ما فكرَ كثيراً في سبب اختيار هاتين السيدتين له، من بين جميع المارة. نفسه التي تكشفت عن قرارتها لم تنكر أن منظره البائس، وعينيه الغائرتين الغارقتين في هالات سوداء، تجعل من الوصول إلى روحه، أشبه بأرض قفر تشتهي زخ المطر، "أو هذا ما تعتقدانه"، مطّ شفتيه.
لا بد من أن المرأة التي بقيت صامتة ومستمعة، تبتسم من حين لآخر، في العقد الرابع. والشقراء التي عرّفت عن نفسها "إينا"، كانت لطيفة المحيا، باهتة البشرة ، تمتلك عينين خضراوين، تتسع حقولها الفسفورية المنفلتة حتى حدود أوسيتيا الشمالية، أن يركض فيها ساعات طويلة، وبنهم. خمّن أنها في الثانية والعشرين من عمرها. على الرصيف العريض، قرب جامعة نالتشك، المزروع بالشجر، وقفوا تحت ظل شجرة قيقب، هرباً من لسعات الشمس. لم تتوقف إينا عن الكلام أو طرح الأسئلة، حثته على معرفة الله أكثر، والتقرب منه، عرضت مساعدتها له في العثور على الدرب الذي يفضي إلى السعادة الأبدية. لم يُصغ إليها، بل كان يتمعن في شوقه الذي بدأ يمور إليها، ثارت أمواجه، وعلا صخبها في توقٍ للرسو على ميناء بشرتها الطافحة بزبد الضوء.
"آه يا إينا"، الدرب إليك هو الفردوس، تقاسيمك المرتاحة، شعرك المرفوع إلى أعلى وبفوضى، رقبتك المزروعة بغيمة نرجس، شفتاك الطازجتان كحبة خوخ، عيناك المسافرتان، الرابضتان على قمة ألبروز، وتبدوان في شهقة متواصلة. أنوثتك، التي تحاولين إخفاءها تحت عريض الثياب لتظهرين كقديسة، تتسلل إلي بفجور، تلدغني، ترهقني، أنا العَطِش كوعاء فارغ صدىء، والجائع كجرو صغير فقد أمه. صوتك المترع بفضاء سكينة، يتسربُ إليّ في عزف حزين، ويُؤجج فيّ رغبة ملحة في امتطاء صهوة حصان، والتوغل في رحم الغابة، الاختفاء، واشتهاء موت هانىء.
"آه يا إينا" لو تعلمين فقط .. كم أنا منهك.
-2-
دخل غرفته المشتركة، في سكن الطلاب. نافذة كبيرة في صدر الغرفة، يتوضع سريران على كل جانب، وخزانة صغيرة مائلة بالقرب من الباب، أغراض كثيرة موزعة في أرجاء الغرفة الصغيرة، ومقارنة بغرف الطلاب الأخرى، لا يمكن اتهامها بالغرق في الفوضى أو القذارة. كان موخا،كما أصبحوا يدعونه منذ مجيئه إلى هنا، يعمل طوال النهار، ما أمكنه، وخصوصاً بعد أن غضت الجامعة نظرها، عن عمل الطلاب السوريين نظراً لأوضاعهم، وأوضاع عائلاتهم المتقلقلة في سورية، فقدْ فقدَ العديد منهم بيوتهم وأعمالهم وأرزاقهم.
موخا الهادىء الطباع، الصامت في أغلب الأحيان، كغيره أيضاً من الطلاب، ترك أهله بيتهم في الغوطة، وتحديداً قرية مرج السلطان، مع باقي سكانها إلى مناطق أكثر أمناً، وذلك تزامناً مع سقوط قذائف النظام فوقهم، بعد دخول الجيش الحر إليها. علائم كثيرة وشت بأن هذه المنطقة، ستشتعل، أولها حين حطم مجهول، ليلاً، تمثالاً نصفياً لرأس الرئيس، والمنصوب في ساحة مساكن المرج. والحادثة الثانية كانت الأولى من نوعها، مقتل سمير الرجل الدرويش، عند خروجه من الجامع، بعد صلاة الفجر.
كان على موخا، إذاً، أن يجد أي عمل، ُيسكت به خواء معدته، وأن يدفع ثمن إدمانه على السجائر التي تضاعف سعرها مرتين، مذ أن وصل إلى القفقاس، فعمل بلاطاً ودهاناً وعتالاً، غير عابىء بدرجة الحرارة التي تصل إلى العشرين تحت الصفر، أو للصقيع الذي يعض أصابع قدميه المتشنجتين في حذاء رياضي. كان يمازح الفتيات في أيام الشتاء بقوله "هواء الغوطة الشرقي أبرد من صقيع روسيا الذي تصرعونا به"، ولدفء ابتسامته الدائمة على شفتيه المائلتين للزرقة، كان أصحاب الخدمات غالباً ما يتصلون به.
اغتسل موخا، وطبخ المعكرونة، دون أية إضافات، جلس قرب النافذة يأكل بغير شهية، قلّب الكراسة التي أعطته إياها إينا، قرأ العنوان المكتوب بخط كبير وعريض على الصفحة الأولى " كيف تجدون الطريق إلى الجنة"، ضمت الصفحات الباقية آيات من القرآن، واستشهادات من المزمور، والأسفار المقدسة، تصف فيها الحياة في الجنة "فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي... وصبي صغير يسوقها"، كما زينتها صوراً ملونة لأطفال ونساء ورجال، تحتل الغبطى وجوههم، يتفيأون مروجاً خضراء يَكثر فيها الورد ، ويحضن رجل فهداً مرقطاً، وفتاة تُطعم البجع. أدار الكراسة، وقرأ في صفحتها الأخيرة عناوين مكاتب شهود يهوه، في دول مختلفة من العالم. تفحص يمين الصفحة، وتأمل رسوماً لأطفال جياع تبرز عظامهم، يبكون بحرقة، ومرضى يرقدون ويحدقون بألم. حمل موخا الكراسة ووضعها فوق كتبه الجامعية على رف النافذة، لتتجه العيون المفجوعة والأفواه المتضرعة نحو السماء.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...