ابتدأت القصة بشكل عادي جداً، من عاداتي قبل النوم أن أملئ زجاجة الماء وأضعها بجانب رأسي، ولكن منذ يومين أصبحت أستيقظ في منتصف الليل فأجدها فارغة، ليس من عادة زوجتي أن تشرب أثناء الليل، وأنا لا أشرب كامل الزجاجة طوال الليل، هي رشفتين لا أكثر.
اليوم لم أعد أستطيع النوم لأني أريد أن أعرف من الذي يشرب لي الماء من الزجاجة، سمعت حركة هسيس خفيف تصدر من رفوف المكتبة، باب الغرفة مغلق وسكون الليل مطبق بشكل خانق حتى أنه ينقل أدنى حركة من الشوارع البعيدة، الحركة التي صدرت من المكتبة كانت تشبه احتكاك ورقة بأخرى.
كل ما يصدر من بين الكتب لا يخيف، هذا أول ما فكرت فيه قبل أن أجلس وأرى الطبيب ريكاردو ريس قد خرج من سنة موته، هل تمرد على خوسيه ساراماغو أم أنه ملّ الوحدة بعد رحيل فرناندو بيسوا!
الحقيقة أنه انسان نبيل جداً ويتعامل باحترام ورسمية، ألقى تحيته علي مع نصف ابتسامة ثم أمسك الزجاجة واستأذنني بأن يشرب، أومأت له بأن يتفضل بابتسامة ترحيب، وطلبت منه أن لا يصدر أصواتاً لكي لا يوقظ زوجتي، ولكن ماريا خرجت من إحدى عشرة دقيقتها وهي تصدر أصواتاً بكعب حذائها أثناء مشيتها على حافة رف الكتب، كانت تبحث عن عشيقها الرسام ويبدو أنها تعرضت مرة أخرى لنوبة شبق للسادية، وعلى الرسام الآن أن يأخذها إلى رصيف حجري ليجعلها تمشي حافية على حجارة حادة ليعالجها من هذه النوبة، نَظرَت بوجهي ووجه الدكتور ريكاردو ريس وهي تمسك زجاجة الماء وتشرب بدون أن تلامس شفتاها فم الزجاجة.
العجوز إيغوشي لم يستطع النوم أيضاً بجانب الجميلة التي قدمتها له صاحبة المنزل، أفكاره عن تكوين ثدي المرأة ووصوله إلى هذه المرتبة من الألوهية، أشعره بجفاف حلقه فترك ياسوناري كاواباتا وانضم إلينا، كان لطيفاً أيضاً ولكن نظراته كانت تنهش جسد ماريا التي تجلس قرب الباب تنتظر رسامها، يبدو أن إيغوشي الآن يفكر فيها نائمة، أتمنى من نابوكوف أن لا يسمح للوليتا بالخروج الآن، فإيغوشي سيلتصق بها حتى يخدرها ويعريها .. أعرفه جيداً إن رأى صغيرة جميلة!
زوجة الطبيب الذي خدعنا خوسيه ساراماغو وأخبرنا أنها لم تصب بالعمى خرجت أيضاً ولكنها عمياء، تعرت أمام الجميع وأمسكت زجاجة الماء وصارت ترش القطرات على جسدها متمنية أن تتخلص من العماء الأبيض كما حصل مع صديقتيها عندما استحمتا بالمطر على شرفة المنزل.
دونيا لوكريثيا عندما خرجت كانت تبحث عن ألفونسو لم تستطيع نسيانه أبداً حتى لو كان ابن زوجها دون ريغوبيرتو، فهو يعبدها ومهما قسى عليها ماريو فارغاس يوسا ستبقى هذه المشاعر الملتهبة بينها وبين الطفل ألفونسو، ولكنها الوحيدة التي خرجت ولم تقترب من زجاجة الماء، جلست بجانب ماريا عند عتبة الباب على أمل أن يدخل عليها ألفونسو.
رأيت صرصارا بجانب قدم المكتبة كنت سأدهسه ولكني خشيت أن يكون جريجور سامسا قد ترك غرفته وخرج طالباً للماء، فطلبت من الدكتور ريكاردو أن يسكب نقطتي ماء أمامه، ولكن جريجور ما إن أحس بحركة الطبيب حتى اختفى خلف رفوف المكتبة.
الشيء الوحيد الذي عكر صفو الغرفة وهدوءها هو زوربا، الذي خرج وهو يرقص ويغني صاخباً ويدور ويقفز بحركات صبيانية، ثم وضع يده على مؤخرة دونيا لوكريثا، التي انتفضت واحمر وجهها، وراقص ماريا قليلاً وهو يضحك بوجه الجميع ثم أمسك زجاجة الماء ظناً منه أنها نبيذ وازدردها كاملة.
سليم الذي ترك تمر الأصابع وخرج كان مشتاقاً لفاطمة، محسن الرملي لم يسعفه بفاطمة سوى بخياله وبصور سريعة ومؤلمة، ظن أنه سيجد فتاة بعيون صغيرة في هذه الغرفة، غرفتي كان ينقصها فقط بيار وإيف ليتركا غرفتهما التي حبسهما بها جان بول سارتر واتهمهما بالجنون.
هنري باربوس لم يعجبه أبداً ما يدور في الغرفة، فجلس في زاوية الجدار وأدار ظهره لنا وبدأ بحفر ثقب في الجدار باستخدام مسمار، يظن أنه سيجد شيئاً مهماً، وكل ما هنالك هم أطفالي الذين يملؤون الغرفة صراخاً ولعباً.
ليلي بكل شيطناتها دخلت فوراً وجلست بجانب إيغوشي يبدو أنها ستترك مرة أخرى حبيبها الذي يعشقها الطفل الطيب، انضمام المزيد من الجنون سيؤكد لي أن هذه الغرفة هي غرفة في فندق الدولفين وهاروكي موراكامي هو من يتلاعب بنا جميعاً.
طلبت من الدكتور توماس أن يجمع الجميع بخفته التي لا تحتمل ويعود بهم إلى أمكنتهم فأنا متعب وأريد النوم ولا أريد إزعاج زوجتي وإيقاظها، ثم إن لدي عمل غداً، لكنه أجابني ساخراً: أنت بلا عمل منذ زمن، ويجب عليك العودة معنا!
أجبته: أنا لست شخصية روائية مثلكم أنا كائن بشري لدي كيان ملموس ولم أخلق من كلمات على بعض الصفحات، ولكن الجميع ضحكوا وطالبوني بإثبات كياني فتذكرت مرايا بورخيس ووقفت أمام المرآة وأنا لا أنظر إليها من فرط ثقتي، ولكن الدكتور توماس وضع يده على كتفي وقال لي: هيا بنا دعك من الجنون أخشى أن تستيقظ كاتبتك ولا تجدك، فغداً قد خططت لك خطة محكمة لتستبدل لك رأسك برأس الألماني، هيا لا شيء في المرآة كما ترى وهذه الزوجة وصراخ الأطفال هي من اختراع وهمك ثم إن نوارة تَغير جداً عليك وستسبب لها جرحاً إن علمت أنك تهلوس بزوجة وأطفال، وغمز بعينه .. ثم شدني من يدي هو وزوربا يقول لي: هيا صديقي صفحاتك ما زالت دافئة لا تتركها كثيراً فتصبح باردة ومن الصعب تدفئتها في هذا الصقيع.
لم أدخل معهم ولن أدخل أنا لست شخصية روائية على صفحات ولكن لماذا لم أعد أستطيع حمل زجاجة الماء، أنا عطش جداً وفمي كأني أبتلع ترابا،ً ومن هذه المرأة النائمة في غرفتي؟؟ هل هناك صباح أم أن الجو معتم هكذا بشكل دائم ؟؟؟
أنا لست شخصية روائية ... أنا لست شخصية روائية...