«مذلون مهانون» لدوستويفسكي: أحداث لا تصدّق لشخصيات قوية
ألف
2018-08-18
حين عاد الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي من منفاه السيبيري أواخر خمسينات القرن التاسع عشر، كان بدأ يفكر بتلك الروايات الكبرى التي كان قد شرع يخطط لإصدارها، بالفعل، خلال العقدين التاليين من الستين، أي العقدين اللذين كان اتخذ قراره بأن يكرسهما للإبداع الأدبي. وكان أكثر ما يفكر فيه هو الشخصيات الأساسية التي ستنطلق منها- وتصب فيها- تلك الروايات. بل إن أحداث بعض هذه الأعمال كانت قد تخمرت في ذهنه. لكنه في الوقت نفسه كان لا يزال في حاجة إلى كثير من الوقت حتى يتمكن من إنجاز روايات كان يعرف تماماً أنها ستقلب حياته الأدبية والفكرية رأساً على عقب؛ وربما- بحسب تعبيره نفسه- تحدث تغييراً أساسياً في اتجاهات الأدب الروسي. وهو كان يتوقع مثل هذا الأمر انطلاقاً من أنه كان قد زوّد نفسه، بفضل تجاربه السابقة وعلاقاته بشتى أصناف البشر وآلامهم خلال سنوات النفي، بما يمكننا أن نسميه «رؤية العالم». غير أن هذا كله كان لا بد من تأجيله بعض الوقت والعمل في شكل سريع في كتابة عمل تمهيدي انتقالي أملت ضرورته تلك المجلة التي حدد دوستويفسكي وشقيقه ميشال اسماً لها وموعد صدور قريباً ما كان يتطلب رواية تنشر على حلقات... رواية يجب إنجازها مهما كان الأمر، ولو اضطر الكاتب إلى صرف النظر- موقتاً- عن كل الشخصيات والأحداث والأفكار التي كانت تزحم خياله. وعلى هذا النحو ولدت رواية «مذلون مهانون» التي أنجزها دوستويفسكي خلال أسابيع قليلة أواخر عام 1860، لكي تنشر على حلقات في أعداد المجلة المذكورة- وعنوانها «الزمان»- بين كانون الثاني (يناير) وتموز (يوليو) 1861، لتعود وتصدر في طبعة مستقلة في العام نفسه.
لن يكون من الإنصاف هنا القول أن «مذلون مهانون» رواية سيئة، حتى وإن كنا نعرف أن النقاد- والقراء حتى- في ذلك الزمن، استقبلوها بفتور شديد، هم الذين كان سبق لهم أن حيوا أعمالاً لدوستويفسكي سابقة عليها مثل «الفقراء» و «القرين» و «قرية ستيبانتشيكوفو وسكانها». الحقيقة هي أن «مذلون مهانون» لا تخلو من مواقف قوية وشخصيات جيدة وصفت في شكل دقيق... بل إن بعض أفكار دوستويفسكي البارزة التي ستزين أعمالاً لاحقة له مثل «الأبله» و «الإخوة كارامازوف» تجد جذورها ها هنا. بيد أن المشكلة تكمن في أن هذا كله إنما بناه الكاتب من حول حبكة وسياق تجري فيهما أحداث من الصعب تصديقها، وعلاقات مفتعلة وصدامات وخبطات مسرحية تبدو مضحكة في بعض الأحيان، حين يكون مطلوباً منها أن تثير عواطف شفقة أو حزن. ودوستويفسكي نفسه، كان بعد حين من صدور الرواية قد دافع عنها بنفسه، بشكل لا يخلو على أيّ حال من «إهانة» للرواية نفسها، إذ قال أنه يرى أنها «لا تخلو في نهاية الأمر من خمسين صفحة جيدة». وكان دوستويفسكي قد قال، حين شرع في كتابة هذه الرواية: «كنت أعرف جيداً، أولاً أن هذه الرواية ستشمل لحظات شعرية جيدة حتى وإن لم يحالفها النجاح. ثانياً، أنها ستتضمن فصولاً فائقة الحرارة والقوة. وثالثاً، أنها ستحتوي- على الأقل- على وصف صادق وفني لشخصيتين تفيضان حيوية، على الأقل». وأضاف دوستويفسكي أن ثقته بهذا «كانت تكفيني». مهما يكن قال دوستويفسكي أيضاً: «أنا أعلم حق العلم أن في كتابي هذا دمى كثيرة لا تبدو ككائنات إنسانية... لكنني لم أكن- بالطبع- مدركاً هذا حين كنت في حمى العمل السريع ولم أكد أشعر به». مهما يكن لا بد من القول هنا أن هذا الموقف كله من «مذلون مهانون» اضمحل لاحقاً لدى الكاتب كما لدى نقاده، حين صدرت أعمال تالية له، ومنها طبعاً «ذكريات من منزل الأموات» و «الأبله» لتعاد قراءة «مذلون مهانون» على ضوئها وتتخذ قيمة جديدة... تمهيدية على الأقل.
> منذ البداية، في «مذلون مهانون» يوضح لنا دوستويفسكي إيمانه الجديد، والمترسخ الآن، في أن الإنسان طيب في طبيعته... لكن خلاص الإنسان لن يأتيه من الخارج، بل من داخل ذاته: «خلاصه بين يديه» كما يقول الكاتب في كل وضوح... وحسبه للوصول إلى هذا أن يطيع القواعد والأسس التي تدعو إليها الكتب السماوية- الإنجيل هنا-، وأن يحب قريبه كما يحب نفسه... وانطلاقاً من هنا، ها هي هذه الرواية تُظهر للمرة الأولى ما سيصبح جوهراً ثابتاً في روايات دوستويفسكي اللاحقة: قوة وضرورة التحليل النفسي للشخصيات، ونوبات مرض الصرع التي تلعب دوراً في الأحداث.
> أحداث الرواية تُروى لنا هنا من طريق بطلها الشاب «فانيا» الذي يبادرنا منذ السطور الأولى راوياً: «في الثاني والعشرين من شهر آذار (مارس) من العام الماضي وقع لي حادث من أغرب ما يقع من حوادث...». وما الفصول التالية من الرواية سوى وصف لما وقع لفانيا هذا، هو الذي سرعان ما سنعرف أنه ترعرع في حمى عائلة السيد أخمنياف، الذي يتولى إدارة أملاك الأمير فالكوفسكي الذي كان أرسل بدوره ابنه ألكسيس، ليعيش في كنف عائلة مدير الأملاك هذا. ولأخمنياف ابنة صبية حسناء تدعى ناتاشا. ومن الطبيعي أن ندرك منذ البداية أن ناتاشا هذه هي محط إعجاب ابن الأمير. ثم ذات حين تتوالى أحداث وفضائح تجعل الأمير لا يكتفي بأن يسحب إدارة أعماله من أخمنياف، بل إنه يقيم عليه- كذلك- دعوى سوء ائتمان وسرقة أمام القضاء. أما الجزء الأساس من الرواية فإنه- في الحقيقة- يدور حول هذه الدعوى، ومواقف الأطراف المختلفة منها، والتطورات التي تحدثها على صعيد العلاقات بين هذه الأطراف. إذ لاحقاً وبعد أن يكون الشمل قد تفرق جراء اضطرار أسرة أخمنياف إلى ترك أملاك الأمير، وبعد أن كان فانيا قد انفصل عن العائلة ليعيش مستقلاً، يحدث له أن يعود ليلتقي بالعائلة من جديد في بطرسبورغ، وهناك يتنبه إلى ناتاشا فيقع في حبها ويبدي رغبته في الزواج منها. ولكن في الوقت نفسه يصل ألكسيس ابن الأمير إلى منزل هذه العائلة محاولاً إعادة ارتباطه بالفتاة... ومحاولاً أيضاً أن يقنعها بترك منزل أهلها واللحاق به. وهنا، ما إن يدرك فانيا، أن مثل هذا الأمر سيكون من شأنه أن يبعث السعادة في حياة ناتاشا، حتى يقبل من أعماقه، بالتخلي عن حبه لها، هو الذي لن يمكنه أبداً أن يوفر لها السعادة المادية، حتى وإن كان قادراً على توفير سعادة الحب. إذاً، عن طيب خاطر وبكل قلب مفتوح أمام سعادة الغير، يضحّي فانيا بهواه ليحاول أن يسعى بكل جهده حتى يتمكن ألكسيس من الاقتران بتلك التي اختارها قلبه. وهنا، إذ يجد دوستويفسكي أن موضوعه صار متسماً بشيء من العادية بعدما قدم وصفاً قوياً للشخصيات ونوازعها، يُدخل في الحبكة كلها حكاية جديدة- من الصعب على المرء أن يتصور مدى ارتباطها بالسياق الأصلي للحكاية-. وهي هنا تتعلق بفتاة أخرى هي نيللي، الصغيرة التي يتمكن فانيا، لطيبته دائماً، من انتزاعها من براثن امرأة شريرة تدعى بوينوفا. هنا يكون الأمير فالكوفسكي قد سعى في شكل جدي للعثور لابنه ألكسيس على عروس تلائمه، إذ من البيّن أن الأمير لا يريد بأي حال من الأحوال أن يصاهر عائلة أخمنياف. وهو لكي يتمكن من تحقيق مراده، يركز مسعاه على التقريب بين ألكسيس وكاتيا، الفتاة التي وجدها مناسبة للابن... لكنه هنا يلجأ إلى الحيلة، إذ يظهر موافقته على زواج ألكسيس من ناتاشا، واضعاً كاتيا، بالصدفة في طريق ألكسيس. وينجح مسعى الأب الأمير، إذ إن ألكسيس سرعان ما يحس بانجذاب نحو كاتيا، متخلياً عن ناتاشا. ويحدث هذا في الوقت الذي ينكشف- إثر أحداث غريبة متداخلة- أن نيللي هي في حقيقة الأمر ابنة الأمير. بيد أن هذه سرعان ما ستموت إثر نوبة صرع، من دون أن تستمتع بسعادة العيش عيشاً كريماً مع أبيها. أما عائلة أخمنياف فإنها ستعود إلى ديارها، بينما يدخل فانيا المستشفى وقد استبد به المرض. غير أن هذا لا يمنعنا نحن القراء من توقع أنه، بعد خروجه، سيتزوج من ناتاشا، التي راحت تبادله حباً بحب.