مأمون البني .. فنان لم يهادن النظام يوما
2018-08-25
ذاكرتي البعيدة -كما القريبة- عن مأمون البني المخرج السينمائي والتلفزيوني السوري، تحيلني دائمًا إلى ما يشبه الإعلان القصير عن فيلم روائي طويل من بطولته؛ حيث تتلاحق صوره وهو يواجه نظام الأسد في مواقف مختلفة منتصب القامة، لا يهادن ولا يلين. ولقد تسنى لي، وأنا أعمل في التلفزيون السوري على مدى أربعين عامًا، أن أتابع محاولاته المستمرة مع رفاق دربه المخرجين عمر أميرلاي ونبيل المالح ومحمد ملص وهيثم حقي.. في خلق نواة لإنتاج أفلام سينمائية سورية تحاكي السينما الأوروبية بخاصة، وتحاول أن تبرز هويتها السورية الخاصة في نفس الوقت. ولقد احتفل بهم المدير العام لهيئة الإذاعة والتلفزيون فؤاد بلاط، وشجعهم على إنتاج أفلام سينمائية لصالح التلفزيون. حينذاك كان التلفزيون الذي يغزو بيوت الناس مغريًا لهم.
قال لي مأمون: “عندما عدنا من بلدان مختلفة حاملين معنا مشاريع أفلام لتصوير الحقيقة في أعمال سينمائية مخصصة للتلفزيون، كونه أداة سحرية تدخل كل البيوت، وفي حين وافقت إدارة التلفزيون آنذاك على عرض أفلامنا، كانت هناك في المقابل قوى خفية مهمتها نشر الشائعات عنا، ومنها ما قيل عن فيلم (الدجاج) الذي أخرجه عمر أميرلاي، قالوا عنه: إنه منقول حرفيًا عن فيلم فرنسي، وبما أني درست السينما في فرنسا، فقد جابهتهم بأن عمر أميرلاي مشروع مخرج لأفلام وثائقية يندر أمثاله في العالم، وأن فيلم (الدجاج) يمثل الواقع المعاش في تلك الفترة، وإذا كان الفيلم منقولًا، كما تزعمون، فأثبتوا ذلك بالدليل. وهكذا توالت الإشاعات والتخوينات والمضايقات لنا، كما حصل معي عندما حققت فيلم (المرأة الريفية)، وأذكر عند عرضه بشكل خاص في مبنى التلفزيون، وبحضور عدد من المخرجين والمعدين والنقاد، صاح المدير العام أمام الجميع: هذا الفيلم هو ملحمة شعرية عن المرأة الريفية، ثم همس في أذني قائلًا (لكن ما بنحسن نعرضه). بعد ذلك طلبوا مني، بهدف تمييع قوة حضورنا وعلاقاتنا مع جمهور التلفزيون، إخراج فيلم عن حافظ الأسد، والثمن المقدم هو بيت وسيارة ومنصب في التلفزيون، ولدى سؤالي عن سبب اختياري بالذات، كان الجواب: لأنك درست في فرنسا، ولأنك حاصد للجوائز. والمضحك أني سألت المرسال: أحلفك بالله، بما أني حاصد للجوائز، فماذا تعتقد أني سأحصد إن وافقت وأخرجت فيلمًا عن الرئيس؟ أجاب ضاحكًا (ستأكل هوا)، قلت له لقد أصبت وأنا أرفض. ثم علمت بعد أيام أن المخرجين المصنفين مثلي، قد رفضوا أيضًا. استدعينا بعد ذلك وطُلب منا إيجاد أمكنة عمل خارج التلفزيون، لأن الإدارة لم تعد ترغب في إنتاج أفلام سينمائية! وبهذا القرار تحطم حلم الإنتاج السينمائي في التلفزيون، وتعطل معمل التحميض، مما اضطرنا إلى مغادرة البلد في الثمانينيات، ولم نعد إلا بعد وفاة وزير الاعلام آنذاك، حيث بدأنا بإخراج مسلسلات وأفلام تلفزيونية للشاشة الصغيرة، لكن بلغة سينمائية أثبتت جدارتنا، لأن الموهبة والخبرة في هذه المهنة لا تأتيان بالواسطة ولا بفرض مخرجين مخبرين، فالحَكَم هو للجمهور وليس لضابط الأمن”.
لقد بدأت معركة المخرج مأمون البني إذن مع نظام الأسد منذ تخرجه، إذ كانت رغبته سبر المجتمع السوري من قاعدة الهرم، أي تحقيق أفلام عن عماد المجتمع -المرأة والطفل والعامل- لكن ردة فعل النظام كانت قوية، فقد منعوا فيلم (البترول) عن عمال النفط في رميلان عام 1976، أما فيلم (المرأة الريفية) 1979، وهو فيلم تسجيلي عن المرأة الريفية في منطقة الغاب 18/د، فقد مُنع -أيضًا- مدة 8 سنوات، إلا أنه عُرض ضمن برنامج لـ ريم حنا، بعد حذف الرقابة لأربع دقائق منه. ثم فيلم (يوم في حياة طفل) روائي قصير مدته 40/د، عن عمل الطفل قبل أو بعد الذهاب للمدرسة، وكان يساعد أباه في بيع المازوت على الطنبر. يقول مأمون: “هذا الفيلم أزعج وزير الإعلام، ووصلتني شتائمه وتهديده في الوقت الذي حظيت بتكريم من الإعلامية عواطف الحفار إسماعيل، لنيلي أول جائزة ذهبية في تاريخ التلفزيون عن الفيلم ذاته، في مهرجان قرطاج السينمائي 1980، وكان من بين المحتفين بالفيلم حسين العودات وياسين شكر والمخرجين وبعض النقاد منهم رفيق أتاسي. وقد سجل المدير العام فؤاد بلاط، في تلك الأثناء، موقفًا شجاعًا حين عرض صور التكريم في نشرة الأخبار قائلا: أنا أتحمل المسؤولية”.
يقول مأمون: بعد اضطراري إلى مغادرة سورية، بسبب موقف الوزير، نصحني فؤاد بلاط بالعودة ونسيان السينما والاتجاه للدراما التلفزيونية، فكان مسلسل (نساء بلا أجنحة) أول عمل تلفزيوني درامي. وكان موضوعه خطورة علاقة المرأة العربية بالرجل الذي تتزوجه دون معرفته قبل الزواج. ثم مسلسل (شبكة العنكبوت)، وهو عمل نفسي من تأليف ممدوح عدوان، الذي أخرجت من تأليفه -أيضًا- مسلسل (اختفاء رجل) ومسلسل (جريمة في الذاكرة). بعد ذلك أخرجت مسلسل (القلاع)، وهو فانتازيا تاريخية 1998(عن الليدي ماكبث، تأليف حاتم علي) ويحكي قصة ديكتاتور عسكري يستلم الحكم بانقلاب، ويأمر بتحرير المجرمين، ليشكلوا ميليشيات مسلحة تعتدي على المدنيين بالاغتصاب والقتل والنهب؛ ثم ليتهم المعارضة السياسية بتلك الجرائم. كما أخرجت لصديقي ياسر العظمة ستة أجزاء من مسلسل (مرايا) ومسلسل (أيام الولدنة) الذي يسخر من فساد الشرطة، في الحلقات الإثنتي عشرة الأولى، وفي الحلقات التالية من فساد المخابرات، وتحدي المواطن للقمع. وأخرجت مجموعة من الأفلام التلفزيونية منها “نهاية سعيدة”، “الكابوس”، “بدوي” (عن الملياردير السوري محمد الطراد وهو من أصل شاوي، درس في فرنسا وأصبح أحد أهم الرجال الصناعيين، وقد تكلم عنه الرئيس ماكرون، عندما كان مرشحًا)، ومسلسل (صوت الفضاء الرنان) الكوميدي، تأليف عبد النبي حجازي، ويقع في أربع حلقات.
لم تكن تلك كل أعماله، لكنها الأهم. صورة مأمون البني، وهو يتجول حول سينما الكندي يراقب الداخلين إلى صالتها وهي تعرض فيلم (الدجاج) لعمر أميرلاي، متوجسًا من رجال الأمن أن يفعلوا شيئًا لتخريب العرض، مثل سرقة بعض أجزاء الفيلم من غرفة العرض، كانت تعني حالة نادرة من النضال لتحقيق عرض إنجاز سينمائي ليس من إخراجه، لكنه يمثله في هدفه، وهي أيضًا حال نادرة من الغيرية تجاه رفيق دربه. ذلك الموقف سوف يتكرر عندما أنجز مع هيثم حقي و محمد ملص برنامج نادي السينما في التلفزيون، وسوف أراه مع ثلة قليلة من رفاقه في جنازة عمر أميرلاي الذي قضى مهمومًا، بسبب الحرب المتواصلة ضد أعماله، وكانت المشاركة في الجنازة إعلانًا صريحًا عن معارضة المشيعين للنظام. وسوف أتابع بدهشة وتقدير متابعته اليومية لصنوه في المواقف الوطنية المخرج نبيل المالح، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. لقد اجتمعت في مأمون البني صفات وضوح الهدف وصلابة الموقف، ونكران الذات، حين يتعلق الأمر بقضايا شعبه.