ظلّ التوت الأحمر
خاص ألف
2018-07-07
كفّ المطر، فصاحت عواطف بجذل؛
ـ الشمس!.
فنظرنا إلى الجدار.. كانت الريح تهب، ربما لتطرد الغيمة الهائلة التي بدت مثل ثدي ضخم تستقر فوقنا، واهتزت شجرة التوت اليافعة راسمة ظلاً متحركاً بإيقاع بطيء كأنه حيوان يجري، وانتشر الدفء.. قلت:
ـ انظري. إنها غزالة!.
ردّت بإنكار:
ـ كلا. إنه حصان.. ألا ترى عرفه وأرجله القوية؟.
ـ إنها غزالة.. لاحظي أنها صغيرة.. الحصان لا يمكن أن يكون بهذا الصغر.
ـ إنه حصان، صدّقني.. حصان بعيد.. يتراءى صغيراً لأنه بعيد.
فسكتُ وأخذتْ تضحك. ثم وضعتْ يدها على كتفي وضغطتْ عليها بأصابعها الطويلة الدقيقة، وكانت أظفارها حمراء، فتملصتُ منها.. أتخذ ضحكها رنيناً مغايراً.
ـ سأتزوجك غصباً.
بقيتُ أحدّق في الجدار، وأراقبُ ظل الجدار المجاور الذي يتسع رويداً رويداً ليلتهم الغزالة/ الحصان.
ـ هل أزعجتك؟.
لم أنبس.
ـ تعال إلى غرفتي.
رفضتُ من غير أن أتكلم.. اكتفيتُ بهز رأسي، وعيني على الجدار حيث الغزالة ما تزال تجري، والريح ما تزال.
ـ عندي مجلات جديدة.
ـ هاتيها.
عواطف امرأة قصيّة.. كانت سمراء مثل جذع رشيق مشبع بماء المطر، مترعة بالحكايات والأكاذيب والتمنيات والغموض.. امرأة من المدينة الكبيرة، والمدينة الكبيرة حلم لذيذ في المخيّلة.. جاءت تنشد بيتاً أو غرفة.. قالت لها أمي في لحظة شفقة أو مزاج، أو بدافع الحاجة:
ـ عندي لك غرفة.
وسكنت معنا بخمسة دنانير في الشهر.
عواطف امرأة من المدينة الآسرة المضيئة التي لم أرها سوى مرة واحدة.. ممرضة البلدة الجديدة، باسقة وثرثارة، ونظراتها ثاقبة، استفزازية، لحوح.. قالت أمي:
ـ إنها تحب المزاح معك.
بيد أنها، بعد أيام، أسرت في أذني.
ـ إياك أن تدخل غرفتها وحدك وإن جرّتك جراً.
ـ لماذا؟!.
ـ عيب.
ولم أسأل عن علّة هذا العيب.
في ذلك اليوم البعيد، حين عدتُ من المدرسة، لم تكن أمي في البيت، غير أن عواطف كانت هناك، وكان المطر يسقط طوال ما قبل الظهيرة.. دخلتُ، وكان المطر قد توقف وطلعت الشمس، والغزالة على الجدار، أو الحصان كما أكدتْ هي بإصرار، وشجرة التوت كانت مورقة، تحمل حبات التوت الخضر الفجّة.. سألتُ:
ـ أين أمي؟.
ـ في بيت خالتك.
ـ وأنتِ، لِم في البيت؟.
ـ إجازة.. ما درجتك في الجغرافية؟.
ـ لم يصحِّح المعلّم الأوراق بعد.
ـ أتتغدى الآن؟.
دلفتُ إلى المطبخ فتبعتني.
ـ بدّل ملابسك، سأصب لك.
بعد الغداء قالت:
ـ جاءني ساعي البريد بثلاث مجلات.
ـ أين هي؟.
ـ في غرفتي، اذهب واجلبها.
ترددتُ لحظة، إلاّ أنني وقفتُ أخيراً، وكان ظل الجدار المجاور قد زحف باتجاه غزالتي، أو حصانها. وغزالتي كانت قد زحفت أيضاً إلى الأعلى قليلاً.. هرعتُ إلى غرفتها.. كانت المجلات على السرير.. انحنيتُ لألتقطها.. بوغتُ بذراعها العارية الطويلة تلتف حول خصري.. كيف تسللتْ ورائي ودخلتْ من غير أن أفطن؟. لا أدري.. صُعقت.. حاولتُ الانفلات لكنها تمكّنتْ من احتوائي.. شعرتُ بأنفاسها الساخنة تلهبُ رقبتي، وأظفارها كانت تشتعل بالأحمر.
ـ سأتزوجك غصباً.
ـ دعيني.
أدرتُ رأسي.. كان في عينيها شيء عدائي وشرس، ويبعثُ على الإشفاق أيضاً، كما لو أنها حيوان محاصر.
ـ ماذا تريدين؟.
كنتُ الآن محاطاً بذراعيها، ألبطُ من دون جدوى.
ـ لماذا تهرب مني؟.
ـ غداً عندنا امتحان في التاريخ.
ـ كذاب.
ـ دعيني.
واستغرقتُ في نشيج يائس.
ـ لم تعد طفلاً.. السنة القادمة ستكون في المتوسطة.
ـ دعيني.
ـ وبعد سنوات قليلة ستتمنى عناقاً كهذا.
ـ دعيني.
ـ ستعض شفتيك ندماً.
ـ دعيني.
ـ وأكون أنا قد ابتعدت.
ـ دعيني.
عصرتني بقوة، ومن ثم حررتني، وكنتُ ما أزال أنشج.
ـ اذهب، لن أكلمك بعد اليوم أبداً، أبداً.
خرجتُ وأنا أمسح دموعي، وجلستُ على عتبة غرفتنا؛ الغرفة التي تأوينا أنا وأمي، قبالة غزالتي/ حصانها. وكان ظل الجدار المجاور قد ابتلع سيقانها، وكان الرأس عند حافة الجدار العلوية.. بعد لحظات جاءت عواطف وجلستْ إلى جانبي، على العتبة، فلم أتحرك.
ـ أزعلت؟!.
لم أرد.
ـ كنت أمزح معك.
لم أرد.
ـ أنا هنا غريبة.
لم أرد.
ـ وكل شيء قاحل.
لم أرد.
ـ اسمعني.. ماذا في هذا الجدار اللعين؟.
ـ حصانكِ، مسح الظل حوافره.
ـ همم.. صحيح، شيء مؤسف.. كم أنا حزينة؟.
ـ لأجل الحصان؟!.
ـ لا أدري.
كانت الظلال تتشابك، فتتغير الأشكال.. قلت:
ـ لم يعد هناك حصان، ولا غزالة.
قالت:
ـ لا شك أنك ستصبح فناناً.
كان الضوء ينحسر على الجدار، وأحسست بالدفء يسري في جسدي، وعواطف إلى جانبي، ذراعها لصق ذراعي، وهي صامتة وأنا صامت، أنظر إلى حبات التوت التي ستغدو حمراء ناضجة يوماً ما.. وفجأة سمعتها تبكي، فرحتُ أبكي.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |