زولا، بلزاك، ومسرح الجزائر وأوروبا وما بينهما
خيري الذهبي
2018-07-21
سؤالٌ ملحٌّ
السؤال الذي ألحّ عليّ منذ زمن، ويلحّ هذه الأيام هو: لماذا كان الإبداع العظيم الغامر للأسواق هو من إنتاج الدول (الإمبريالية) مالكة السوق وما فيه؟
لماذا كانت الإمبراطورية الرومانية هي من أنجبت فرجيل وأوفيد، وهل كانت الدول ما دون الإمبراطورية أدنى أو أقل من إنجاب رجلين مثلهما، وكيف انفجرت المعرفة الإغريقية في العالم بعد قيام إمبراطورية الإسكندر المقدوني فقط، وكانت منحصرة في الأرخبيل الإغريقي قبل ذلك؟
ولماذا تقوم تلك الضجة الهائلة حول كاتب متواضع هو إريك سيغال، المؤلف الأميركي لرواية "قصة حب" والتي صنعت فيلماً بسرعة، ووزعت في العالم... ومثل هذه الرواية وما هو خير منها بكثير لا يُقرأ، ولا ينظر إليه باهتمام في الدول الصغرى حيث يعيش الكاتب على شفا الجوع؟ هل لأن أميركا ومنذ الحرب العالمية الثانية كانت سيدة العالم ماليًا وعسكريًا؟ أم لأن لديها وسائل الدعاية الكبيرة؟ أم لأن الشعوب الضعيفة تحب أن ترى أن لدى الدول المنتصرة عليها شيئًا ما متفوقًا، وهذا ما يبرر لها هزيمتها وانتصار الإمبريالية عليها، وهذا الشيء المتفوق لا بد أن يظهر لديها حتى في الفن والأدب، كما في العسكرية والتسلح.
الفنان الذي يظهر في التاريخ لا يمكن له التسمي بالفنان إلا إن كان مغرورًا متخيلًا نفسه رجل القمة التي لا تتسع لغيره، والذي سيكتب التاريخ راجعًا إليه كـ هوميروس وفرجيل وأوفيد.
زولا وبلزاك
كان أمام إميل زولا سبيلان لدخول عالم الكتابة الذي سيحمل اسمه؛ الأول: هو أن يبتكر طريقة جديدة غير معروفة سابقًا في الكتابة كالواقعية التي استنزف بلزاك معظم ما يمكن لها أن تقدمه، أو أن يخترع طريقة ما ليصبح الشهير الأول في عالمه كغوستاف فلوبير صاحب رواية "مدام بوفاري" الذي غامر بدخول عالم المحرمات في جرأة حسده عليها زولا الذي لم يكن معجبًا بطريقة الكسندر دوماس الأب في سرد المغامرات والمفاجآت، صحيح أنه ابتكر شخصيات لا تنسى كـ"الكونت دو مونت كريستو" و"الفرسان الثلاثة" واللتين أعطتا لعالم السينما كنوزًا لا تحصى، كما لم يكن مشدودًا إلى اسكندر دوماس الابن، أو إلى بكائياته في "غادة الكاميليا" وكان يبحث في جد عن طريقة كتابية تتسمى باسمه ويبدع فيها. وكان يذكر معارفه القليلة عن بلزاك ما عدا كتبه التي حفظها عن ظهر قلب والموفورة في مكتبته ليتجاوزها كتابيًا، وقد كان من قراءاته لغريمه ومعلمه بلزاك روايته "زنابق الوادي" وكان من المعروف للجميع أن العلاقة بين أونوريه بلزاك ومحبوبته جين ديغبي، البريطانية، كانت حقيقة وليست مختلقة، فمن هي تلك الشخصية التي استطاعت دخول التاريخ الإمبريالي للقرن التاسع عشر؟
جين ديغبي، أو الليدي اللنبره، هي زوجة وزير الخارجية البريطاني اللورد اللنبره والذي سيصبح بعد الطلاق منها رئيسًا لمجلس الوزراء في بريطانيا، والذي ستسمى زوجته المطلقة لدى بدو تدمر من قبيلة المصراب "ملكة بريطانيا".
كرهت جين حياة زوجات الموظفين الكبار ممن لا يتفرغون لزوجاتهم فقد كانت تريد رجلًا يدور في فلكها فقط، وسرعان ما أقامت علاقة مع شاب من النبلاء البريطانيين، ثم هربت معه إلى باريس حيث تشاجرا بعد فترة، وكانت قد أعجبت بالسمعة الطنانة الحائمة حول الروائي الفرنسي أونو ريه دو بلزاك فعرضت نفسها عليه متحرشة واستجاب لفتنتها مفتونًا، فأقامت لديه لشهور ثم سرعان ما ضاقت بضرتها في المنزل، "الكتابة"، فتخلت عن بلزاك، ومضت إلى ألمانيا التي لم تكن قد اتحدت بعد، ويبدو أن أمير بافاريا (أوتو) قد راسلها فوافقت على المضي لزيارته، وكانت سمعتها الفضائحية النبيلة قد عمت أوروبا فزوّجها الأمير أوتو من فارس من فرسانه ليتمكن من زيارتها متخفيًا وراءه، وعاشت عشيقة له إلى أن تخلت عنه لتهرب مع ولي العهد اليوناني الخ.
بلزاك ربما كان العاشق الوحيد الذي أفاد من العلاقة مع جين ديغبي، فلقد جعل من قصة حبهما رواية صغيرة سماها" زنابق الوادي"، هذه الرواية التي ستباع كثيرًا ليس بسبب فنها العالي، ولكن بسبب الفضائحية المحيطة بها.
في العام 1870 هاجمت القوات الألمانية فرنسا تريد أن تفرض عليها القبول باتحاد ألمانيا في دولة واحدة بقيادة الإمبراطور فريدريك غليوم ورئيس وزرائه المحنك بسمارك، وكانت فرنسا ترفض الاتحاد الألماني منذ زمن طويل، وأخيرًا وصلت القوات الألمانية إلى محيط باريس، وأقامت الحصار عليها.
الفرنسيون الأحرار أحفاد الشبان الذين قاموا بثورة 1848 شكلوا كومونة للدفاع عن باريس وإقامة العدالة في الكومونة، وحين انتصر عليهم تحالف الغزاة الألمان والقائمين على حكم باريس، واحتلوا باريس، استدعوا قادتهم سائلين عما هيجهم للثورة، فقالوا: نريد المجتمع العادل حيث لا يجوع امرؤ ولا يعرى آخر، ثم قال المتحدث باسم الحكومة للشبان المتحمسين: لا بأس... لن نعدمكم... ولن نرسلكم إلى جزيرة الشيطان، وأنتم تحملون هذه الأفكار النبيلة، بل سنرسلكم إلى الجزائر التي ما زالت تعاني من قلة المعمرين، وسنهب لكل رجل أو زوج وزوجها الأرض التي يختارها في الجزائر، وما عليه الا أن يختار، وستساعدكم الدولة الفرنسية بالبذور والسماد والآليات التي ستمهد لكم إقامة المجتمع العادل الذي طالما طمح إليه الإنسان.
ثوار عام 1848، وبعد إقامة التشاركيات فيما بينهم وبعد تعبهم على الأرض التي استصلحوها في الجزائر لتصبح زينة المزارع، حنوا إلى ماضيهم الناعم، وصاروا يحلمون بكأس نبيذ مبرد بعد العصر، وصاروا يطمحون إلى تدخين غليون على الشرفة غير المشمسة، وصاروا يتذكرون أمسيات السبت وحفلات الرقص التي يقيمونها، وصار التعب يظهر عليهم جليًا، وكانوا يرون الفلاحين الجزائريين يحومون حول ما كانت أراضيهم، وكانوا في البدء يطردونهم بعيدًا، ولكنهم حين سئموا العمل الشاق صاروا يستدعونهم للعمل فيما كان أراضيهم مقابل أجر مالي، وفرح الفلاحون الباحثون عن أي عمل يعوضهم عن البطالة المفروضة عليهم، فرحوا بالنقود القليلة التي كانوا يحملونها إلى بيوتهم، وكانت أخبارهم وأخبار تشاركياتهم تصل إلى باريس أولًا بأول.
فلما قامت الثورة الباريسية بممثليها الذين سيحملون اسم الكومونيست، أو ما نعرفه اليوم باسم الشيوعيين العالميين، أرسل القياديون في حكومة باريس إلى الكومونيست في المعتقلات واجتمعوا بهم وسألوهم: لماذا الثورة، وعلى من؟ وما الذي تريدون من الثورة؟ فتحدث الشبان عن المجتمع العادل الذي يبغون، وعن التشاركيات التي سيعيدون بناءها الخ، فقال لهم المتحدث باسم الحكومة: ونحن سنمكنكم من هذا المجتمع، سنرسلكم إلى الجزائر الفرنسية وستزرعون أفضل البذور وستستخدمون أفضل الأسمدة ووو... الخ، ومضى التشاركيون الباريسيون إلى الجزائر محمولين على سفن الحكومة الفرنسية، وحين غابت آخر السفن وراء الضباب قال المحاور للقياديين في حكومة باريس: وهذه هي الطريقة المثلى للتخلص من الحالمين والمشاغبين، وقريبًا ستسمعون عن سمنتهم وتحولهم إلى أسياد في الجزائر.
حين شاخ زولا، وصار في أواخر الخمسينات من عمره، ورأى صعوبات التخلص من معطف بلزاك أبي الواقعية، فكر بطريقة تتجاوز الأدب ومعانياته لإحراز شهرة بلزاك... وأخيراً وجدها في قضية درايفوس المتهم ظلماً بالخيانة الوطنية والمحكوم ظلماً، والمرسل إلى جزيرة الشيطان يقضي فيها عقوبة الخيانة، وبعد عامين قضاهما درايفوس في جزيرة الشيطان، استطاع أهله ومحبوه إثارة القضية من جديد، والدعوة إلى إعادة محاكمته، وتحولت القضية إلى قضية رأي عام فاضطرت هيئة الأركان ووزارة الدفاع إلى محاكمته ثانية وعمدت إلى تبرئة المتهم الخائن، والحكم ثانية على درايفوس. .
قرأ زولا ملفات القضية وأحس بالظلم الواقع على درايفوس والمنطلق من حكم مسبق عليه لأنه من أصول يهودية، وهكذا بدأ زولا كتابة مقالاته الشهيرة "إني أتهم" فدخل التاريخ دخول بلزاك وروايته "زنابق الوادي".
هل كان ثوار العام 1870 المرسلون إلى الجزائر يعرفون عن فشل تجربة من سبقوهم، وعن أن الإنسان مخلوق يحب استغلال أخيه الإنسان، ويحب سرقة نتاج جهده، ويحب تشكيل ثروة من فائض عمل أخيه العامل والفلاح والعاجز عن قيادة الجماهير، أم أنهم آمنوا بقدرتهم على جبر ما كسره ثوار العام 1848؟
هل كان قواد المجتمع الباريسي الجدد يذكرون تجربة وخيبة ثورة 1848 حيث حل التنكر محل التقدم وحيث حلت إدارة الظهر للأحلام محل تقديس الثورة والثوار؟
وكان أن رأى إميل زولا الكومونة الباريسية تفشل، ورأى استدعاء الحكام الجدد لقياديي الكومونة وسؤالهم السؤال الذي سأله جيل الحكام السابقين لقياديي ثورة 1848 والكومونة: ماذا تريدون؟ وأجابوا على عادتهم في تبجح: نريد إقامة مجتمع العدل والتشاركية، ولذا أقمنا الكومونة.!
إميل زولا كان يرى كل مجريات الحياة والتاريخ بعيون شديدة السعة، فرأى الرأسمالية التي تتحسس خطواتها إلى عالم الرأسمالية، وهي تفعل كل شيء لاستعادة مجد روما في مجد الإخلاص للشهوات ومتعها في حماماتها، فأنشأت النوادي الرياضية لتحل محل نوادي المجالدة الرومانية، وأحلت النوادي والمراقص محل الحمامات الرومانية تجتذب الغواني إليها، ورأى الحسناوات يواجهن الكنيسة غير مباليات بتحريم الكنيسة للملذات الأرضية. ورأى زولا سفح الملايين تحت أقدام الغواني الجميلات فكتب روايته الأشهر عن الغانية "نانا" والتي دمرت بقبولها، وإصرارها على عدم الرضا إلا لو سفحوا بين قدميها الملايين، وخراب بنى المجتمع القديم من بيوت تعلم أولادها على الحرص والتقنين إلى سفح الملايين تحت أقدام الغواني الجميلات.
ولكنه في حس عميق بالمسيحية كان عليه معاقبة نانا فمرضت بالسل... المرض الرومانتيكي الشهير وانتهى بنصرها وهزيمة عشاقها بالموت.
رواية "الوحل" التي عاشها
السوريون لخمسين سنة
حين رأى زولا الخيانة والزيف يحكمان باريس كتب رواية "الوحل" والتي عاشها السوريون لخمسين سنة ولم يجرؤ كاتب منهم في الكتابة عنها، فهو يعرف أنها ستمنع بدءًا، وقبل طباعتها، وحتى لو طبعت فسيتجمع المدافعون عن اللصوص لشتمها قبل قراءتها.
عاش السوريون كما معظم شعوب الأرض الذين لم يعرفوا الشفافية والديموقراطية في هذه الحمأة.... عاشوا لثلث القرن العشرين كما عاشوا العشر الأول من القرن الحادي والعشرين المرحلة العقارية بكامل بذاءاتها مع انتشار البناء، ولو العشوائي الذي انتشرت معه الرشوات، وأدوات الرشوة من حسناوات، وحفلات ماجنة وأموال تهدر لتمرير قانون، أو لتمرير موافقة على بيع أرض موقوفة، وهو بيع متشح بالتسميات من استئجار لتسع وتسعين سنة، وهذا بيع حقيقي مختبئ وراء قناع الاستئجار لأرض موقوفة لا تباع ولا تشرى، أو تعمير لأرض منذورة لمشروع شعبي... فرأى زولا الباريسيين في جنونهم المريض، ثم بعد قرن رأى السوريون مئات الـ"نانا" السوريات، ورأوا راية الغانيات تعلو كل الرايات، ورأوا فساد العاملين على حفظ الحقوق المالية للبسطاء، وقد تحولوا إلى تنانين على استعداد لابتلاع باريس، ودمشق وأهلهما، ثم رأى المضاربون بخبز الفرنسيين أن يلحقوا الفرنسيين بالباريسيين، ثم وبعد أن ينفتح الكرش النهم والذي لا راد له، فلن يتوقف قبل ابتلاع نفسه كما حصل في المينياتور السوري.
نبوءة ستتحقق في الحرب العالمية الأولى التي شهدت عشرات الألوف من الشبان الذين سيموتون خنقًا بالغازات السامة وهم في خنادقهم الأوروبية وأقبيتهم السورية، وشهدت مئات آلاف الشبان والكهول يطردون من بيوتهم لإعمار أبراج تدخل سوريا في عالم الحضارة البرجية.
كانت عقدة زولا هي في كيفية تجاوز الغولين السابقين له: الكاتب الغول أونوريه دو بلزاك أبو المدرسة الواقعية، و....فيكتور هيغو الشاعر الذي انحاز إلى كتابة الرواية بعد وضعه رواية "البؤساء" التي كانت الرواية الأولى منذ الالياذة التي تلاحق الحروب أو الثورات وتأثيراتها على الرجل العادي، وتلاحق الجيل التالي للثائرين في كوزيت وماريوس، وفي القسوة المتشحة بالقانون لرجل الشرطة الملاحق لجان فالجان.
عاش زولا يتمنى أن يستطيع تجاوز معلمه بلزاك، ولكن الغول بلزاك الذي هرب من الحياة قبل أن يستطيع زولا تجاوزه، كان في استطاعته الكتابة بشكل متصل لما يقارب اليومين المتواصلين دون نوم أو راحة، هذا الرجل كان أصعب من تجاوزه، وكان زولا ذكيًا لدرجة أن أدرك أنه لن يستطيع تجاوز ذلك الدؤوب الجبار المعلم بلزاك وحاول ملاحقة معلمه بكتابة ما يتجاوز، أو يجادل مؤلف "الكوميديا الانسانية" فكتب سلسلة روايات تحمل اسم "روغون ماكار" وهي روايات تتحدث عن عائلة تعيش في عصر نابوليون الثاني المكروه من الأدباء والفنانين، وتتصارع مع الواقع الفرنسي الذي يريد الوصول إلى الإمبريالية دون دفع الثمن من الدم والضحايا البشرية، وكان العالم الأوروبي بمجمله يسعى إلى الإمبريالية الرومانية دون معرفة أنه قد وصل إليها بجيوشه وعجرفته الأوروبية إلا ألمانيا التائقة إلى بلزاك آخر وإلى مستعمرات ترفعها إلى صفوف الإمبرياليين الذين حرموها من المشاركة في ناديهم وفي مقدمة الرافضين لعضوية ألمانيا كانت بريطانيا المغتنية بـ جين أوستن وتشارلز ديكنز، والإمبراطورية في الهند، فكان أن دخلت ألمانيا إلى الحرب العالمية الأولى لتحصل على نصيبها من الإمبريالية دون دفع الثمن المكافئ، فخسرت الإمبراطورية، وخسرت إمبراطورها، وخسرت الحلم بالمشاركة في نادي الإمبرياليين، تمامًا كالدول التي لا تقاليد إمبريالية محدثة في حياتها فلا بلزاك، ولا زولا، ولا فلوبير لديها!
وحين نعرف أن بلزاك قد توفي في العام 1850عن عمر واحد وخمسين عامًا فقط، ونعرف أن زولا ولد العام 1840 أي أنه كان في العاشرة من العمر فقط حين توفي بلزاك، نعرف أنه لم يكن كامل القناعة بما كتب رغم أن النقاد قد أطلقوا على المدرسة الروائية التي صنعها في كتاباته "المدرسة الطبيعية" والتي كان من أهم سماتها التركيز على الجسد السيد، والتركيز على الغرائز، فزولا الذي نهل من الواقع السياسي، لم تسعفه حياته بثراء يشبه ثراء بلزاك، وتقلبات حياته وانعطافاتها، تسعفه بتجربة المبعدين إلى الجزائر بكامل تجربتها الإمبريالية المتشعبة، المثرية للرواية الواقعية، ندرك حجم الخيال والتخييل الموجودين لدى قامة روائية كبيرة مثل إميل زولا.