Alef Logo
دراسات
              

مدخل إلى نصوص الشرق القديم (آخر أيام أوغاريت)

خاص ألف

2018-08-15

آخـــر أيــــام أوغـــــاريت
عوامل طبيعية أم بشرية؟
في أحد الصباحات المشمسة من عام 1185ق م، غادر كاتب القصر الأوغاريتي منزله متوجهاً إلى ورشة شي الرُقُم الطينية للإشراف على التحضيرات الأخيرة لرسائل عاجلة أملاها مليكه حمورابي آخر ملوك أوغاريت؛ لقد أمضى الليلة الفائتة في نقش الرسائل على الألواح الطينية الطرية، ولم يبق سوى شيها وتقسيتها في الفرن. كان كل شيء يبدو طبيعياً وكأن الشمس سوف تشرق على المدينة كلَّ يوم وإلى نهاية الدهر. دخل الكاتب مبنى الورشة متفائلاً، وتبادل النكات مع مساعديه وهو يراقب الرقم التي وضعت لتوها في الفرن. فجأة صرخ أحد العمال الواقفين عند المدخل صرخة عالية واندفع نحو الخارج، ثم تبعه الآخرون في تدافع محموم تاركين الرقم لمصيرها، فبعضها قد تفحم في الفرن والبعض الآخر بقي على المصطبة القريبة في انتظار دوره، إلى أن كشفت عنه معاول تنقيب البعثة الفرنسية في مطلع القرن العشرين الميلادي. كان هذا الصباح المشمس آخر الصباحات التي أشرقت الشمس فيها على أوغاريت كمدينة عامرة. في صباح اليوم التالي كانت المدينة أثراً من آثار الماضي. ما الذي حدث؟
منذ أن بدأ الكشف عن أطلال موقع رأس شمرة في عام 1928، لاحظ علماء الآثار أن المدينة قد تداعت بتأثير نيران لاهبة أتت عليها خلال وقت قصير، وتوزعت التفسيرات بين القائلين بالهزات الأرضية والقائلين بهجوم صاعق للجماعات التي يدعوها التاريخ بشعوب البحر. ولكن السؤال الأهم الذي لم يطرحه أحد أو حاول الإجابة عليه هو: لماذا هجرت أوغاريت تماماً ولم يعد إليها الاستيطان البشري؟ لقد علمتنا دروس علم التاريخ وعلم الآثار أن الثقافات والمجتمعات المتعافية لا تزول بضربة زلزال أو بهجمات بربرية، طالما أن بناها السياسية والاقتصادية والاجتماعية سليمة وقادرة على التجديد وإعادة البناء. فلماذا لم يعد المجتمع الأوغاريتي لبناء عاصمته ومتابعة حياته؟ هل كان ذلك المجتمع في حالة من الضعضعة والانحلال والفقر لم يعد معها قادراً على الصحوة والمتابعة؟
في تأملهم الأسباب الكامنة وراء زوال ثقافة ما، درج علماء التاريخ والآثار على إيجاد الأسباب الخاصة بهذه الثقافة من غير النظر إلى شبكة العلاقات المعقدة التي تربطها بغيرها، ضمن خارطةٍ جغرافيةٍ تاريخية قد تتسع أحياناً لتشمل العالمَ المتحضرَ بكامله خلال فترة زمنية معينة. فنحن نسمع أن الثقافة السومرية قد تدهورت تدريجياً بسبب تملح الأراضي الزراعية في جنوب وادي الرافدين. والمملكة الأكادية انتهت بسبب هجوم الجماعات البربرية الجبلية من الشرق. والمملكة المصرية القديمة تداعت بسبب الإنفاق الهائل على الأهرامات والمشاريع العمرانية الضخمة، وما إلى ذلك. مثل هذه النظرة قد صارت بالية في اعتقادي، ولا بد من استبدالها بنظرة هولستية شمولية تنظر إلى الثقافة الواحدة لا في عزلتها وخصوصيتها بل في علائقها الأوسع، انطلاقاً من أن الحضارة الإنسانية عبارة عن بنية هولستية متكاملة، لا يمكن فهمَ ما يحدث في جانب منها إذا لم نفهمْ ونعي ما يحدث في الكل دفعة واحدة. وهذا ما سأعمل على تطبيقه من أجل فهمِ سلسلةِ الأحداث التي قادت إلى نهاية مملكة أوغاريت، مبتدئاً ببسط المشهد السياسي العام للقرن الثالث عشر قبل الميلاد، الذي شهدت نهايتُه انهياراً شاملاً لثقافة عصر البرونز الأخيرة (1600-1200 ق.م) في حوض البحر المتوسط وفي جميع أرجاء منطقة الشرق القديم.
خلال النصف الأول من القرن الثالث عشر، سادت العالم القديم قوتان عظميان هما الإمبراطورية المصرية والإمبراطورية الحثية. في الجنوب كانت مصر الفرعونية تعيش آخر فترات ازدهار العصر الإمبراطوري، الذي ابتدأ في مطلع القرن الخامس عشر مع فراعنة الأسرة الثامنة عشر. وكانت تسيطر على منطقة امتدت من أواسط سورية شمالاً إلى منطقة النوبة جنوباً، كما وصلت سلطتها غرباً حتى شملت معظم مناطق أفريقيا الشمالية. ولقد تحكم فراعنة الأسرة التاسعة عشر بحصة كبيرة من تجارة البحر المتوسط، كما استثمروا مناجم النحاس والتركواز في صحراء سيناء ومنطقة النقب، فراكموا ثروات أضيفت إلى ثروات الغلال الزراعية المنتظمة لوادي النيل، وصارت عاصمتهم ملتقى للبعثات التجارية والدبلوماسية القادمة من كريت وقبرص وكنعان وحاتي (المملكة الحثية). إن نظرة واحدة إلى معبد أبو سنبل في النوبة أو الكرنك في الأُقصُر تكفي لإشعارنا بمقدار عظمة مصر في مطلع القرن الثالث عشر.
وأما في الشمال فقد سيطرت الإمبراطورية الحثية على كامل آسيا الصغرى وعلى مناطق سورية الشمالية وصولاً إلى سهول حمص. وبلغت الحضارة الحثية أعلى مستوى لها في القرن الثالثِ عشر، وذلك في مجالات العمارة وفنون الحرب والأدب، وغيرها. وما تزال عاصمتها حاتوسس في موقع بوغاز-كوي قرب أنقرة الحالية، بتحصيناتها الهائلة ومعبدها الضخم ومنحوتاتها، شاهداً حياً على مدى عظمة وقوة تلك المملكة.
ولقد تجاورت القوتان العظميان عند خط عرضاني فاصل يمر من مملكة قادش في الوسط السوري، وتنازعتا السلطة على الممالك الكنعانية الصغيرة منذ عصر تل العمارنة، إلى أن وقع الصدام الكبير بينهما في عام 1286ق.م قرب مدينة قادش. هنالك التقى أضخم جيشين في ذلك الوقت؛ جيش يقوده الفرعون الشاب رمسيس الثاني، وآخر يقوده الملك الحثي المحنك مُوا تاليس. وعلى الرغم من أن السجلات الملكية لكلا الطرفين قد ادعت الانتصار في معركة قادش، إلا أن المجريات اللاحقة تدل على أن أياً منهما لم يحقق نصراً حاسماً على الآخر. فقد بقيت خطوط التماس في مواضعها، وانشغلت القوتان في مناوشات حدودية طوال ستة عشر عاماً، توصلتا إثرها إلى توقيع معاهدة سلام بينهما تعد من أشهر معاهدات العالم القديم.
في المنطقة الشرقية من الهلال الخصيب كانت بابل تعيش عزلة سياسية في ظل حكم الأسرة الكاشية. أما آشور فقد حررت نفسها من نفوذ مملكة ميتاني التي كانت تسيطر على وادي الرافدين الشمالي، ومعظم مناطق الشمال السوري إلى الشرق من نهر الفرات، وذلك بعد هزيمة الحثيين للميتانيين . ثم ما لبثت آشور حتى قضت على مملكة ميتاني حوالي عام 1320 ق.م ووصل نفوذها إلى شاطئ الفرات.
في البر اليوناني، وبعيداً عن صراعات هذه القوى الجبارة في منطقة المشرق القديم، كانت الثقافة الإغريقية الميسِّينيَّة، وريثة الثقافة الكريتية، قد أخذت تثبت وجودها بقوة. وخلال القرن الثالث عشر تحولت مدنها الرئيسية ميسّينيا وبيلوس وتيرينس وطيبة إلى مراكز إقليمية مهمة، يتحكم كل منها بمساحة واسعة من الأراضي حوله، على غرار دول المدن الكنعانية. كما راكمت هذه المدن ثروات يعتد بها من التجارة البحرية. هذا العالم الميسيني، هو الذي قدم الخلفية الرومانسية لملحمتي الإلياذة والأوديسَّة، بشخصياتها الأدبية المعروفة أمثال آغا ممنون وهيلين وأخيل وأوديسيوس. بين عالم الشرق القديم والعالم اليوناني قامت جزيرة قبرص كبوابة اتصال، ولعبت دوراً تجارياً مهماً خلال القرن الثالث عشر، كما كانت منتجاً رئيسياً لمعدن النحاس.
خلف هذه الصورة العامة المستقرة لعصر البرونز الأخير بتحصينات مدنه وعواصمه الفارهة وقصوره المترفة ومعابده السامقة، كانت عناصر انحلال خفية تـنخر في بناه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن الدلائل التاريخية والأركيولوجية تشير إلى أن القرن الثالث عشر قد تميز بالاضطرابات الاجتماعية والتفكُّك السياسي والحروب المحلية، وذلك من بلاد اليونان غرباً إلى وادي الرافدين شرقاً، ومن بلاد الأناضول شمالاً إلى وادي النيل جنوباً. هذه المناطق جميعاً شهدت تحولات درامية وأزمات عميقة الأثر، قادت إلى نهاية ثقافة عالم البرونز واستهلال ثقافة عصر الحديد الأول، وذلك خلال نصف قرن تقريباً. لقد تتبعت التنقيبات الأثرية خلال القرن العشرين آثار هذا الانهيار المفاجئ الشامل، وكشفت عن الدمار الهائل الذي حلَّ في المراكز الحضرية الرئيسية التي هُجر بعضها نهائياً ولم يعد إليه الاستيطان البشري، واستعاد بعضها الآخر حياته بعد قرن أو أكثر من الزمان، وبعضها قد تم استيطانه بعد فترة وجيزة ولكن من قبل جماعات فقيرة وذات خلفية حضارية متخلفة. تعتبر هذه الفترة من أكثر عصور التاريخ اضطراباً وفوضى، وغموضاً في الآن نفسه.
في العالم الميسيني لدينا آثار دمار وحرائق طالت جميع مدنه الرئيسية، ودلائلُ على انخفاض كبير في عدد السكان بلغت نسبته (70%) أو ما يزيد، ودلائل على تدني مستوى الحضارة المادية، حيث زالت معالم المدن الحصينة وحلت محلها قرى صغيرة مفقرة إلى أبعد الحدود.
في آسيا الصغرى تراخت قبضة السلطة المركزية في العاصمة حاتوسـس، واستقلت الولايات الحثية التي راحت تقاتل بعضها بعضاً. ويبدو أن شح المحاصيل وفقرَ البلاط الملكي الذي لم يعد قادراً على تمويل جيوشه، كان عاملاً أساسياً في تفكك البنية السياسية للمملكة الحثية. فقد عمَّت المجاعة أرجاء البلاد وانتشرت العصابات المسلحة تبحث عن لقمة العيش بكل الوسائل، فراح البلاط الحثي يستجدي القمح من الفرعون المصري مرنفتاح الذي أنجده بشحنة كبيرة منه حوالي عام 1212ق.م. وبين آخر الرسائل التي تلقاها حمورابي الثاني ملك أوغاريت رسالة من الملك الحثي شوبيلوليماس الثاني يطلب فيها شحنة قمح عاجلة اعتبرها مسألة حياة أو موت، وذلك حوالي عام 1190ق.م. ولكن الشحنة لم تصل على ما يبدو لأن أوغاريت لم تكن أحسن حالاً من بلاد الأناضول، ولأن العاصمة حاتوسس ما لبثت حتى تحولت أنقاضاً بعد ذلك التاريخ بقليل، ثم تبعتها أوغاريت. ومع انهيار العاصمة حاتوسس انتهت المملكة الحثية ولم تقم لها قائمة بعد ذلك. أما الجماعات الجائعة التي تهدمت مدنها وجفت حقولها فقد كانت تهيم على غير هدى، وزحف بعضها تحت قيادات منظمة نحو سورية الشمالية وبلاد آشور. وهنا تخبرنا النصوص الآشورية عن غارات جماعات أناضولية تدعوها بالموسكي والكاسكا، وذلك فيما بين عام 1160 و 1150 ق.م.
في بلاد الرافدين لدينا شواهد نصية على شح المحاصيل وارتفاع أسعارها، وشواهد أركيولوجية على تناقص كبير في عدد السكان بعد عام 1200 ق.م، تراوحت نسبته بين (25%) في الجنوب و (75%) في الشمال. وعلى الرغم من أن مصر قد حافظت على استقرارها السياسي تحت قيادة رمسيس الثاني واثنين من خلفائه الأقوياء هما مرنفتاح ورمسيس الثالث، إلا أننا نستدل من النصوص المصرية على حدوث اضطرابات اجتماعية وانقسامات في الجيش ونزاعات داخل الأسرة الحاكمة، وعلى حصول ارتفاع حاد في أسعار القمح والمواد الغذائية الرئيسية الأخرى. وتبع ذلك تدريجياً فقدان الأمن وانتشار العصابات المسلحة. ولم تحل نهاية القرن الثاني عشر حتى تفككت الإمبراطورية المصرية، وعادت المملكة إلى عزلتها القديمة.
وفي بلاد الشام لدينا دلائل أركيولوجية ونصية من مطلع القرن الثاني عشر على تدمير أوغاريت وعدد من المونئ المتوسطية الأخرى، وعلى انهيار المراكز الحضرية الرئيسية في الشمال السوري بين ساحل المتوسط وكركميش على الفرات. وفي الوسط السوري هنالك شواهد أثرية على النهاية المفاجئة لمملكة آمورو العريقة، وعلى تدمير مدينة عرقاتا الساحلية وكوميدي في البقاع. وفي الجنوب انهارت معظم دويلات المدن الفلسطينية خلال فترة القرن الثاني عشر. بعض هذه المدن وقع ضحية دمار مفاجيء وحرائق لاهبة، والبعض الآخر ذوى بشكل بطيء حتى تم هجرانه بشكل كامل أو جزئي. كما هجرت المناطق الزراعية وتحول أهلها إلى حياة الرعي المتنقل أو تحولوا إلى جماعات حربية مأجورة. هذا وتدلنا تقنيات التأريخ المتطورة اليوم، من مواقع المدن التي نالها التدمير المفاجئ، على أن تلك المواقع لم تتهدم في أوقات متقاربة بل على مدى عقود عديدة من الزمن، الأمر الذي يجعلنا نستبعد وقوعها ضحية لحملات عسكرية متتابعة قام بها عدو معين وفق خطة مدروسة أو غير مدروسة.
ترافقت هذه الأحداث مع تحركات سكانية واسعة النطاق. فإضافةً إلى الجماعات الأناضولية المهاجرة من مملكة حاتي، والتي كانت تحاول التوطن في الشمال السوري، كانت الجماعات المحلية المقتلعة من مواطنها المهدمة والمهددة تبحث عن لقمة غذاء وأرض جديدة للاستقرار في مناطق غير مضيافة. كما كانت الجماعات الآرامية القبلية تستغل فرصة انهيار البُنى السياسية في حوض الخابور والفرات، وتهاجم المراكز الحضرية الكبرى مثل مدينة إيمار على الفرات وغيرها من حواضر عصر البرونز الأخير. وما لبثت حتى تحولت تدريجياً من قبائل رعوية إلى جماعات زراعية مستقرة. على أن أخطر هذه التحركات السكانية كان تحرك الجماعات المعروفة تاريخياً باسم عام وغامض هو: شعوب البحر.
إن مصدرنا التاريخي عن هذه الجماعات هو عدد من الرسائل المتبادلة بين ملك قبرص والبلاط الأوغاريتي، حيث ينبه الملك القبرصي زميله الأوغاريتي إلى خطر تقدُّم هذه الجماعات نحو شواطئ المتوسط. كما أوردت السجلات الحربية المصرية، من عهد الفرعون مرنفتاح وخليفته رمسيس الثالث، أخباراً أكثر تفصيلاً عن تحركات شعوب البحر وعن هزيمتهم الأخيرة على يد المصريين. لا يتوفر لدينا حتى الآن معلوماتٌ مؤكدة بخصوص هوية شعوب البحر ومواطنهم الرئيسية. وبما أن النصوص المصرية تصفهم بأنهم سكان الجزر الشمالية، فإن قسماً كبيراً منهم ولا شك قد جاء من جزر إيجة وكريت، بعد انهيار العالم الميسيني ووقوعه قبل الجميع نهبة للفوضى والاضطرابات والفقر المدقع. إن السيناريو الأكثر احتمالاً لتحركات هذه الشعوب اعتماداً على النصوص المصرية، هو أن جماعات مفقرة قد انطلقت مع نسائها وأطفالها ومتاعها المنزلي الخفيف، من نقطة ما في الأرخبيل الإيجي تحت قيادات منظمة باتجاه الشواطئ المصرية في محاولة للاستقرار في منطقة الدلتا. فحطت مراكبها أولاً على الشواطئ الليبية، ومن هناك تحركت مع مجموعات حليفة ليبية باتجاه الأراضي المصرية، ولكن الفرعون مرنفتاح هزمها حوالي عام 1220ق.م. وفي الوقت نفسه كان فريق من شعوب البحر يرتحل براً عبر أراضي المملكة الحثية التي دمرتها المجاعة، في طريقه إلى سورية. وخلال ترحاله كانت أفواج من الأناضوليين الهائمين تنضم إليه وترفد قواته العسكرية التي مارست السلب والنهب، وخاضت عمليات حربية منظمة ضد جيوش محلية لم تكن ترغب في بقائها أو مرورها في أراضيها. اجتازت هذه الجماعات البرية من شعوب البحر مناطق سورية الشمالية واستقرت في المنطقة الوسطى بعد أن دمرت مملكة آمورو، استعداداً للانقضاض على مصر، أسمن الطرائد في ذلك العصر، والاستقرار في منطقة الدلتا أيضاً. بعد فترة استعداد وترقُّب تابعت أحلاف شعوب البحر المؤلفة من أخلاط شتى مسيرتها جنوباً فعبرت فلسطين ودمرت عدداً من مدنها. ولكن الفرعون رمسيس الثالث تصدى لها في مكان ما على الساحل الفلسطيني الجنوبي وهزمها، ثم طارد فلولها شمالاً حتى الساحل اللبناني حيث تفرقت وانتهت كقوة بشرية وعسكرية منظمة. ونفهم من نصوص رمسيس الثالث، أنه قد سمح لفريق منها يدعى بشعب البيلسيت (أو الفيلسيت) بالاستقرار في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني، كما أنه قد قدم الغذاء والكساء للفرق المستسلمة من التحالف وسمح لهم بالإقامة تحت المراقبة في مواقع مصرية حصينة.
ما الذي حدث فعلاً، وما هي الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الانهيار الشامل لثقافة عصر البرونز؟
لعلَّ الولع التقليدي للمؤرخين بتفسير انهيار الثقافات المتقدمة بغزوات الشعوب البربرية كان وراء ترشيح شعوب البحر كعامل أساسي وحاسم في القضاء على ثقافة عصر البرونز الأخير واستهلال عصر الحديد. غير أن مجموعة من الحقائق قد بدأت تتكشف لنا تدريجياً خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، جعلتنا ننظر إلى تحركات شعوب البحر باعتبارها نتيجة من نتائج الأحداث المأساوية لذلك العصر لا سبباً لها. فتلك الشعوب قد اقتلعت من موطنها بسبب كارثة مناخية شاملة طالت النصف الشمالي من الكرة الأرضية، وتجلَّت بأوضح أشكالها في منطقة شرقي المتوسط، فيما يعرف الآن باسم الجفاف الميسيني الكبير، نسبةً إلى منطقة ميسينيا التي كانت بؤرة ذلك الجفاف وأول من تضرَّر بنتائجه. إنه لفي حكم المؤكد الآن أن ذلك الجفاف الكبير كان وراء كل الاضطرابات الاجتماعية والحروب والتفكُّك السياسي في منطقة الشرق القديم خلال الفترة الانتقالية من القرن الثالث عشر إلى القرن الثاني عشر.
منذ ستينيات القرن العشرين أخذت ملعوماتنا بخصوص التبدلات المناخية العالمية تتخذ طابعاً أكثر دقةً وعلميةً، ولا سيما فيما يتعلق بمناخ العصور القديمة. فلقد تبين لعلماء المناخ اليوم، ومن دراساتهم لحلقات جذوع الأشجار في أمريكا الشمالية وأوروبا خلال سبعة آلاف عام مضت، أن نصف الكرة الشمالي قد مرَّ بفترة تبدل مناخي تميزت بالجفاف وارتفاع درجات الحرارة، وذلك منذ بداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد. استمرت موجة الجفاف بالتصاعد حتى عام 1200 ق.م، ثم أخذت بالتراجع خلال القرن الحادي عشر حتى زالت آثارها تماماً حوالي عام 1000ق.م. ولقد قام العلماء أيضاً بمقاطعة المعلومات المستمدة من جذوع الأشجار بمعلومات أخرى مستمدة من دراسة مستوى مياه البحيرات الداخلية، وتحركات الجموديات، والتبدلات في حالة التربة العضوية. وقد أكدت لهم هذه الزمرة من المعلومات ما أوصلتهم إليه دراسة حلقات الأشجار. كما تم الحصول من آسيا على معلومات تطابقت مع المعلومات المستمدة من أوروبا وأمريكا الشمالية. ففي سلسلة جبال الهيمالايا وسلسلة جبال قرقوم هنالك دلائل على تراجع الجليديات خلال الفترة الانتقالية من القرن الثالث عشر إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ودلائل أيضاً على انخفاض معدل الأمطار الموسمية في حوض نهر السند.
ولكن بعض المعلومات الأكثر إقناعاً فيما يتعلق بموضوعنا هنا قد جاءت من منطقة الشرق القديم. فحلقات جذوع الأشجار القديمة في الأناضول والهلال الخصيب تشير إلى وقوع جفاف حادّ في أواخر القرن الثالث عشر. كما أن دراسة مستوى المياه في منابع نهر النيل أشارت إلى حدوث انخفاض تدريجي في مستوى النهر ابتداءً من مطلع القرن الثالث عشر وحتى مطلع القرن الثاني عشر، وبقائه في حده الأدنى هذا حتى عام 1100 ق.م. وبسبب قلة تدفق المياه إلى فرعي النيل في مصر السفلى، فقد تملحت حقول الدلتا وذوت معظم حواضرها بما فيها عاصمة رمسيس الثاني المدعوة بي- رمسيس، التي رحل عنها سكانها تدريجيَّاً حتى هوت تماماً وتهدمت في أواخر القرن الحادي عشر ق.م. وفي منطقة بلاد الرافدين تبين دراسات قوة تدفق مياه النهرين عبر ستة آلاف سنة مضت، أن ماء دجلة والفرات قد تباطأ دفقه اعتباراً من أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ووصل حده الأدنى في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وفي منطقة النقب جنوبي فلسطين، تدل دراسة المخلفات النباتية في المواقع الأثرية على أن الحياة الزراعية قد تحولت في نهايات عصر البرونز الأخير من الزراعات المتوسطية التقليدية إلى زراعات المناطق الجافة، وهو مؤشر واضح على جفاف المناخ وارتفاع درجات الحرارة.
إذا جمعنا هذه المعلومات بخصوص التبدل المناخي في منطقة الشرق القديم إلى ما لاحظه علماء الآثار منذ وقت مبكر من حدوث تدهور تدريجي لثقافة عصر البرونز الأخير، وأضفنا إلى ذلك كله ما أفادتنا به سجلات ثقافات المنطقة المشرقية من حدوث اضطرابات اجتماعية وحروب وهجرات واسعة انتهت بدمار واسع للمراكز الحضرية الرئيسية وهجران الأراضي الزراعية، لتوصلنا إلى نتيجة منطقية واحدة، وهي إن عصر البرونز الأخير قد انهار بتأثير كارثة مناخية شاملة. أما العوامل الأخرى من داخلية وخارجية بما فيها تحركات شعوب البحر، فلم تكن لها سوى آثار ثانوية. إنها أشبه بالقشة التي قصمت ظهر البعير.
إن تباعد التواريخ التي حددها علماء الآثار لدمار المدن السورية والفلسطينية أو لهجرانها، يدل على تعدد الأسباب المباشرة، على الخلفية العامة لحالة التدهور الشامل. فلقد فقدت هذه المدن مقدرتها على الاستمرار بفقدانها لمصادر ثروتها بعد جفاف المناطق الزراعية من حولها، ورحيل مزارعيها بحثاً عن استراتيجيات جديدة في تحصيل المعاش، وبعد أن تعطلت طرق التجارة المحلية والدولية. بعض هذه المدن قد تم هجرانه تدريجياً حتى خلا من سكانه وتهدم بفعل العوامل الطبيعية، وبعضها قد تعرض للتخريب على يد جماعات حربية منظمة بينها شعوب البحر، وبعضها قد دمرته الزلازل ولم يكن بمقدور أهله المفقرين ولا بنيته السياسية المتآكلة إعادة بنائه. وهذا ما نرجح أنه حصل لأوغاريت. فلقد تأثرت أوغاريت بشكل بالغ بموجة الجفاف العامة، وخسرت تجارتها البحرية المزدهرة بشكل كامل تقريباً، وسادتها الاضطرابات السياسية والاجتماعية جرَّاء ذلك. ولكنها على الأرجح لم تلقَ نهايتها على يدِ شعوب البحر، بل بفعل زلزال دمرها تدميراً كاملاً وأشعل فيها النيران التي بلغ من شدتها أنها أحالت حجارة المباني الضخمة إلى كلس هش. لو أن مثل هذه الزلازل قد وقع في القرن الخامس عشر أو الرابع عشر لكان بمقدور أوغاريت أن تبعث من تحت رمادها في عام واحد لتتابع حياتها العادية. ولكن أوغاريت مطلع القرن الثاني عشر كانت في حالة من الفقر والفاقة والتفكُّك بحيث إن أهلها وملكها ومتنفذيها لم يكونوا في وضع يسمح لهم بإعادة البناء، فهُجرت المدينة ولم يعد الاستيطان إليها قط. منطقة الميناء وحدها انتعشت بشكل جزئي بعد عدة عقود من الزمن، وسُكنت من قبل جماعات لا تنتمي إلى التركيب الاثني والثقافي للمدينة القديمة.
مع العودة التدريجية للمناخ الرطب والبارد اعتباراً من أواسط القرن الثاني عشر قبل الميلاد، حلَّت ممالك الدويلات الصغيرة في بلاد الشام محل إمبراطوريات عصر البرونز البائدة. فقد أسس الآراميون لهم ممالك في حوض الخابور والفرات، وكذلك على طول المنطقة الشمالية وصولاً إلى سهل العُمق، إضافةً إلى مناطق الوسط والجنوب السوري. على الساحل السوري من أرواد إلى يافا عادت الموانئ، الكنعانية إلى الازدهار بعد أن عبرت المحنة بشق الأنفس، ودعيت ثقافتها الجديدة المتميزة عن ثقافة عصر البرونز والمتصلة بها في الآن نفسه دون انقطاع بالثقافة الفينيقية. وفي فلسطين عادت الثقافة الكنعانية لتؤكد استمراريتها في عشرات ممالك المدن الصغيرة والقوية، مثل مجدو وبيت شان في مرج ابن عامر (وادي يزرعيل)، وأشدود وعسقلان على الساحل، وجازر ولخيش في السفوح الغربية للمناطق الهضبية (سهل شفلح)، والسامرة وأورشليم في عمق المناطق الهضبية الفلسطينية. وعبر الأردن نشأت الممالك التقليدية لشرقي الأردن مثل عمون ومؤاب.
على أن خارطة الموزاييك السياسي والبشري هذه ما لبثت حتى ذابت تدريجياً، ومنذ القرن الثامن قبل الميلاد، في الإمبراطورية الآشورية التي وسعت حدودها غرباً حتى أنهت استقلال معظم الدويلات السورية والفلسطينية وألحقتها بالتاج الآشوري. ثم تجاوز نفوذها السياسي حتى اشتمل على قبرص وكريت وجزر إيجة. وما لبثت أن ابتلعت مصر ولم تقدر على هضمها، فكان احتلال مصر في عصر أسر حارون بداية النهاية لقوة عسكرية جبارة بالغت في عبادة ذاتها حتى تفككت وتحولت إلى جثة داخل درع ما لبث البابليون والميديون أن أجهزوا عليه بضربة واحدة.
أخيراً. لا بد لي من القول أنه رغم كل المنطقية التي تتمتع بها هذه النظرية الخاصة بتفسير أسباب انهيار ثقافة عصر البرونز، فإنها ليست بمثابة القول الفصل في هذه المسألة. في كتابة التاريخ لا يوجد قول فصل. إن الحدث التاريخي ليس شيئاً موجوداً في الماضي بكل وضوحه ودقة تفاصيله، ينتظر منا البحث عنه واكتشافه، بل هو نتاج منطق ومنهجية الكتابة التاريخية، التي لا تطمح في رأيي إلى تقديم تقرير صادق وأمين عن الماضي، قدر ما تطمح إلى تقديم تصورات تراها أقرب إلى حقيقة ما حدث. فالماضي قد ولَّى إلى غير رجعة ولم يترك لنا سوى شذرات متفرقة من نصوص ولُقى أثرية علينا أن نفسرها بمنهجية صارمة، مع ترك هامش من الشك والاعتراف بالجهل. هذا الشك هو الذي يحمينا من أمان الدوغمائية واليقين ويبقينا في حيرة العلم، وهذا الاعتراف بالجهل يجعلنا في منجاة من التحوُّل من مؤرخين إلى أدباء يصوغون قصة مطردة انطلاقاً من وثائق غير مطردة.
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow