همنغواي والحرب العالمية الثانية
خاص ألف
2018-08-18
مع نهايات الحرب العالمية الثانية اكتشفت اميريكا وعلى غير إرادة أو رغبة مسبقة منها أنها قد صارت سيدة العالم عسكريا, ولكن هل كان هذا الاكتشاف على غير رغبة وتخطيط منها حقا؟ فلقد انتصرت على القوة الأعتى في العام حتى ذلك الوقت ..... النازية , وعلى الامبرياليتين التقليديتين بريطانيا وفرنسة اللتين لولم تمد اميريكا لهما يد الإنقاذ لكانتا مستعمرتين, أو على أحسن التقديرات محميتين لألمانيا النازية , ليس أوربة الغربية فقط مااعترف لها بالفضل, بل روسيا الستالينية التي تراجعت منكفئة أمام النازية حتى أبواب موسكو, وكانت عاصمتها الكلاسيكية بيترسبورغ تحت الحصار القاسي, أما فولغا غراد التي حول ستالين اسمها إلى ستالينغراد, فقد كاد الحصار والتجويع أن يحيلها إلى المأثرة التي كان ستالين يسعى وراءه لو لم تأت المعونة اأميريكية, وكان أن تغير التاريخ.
اضطرت اميريكا التي حاولت طويلا ألا تنغمس في الحرب المدمرة لكل من يشارك بها لولا أن اليابان أخطأت خطيئة العمر, فتحرشت بأميريكا حين هاجمت بيرل هاربور, و...لم تستطع اميريكا الحفاظ على عزلتها, فاندفعت كاملة القوة, كاملة الثراء, كاملة التجهز للحرب, فحولت معامل السيارات إلى معامل للدبابات, وحولت معامل الطيارات المدنية إلى معامل للطيارات العسكرية, واندفعت إلى الحلبة, وهنا انقلب الحظ على المانيا, فلقد عادت الحياة إلى بريطانيا العجوز التي تخلت عن معظم سلاحها الثقيل في دانكرك بعد المعركة التي نجا فيها أفراد وضباط الجيش البريطاني عزلا تقريبا, وضاع السلاح الثقيل, وجاءت الدبابات الاميركية النجدة إلى بريطانيا, وإلى روسيا الستالينية لتفاجأ المانيا بأن التسليح لم يأت عبر أوربة الذي تستطيع إيقافه, بل عبر مضيق بيهرنغ الفاصل ما بين الاسكا الاميريكية وسيبيريا الروسية, وبذلك التدخل تغير مصير الحرب مرة واحدة وإلى الأبد.
مع مفاجأة أميريكا بتحولها إلى الدولة المنتصرة على العالم القديم كله" هل نذكر مسرحية دورينمات الزيارة" التي تحاول فيه المرأة العجوز المهانة المطرودة والمطاردة فتية بعد رجعتها ثرية أن تنتقم لإهاناتها وإذلالاتها من أولئك الأكابرالذين رفضوها وعهروها فقيرة وخادمة, وهاهي تعود القوية الثرية المنتقمة, وعادت أميريكا إلى أوربة ليفاجأ الفرد الأميركي العادي بتعامل الأوربي معه رغم كل ما قدمه على أنه الفلاح ذو الذوق الريفي في اللباس, وفي الموسيقى, وفي طريقة الأكل إلخ, وكان لابد من تقديم وجه آخر لأميريكا, وجه مختلف عن وجه تاجر النفط التكساسي, وعن راعي البقر الخشن حتى الفظا ظة, وعن السائح الغني قليل الذوق في اختيار ثيابه كما رأينا في القمصان " الهاواي " التي لبسوهابعد الحرب الثانية, فصعقوا الأوربيين المدينين على غير فرح منهم لهؤلاء الريفيين الأغنياء أصحاب مشروع مارشال, وهكذا كان لابد للأميريكي من تقديم الوجه الآخر لأميريكا و...تقدم الأدب وتقدمت السينما, وتقدم الكاتب ثورنتون وايلدربمسرحيته المانيفستو" بلدتنا".
في مسرحية " بلدتنا" سنرى بلدة ليست بنيويرك , صورة المدينة الهائلة , وليست شيكاغو, و ليست مدينة آل كابوني, والمافيا... إنها بلدتنا, المدينة شبه الريفية حيث العلاقات الهادئة بين الجيران , بين الشبان والفتيات وغرام ما قبل الزواج, بين الانتخابات التي تحقق الديموقراطية على الطريقة الأميركية, والتي تبدأ باختيار المحلفين لجعل حكم المحاكم ليس مزاجا فرديا وإنما هو حكم المجتمع بمختلف تلاوينه ومستوياته الثقافية. إنها انتخاب رئيس المخفر , ومختار القرية, والمدينة"بلدتنا"...ثم ....الموت الذي سيحتوي الجميع . كانت المسرحية نوعا من منشور مقدم للعالم يقول هذا نحن, لسنا مختلفين عن بقية الشعوب, كانت رسالة, وكان المخاطب فيها الغرب الأوربي المنتمي إلى الدين اليهو مسيحي, وإلى الفلسفة والحضارة الغريكو لاتين: نحن أنتم وإن في المغترب : نحن أنتم وإن فصل الأطلسي بيننا.
انتشرت المسرحية كمانيفستو"الأنا" في العالم أجمع ممولة العروض ,ممولة الدعاية ,ممولة الحضور, وعرضت في معظم أقطار العالم في محاولة لأنسنة الأميريكي وتقريبه من بقية سكان المعمورة, وساعد على انتشارها النقطة الرابعة , مشروع المعونات لدول العالم خارج مشروع مارشال المقدم لدول أوربة الغربية التي يجب أن تقف صامدة أمام المد الشيوعي الذي نفخت في حجمه البروباغنده الأميريكية والسوفييتية معا, كل لهدف يخدم مصالحه الاستراتيجية, و....المراكز الثقافية الاميركية التي مشت على خطى الاتحاد السوفييتي في تكثيف الدعاية مهما بلغت فجاجتها, أما االسلاح الأقوى في الرد على هذه الصورة الوردية السوفييتية, فقد جاء أدبيا ومن داخل أميريكا نفسها, فالمزاج الأميريكي المكافح والذي قام بالأصل على القتل لإلغاء السكان الأصليين في " أميريكا" وإبادتهم بكافة السبل للحلول محلهم, وقد أفلحوا في تحقيق هذا المشروع فلاحا ...لنكن صريحين... كاملا , فكان لابد من التعبير عنه أدبيا وهنا تقدم الروائي الصحفي ارنست همنغواي مدلل النظام والنموذج الذي يحبه الأميركان منذ اسطورة بوفالو بيل, وجيسي جيمس بطلي الغرب الأميريكي, فكان حسب التعبير الاسلامي" الموفق", وكان معادله السينمائي الممثل الضخم الضاحك أبدا, والمنتصر على خصمه دائما, وسابي قلوب النساء الذي لايتراجع أمام امرأة قبل أن ينالها جون واين, اليس هو " الزعيم " في مسلسل النظام السوري " باب الحارة إنه النموذج الذي يريد النظام العميق إشاعته وإعجاب الناس الشعب به" ك بروتو تايب " نموذج أعلى يسعى الجميع إلى الحلم به والبحث عنه والتعلق به , ونموذج ــالزعيم ــ الحكيم ــ المستبد العادل , إنه النموذج الذي حاول النظام إشاعته , فهو الطريق الأقصر إلى العدل والسعادة ,وإلى الجحيم بترهات الغرب من ديموقراطية وانتخابات وتبادل سلطة ,فهناك دائما من يتخذ القرار الصائب بالنيابة عنك...إنه الزعيم.
على الجانب البروباغندي الأميريكي لم يكن النظام يبحث عن تكريس "الزعيم " المستبد العادل, كما فعلت الدراما السورية وشجعها النظام على هذا التكريس حتى النهاية ملونين هذه الدعاية الفجة بتسميتها بالدراما الشامية!!, بل كان يبحث عن الفرد المغامر القادر على إنجاز المشروع وحيدا, إنه معمر الغرب الأميركي "كاليفورنيا" ومستنقذها من أيدي البرابرة الهنود الحمر!, إنه فورد صانع السيارات الشهير, إنه هوارد هيوز المغامر الغامض وصانع الطائرات الحداثية, والناجح دائما, إنه المصرفي الممول والمغامر الأبدي, إنه الرجل الأميريكي المرغوب, المغامر في استكشاف افريقيا"ثلوج كليمنغارو", إنه المحارب في اسبانيا مع الجانب العادل, أي مع لوركا وبيكاسو"لمن تقرع الأجراس" ولكنه لا يتحدث أبدا عن الشيوعية في مفهومها التروتسكي كما كانت عليه الثورة الاسبانية الجمهورية, والتي حطمها إدارة ستالين ظهره لها, وتآمر الكومنترن عليها, إنه البطل الفرد الذي لايهزم, وباني أميريكا الحق, إنه من مدّ الخطوط الحديدية مغامرا بماله وحياته في سبيل إنجاز هذا المشروع الكبير, إنه الحلم الأميريكي الفرد في مقابل العامل الشيوعي المخلص للحلم, والذي يعمل في وقت فراغه لخدمة الحركة الشيوعية, إنه القوميسير الشيوعي الذي نراه دائما في الخطوط الأولى في المأثرة الستالينية "الحرب العالمية الثانية".
بعد الحرب العالمية الثانية وبعد إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي وبعد الرعب الكارثي الذي أصيب به العالم حين رأى بأم عينه أعداد الضحايا وشكل الدمار الذي حاق بمدينتين غير حربيتين هما هيروشيما وناغازاكي اللتين لم يكن هناك من حاجة حقيقية لاستخدام هذا الدمار فيهما, ولكن الرسالة كانت لجنرالات اليابان الذي كانوا ما يزالون يحاربون, ولجنرالات الاتحاد السوفييتي اللذين بدأوا بتمايز المصالح بينهم وبين الحلفاء فيمن سيسيطر على العالم القادم, وكان كل من الجيش الأميريكي والجيش الياباني يستعدان للتسليم بهزيمة اليابان, وكل ما كانا يحاربان من أجله هي شروط أفضل لبنود الصلح, أما أميريكا التي ذاقت طعم النصر, فكانت تريد تسليما بلا شروط, فاستخدمت السلاح المدمر غير المجرب من قبل, فأرعبت العدو الجديد " الاتحاد السو فييتي", وأخضعت الصديق من الحلفاء.
بعد تفجيري هيروشيما وناغازاكي أصيب العالم الفكري والعلمي بذعر لم تعرفه البشرية منذ غزوات المغول, فأن تسيطر أمة واحدة على السلاح الأخطر في تاريخ البشرية أمر لايمكن للضمير البشري احتماله ,وهكذا خاطر عالم ذرة أميريكي هو اوبنهايمر بتسريب أسرار الذرة إلى ستالين, لالشيء كما سيعلن أثناء محاكماته إلا لمنع احتكار أمة واحددة لهذا التهديد للعالم.
فجأة يتصدر المشهد الأميركي سيناتور ريفي هو جوزيف ماكارثي , ليبدأ حربه الصليبية ضد كل من يشك بتعاطفه مع الاتحاد السوفييتي أوالشيوعية العالمية" الكومنترن", وتتحول أميريكا على غير توقع إلى دولة فاشية تطارد المثقفين والمخرجين والكتاب والممثلين المشكوك في يساريتهم, وكانت سنوات الانحطاط الأميريكي التي سفط فيها عدد كبير من المخرجين والممثلين و... الكتاب.
الإعجاب الهائل والدعاية الهائلة التي حصل عليهما همنغواي لم تخدع همنغواي نفسه , فالرجل يمكن أن يخدع كثيرا من الناس لكن الأحمق وحده من يصدق خديعة نفسه , ولا يقيم نفسه التقييم الصحيح ,وهمنغواي لم يكن احمق ابدا, وعلى اية حال, فهمنغواي لم يحصل على نوبل لأنه كتب " الصخب والعنف " كما فعل فوكنر,بل حصل عليها لأنه كان النموذج الذي تريد اميريكا تعميمه عن الأميركي النموذجي, وما جوهر الشخصية الذي تريد تعميمه إلا الفحل "جون واين" وما معادل الفحل جون واين أدبيا إلا الفحل المغامر همنغواي الذي كتب الشيخ والبحر والتي لم تكن إلا تحديثا لرواية أميريكية انقضى قرن على نشرها ألا وهي موبي ديك لهيرمان ملفيل التي صدرت للمرة الأولى سنة 1851م , ولكن اميريكا لم تكن قد اكتشفت هويتها وصعودها القادم بعد, فلم تعرف الرواية والروائي المجد الذي يستحقانها , وحصل عليها همنغواي ا لذي لم يفعل إلا أنه عارض ملفيل في الرواية التقليد" العجوز والبحر".
لم تحتفل اميريكا بفولكنر الذي حصل على نوبل عام 1950احتفالها بهمنغواي الذي حصل عليها عام 1954ففوكنر لم يكتب صورة الفحل كما تريد اميريكا سيدة العالم ان تكرسها كما كرسها همنغواي, بل كتب عن مأساة الجنوب المهجور الأميركي ما بعد حرب1860م والتي هزم فيها الجنوب الزراعي امام الشمال المصنع, فكتب عن المستنقع الذي كان الجنوب يرزح فيه بعد تجريم العبودية, وهجمة الراسمال الشمالي على الجنوب, وانهيار قيمه الوسيطية , ليس الموضوع فقط ما أبدع فيه فولكنر, بل التجديد في الشكل الروائي, في المونولوغ الداخلي و تيار الوعي, كان فولكنرالحداثي الأميريكي الأول, وجاء قبل الحداثي المعاصر "بول أوستر", بما يقاري الخمسين عاما, أما الروائي الأميركي المظلوم والمعتم عليه حتى الإخفاء فكان جون دوس باسوس اليساري في زمن الحرب الباردة وما بعد السيناتور مكارثي
والسؤال الذي يجب أن يلح هو: هل يحصل المبدع على .اعتراف أمته ومعاصريه لأنه المبدع, أم لأنه يقدم الصورة التي يريد المجتمع والنظام المعاصرين أن يراها لنفسه, فأعجب بالمرآة التي أجابته عند سؤاله لها : من هي الأجمل بين نساء الأرض لتقول له المرآة "الفنان" أنت , وأنت فقط!
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |