عداي ، صديقه حردان ، آخر من قادة معهدنا ربما، محمولا في الداخل على محفة إسعاف.عداي غاب عن الشقة من أيام ، حميد غادرها عازما الهجرة عند القدرة".

*كاتبة من بغداد