نشرت صحيفة (الليبراسيون) الفرنسية، بداية الأسبوع المنصرم، تحقيقًا واسعًا عن عمليات التعذيب وحالات الاختفاء والقتل، في سجون السلطات السورية، واعتمدت الصحيفة في ذلك على الاستماع لشهاداتٍ ممن استطاع إلى النجاة سبيلًا، وعلى مقابلات أجرتها مع بعض أهالي من تمّ تغييبهم، تعذيبًا أو إعدامًا. وقد استعاضت إدارة التحرير عن الصور التي يمكن أن تُرافق عملًا استقصائيًا كهذا، بلوحات “فنية” لفنان تشكيلي سوري، عَرف هذه الأماكن كما تعرّض لهذه الممارسات عن قرب، حينما “استضافته” المعتقلات بسبب مشاركته في الانتفاضة السلمية السورية التي سبقت اندلاع المقتلة.
صدرت هذه المادة في منتصف شهر الإجازات الأكثر التزامًا في هذه البلاد، حيث لا يُتابع العدد الأكبر من الفرنسيين الجادَّ من الملفات عمومًا والمواضيع السياسية خصوصًا، إذ يميل معظمهم إلى ما هو خفيف وترفيهي ومتناسب مع إجازاتهم. إنه شهر يعتبره البعض “مقبرة” للمواضيع الصحفية المهمة التي تُنشر خلاله ولا تنتشر. إلا أن ما أقدمت عليه الصحيفة اليسارية الفرنسية -وهي التي تبتعد بموقفها الأخلاقي والإنساني سنوات ضوئية عن مجمل اليسار البافلوفي المُفجع- استطاع، بجدارة، أن يحوز اهتمامًا واسعًا من الرأي العام، قرّاءً ومراكز بحثية وإعلام. وتمت ترجمة ذلك تحديدًا، من خلال تتالي ردات الفعل التي كان يمكن قياسها عبر ملاحظة التركيز الشديد والمُطوّل على ما ورد في هذا التحقيق، في البرامج أو الفقرات المخصّصة لمطالعة الصحف اليومية التي تبدأ بها إجمالًا، كلّ صباح، مختلف الأقنية التلفزيونية والمحطات الإذاعية.
كما بدا للمتابع المُتيقّظ أن النشر في هذه المرحلة السياسية الدقيقة ليس مرتبطًا بانهماك الفرنسيين بعطلتهم وابتعادهم عن القراءة الجادة؛ ما يمكن أن يعتبره البعض تسخيفًا للمادة، وإنما تم السعي من خلاله إلى ربط النشر بأحداث الأسابيع والأيام الأخيرة. فمن جهة السياسات الإقليمية والدولية، بدا واضحًا محاولة قصر الإليزيه العودة إلى التعاون والتنسيق مع موسكو بوتين، من خلال ما تم الاتفاق عليه أثناء لقاء الرئيس الفرنسي مع الرئيس الروسي، على هامش المباراة النهائية لمسابقة كأس العالم. كما تم تعيين سفير جديد للملف السوري في الخارجية الفرنسية أُضفي عليه لقبٌ لم يكن لسابقيه، وهو “المبعوث الخاص لرئيس الجمهورية”، وبالتالي، فإن هذا السفير الجديد لن يُقدّم تقاريره إلى الخارجية بل إلى الخلية الدبلوماسية الملحقة بالرئيس إيمانويل ماكرون مباشرة. يُضاف إلى هذا وذاك، أن هذا الدبلوماسي ذا المهمة الخاصة جدًا يعرف المنطقة خير المعرفة، وقد نُقل إلى هذا المنصب من منصب مهم للغاية وهو سفير فرنسا في إيران. وأخيرًا، من خلال التطلعات الأمنية التي تسود العقلية الأوروبية عمومًا والفرنسية خصوصًا، فمن نافل القول أن مجيء هذا الموفد الخاص من خلفية إدارته لجهاز الأمن الداخلي يُشكّلُ مصدر قلق مُبرّر، في ظل تكاثر “زوار المساء” في قصر الإليزيه حاملي النظرية الأمنية التي لطالما قادت السياسات الخارجية بعيدًا عن المبادئ الأخلاقية وحقوق الإنسان.
نُشر هذا التحقيق في هذه المرحلة “القذرة” من مسار العلاقات الدولية التي تميل من خلالها دبلوماسيات الدول “الحرة” و”الديمقراطية”، إلى تعزيز التعاون مع دكتاتوريات دموية، كالتي يُديرها مجرمو رابعة في مصر، ويُمكن له أن يلعب دورًا مهمًا في توعية الرأي العام إلى خطورة هذا المسار، كما يُمكن أن يُذكّر أصحاب القرار بمستوى المسؤولية التي يحملونها حتى الآن، وسيتحملونها إن هم تخلوا عن المطالبة بانتقال سياسي مصحوب بمسار عدالة انتقالية، تتم من خلاله محاسبة جميع مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وما أكثرها في جسد هذا البلد المُدمّى!
فإذا كان إيمانويل ماكرون يعيب على من سبقوه أنهم أخرجوا فرنسا من دائرة صنع القرار الدولي؛ فإنه سيميل في الأيام والأسابيع القادمة، بعد العودة من الإجازات الصيفية، إلى الالتحاق بالحل الروسي محاولًا أن يجد موقعًا، ولو كان ثانويًا، في هذا المشهد.
في التحقيق ذاته، تم الاعلان عن وفاة مواطنين مزدوجي الجنسية، سوريين وفرنسيين، هما أب وابنه، تحت التعذيب، في سجون صارت “مرجعًا” أساسيًا في الأدبيات القانونية للإشارة إلى أقصى ظروف العيش ومأسسة التعذيب واعتماده كقاعدة عمل و”عقيدة” أمنية راسخة في هذا البلد.
حتى ساعة كتابة هذه السطور، وبعد مرور أسابيع على وصول الخبر إلى السلطات المختصة وأيام على نشره إعلاميًا، لم تصدر أي إدانة لهذه الجريمة من أيٍ من الأطراف الرسمية الفرنسية، كما لم تُسلّط وسائل الإعلام، عدا هذه الصحيفة، الضوءَ على مقتلهما. صمتٌ مُريب يعتري الدوائر الرسمية الفرنسية بخصوص ملف المرحومين: مازن وابنه باتريك دباغ، وما قامت به صحيفة (الليبراسيون) بمثابة عملية رمي حجر كبير، في منتصف هذا المستنقع الراكد والآسن.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...