بمللٍ وشرود أتأملُ فنجان القهوة الصيني القديم المصنوع من الخزف، تتوسطه وردة حمراء قبيحة، والقابل للتشظي في أي لحظة إلى عشرات القطع المتناثرة، أضف إلى ذلك صقيع الطقس الذي يُعجِّل، وخاصة عند التقاء شفتي الباردتين بقهوتك المفضلة، من برودتها، وتُترجم مباشرة في عقلي إلى مذاق غير مُستساغ، ولكني عبثاً أقاوم طباعك، ومنها شرب القهوة المرّة في نية استحضارك إلى هنا، إلى جانبي. باتت إحدى واجباتي اليومية الجلوس مطولاً أمام شاشة الحاسوب، والعبث بيدي اليمنى على أزرار الفأرة ، وبيدي الأخرى أُدّلكُ ظهري المتخشِّب حيناً، وأحتسي قهوتك في أحاينٍ أخرى. أفتحُ صفحاتٍ على شبكة الانترنت وأغلقُ غيرها، أفتش بدأبٍ صبور عن خبر هنا، وعن سطر هناك، عن معلومة .. إشاعة .. همس بين الأصدقاء وغير الأصدقاء .. عن أي شيىء يحمل في مضمونه خبر إطلاق جناحيك مجدداً من معتقلات السجون. واستمراراً لغيابك لاحظَ من حولي، وممن تعرفهم جيداً، إصابتي بأعراض حمُى الجنون: إتقادُ الوجنتين والشفتين .. زيغان العيون .. البكاء والضحك الهستيري .. تسرع في ضربات القلب، و هذيان منتصف الليل باسمك الأول والثاني وكل الأسماء التي أُطلقها عليك من حبيبي وحبوبي وصغيري وبطلي.... كما أحتفظُ بملفٍ خاص بك، أجمع فيه كل عبارة كُتبت عنك، فضلاً عن عشرات الصور التي يتناقلها مناهضي النظام عبر الشبكات الاجتماعية، فتداولها أمام ناظريّ في معظم الأوقات بزمانها ومكانها، وتفاصيلها الصغيرة (من قميص وسترة وبنطال وحذاء وساعة وخاتم وشال)، يجعلها جزءاً من كُليّتي، وبهذا التراكم الطوعي يمرُ أمامي شريطاً مسجلاً مكرراً دون اهتراء. في صورتك الأخيرة التي أُلتقطت قبل أيام قليلة من دخولك المعتقل، رصدتُ عينيك الشائختين، ومن حولها نسجت نفسها هالات كُحلية تفضح لهاثك المتعب، ونوء أحمالك الثقيلة ، وسهراتك الليلية حتى فجر مزيف مع الرفاق لفضح ألاعيب وفجور النظام. لا تتعجب إن قلتُ لك بأني عرفتك الآن كما لم أعرفك من قبل، لم يكن عليّ، أنا المتيمة بحنين عطرك الشهي، إلا أن أحدق في سطح القهوة الذي يماثل لون عينيك. لم أسدل أبداً جفنيّ، بل زملتني من رأسي حتى أخمص قدمي، للحظات أو سويعات، ستارةً سوداء. فوجَدُتني في جسد ذكوري يرتكن على حائط عفن في غرفة ضيقة، رطبة وخانقة. يعلو الحائط ، ورائي، نافذة صغيرة ذات قضبان لا يلوح وراءها لا ظلاً ولا حركة. انقبض قلبي، تحسستُ جسدي الجديد، وعرفتُ أنني أنتَ. عبر ذاك الضوء الباهت، تلمستُ بيدك جراحك النازفة حديثاً، فأطلقتُ زعيقاً لم تسمعه، ثم مررتُ بأصابعك فوق كدمات جسدك المرّقع، وتحسستُ شفتيك العطشتين المتشققتين، وبخشوع ناسك أنصتُ إلى أنفاسك الدافئة. بعيونك تأملتُ المكان القذر، نظرتُ إلى الرفاق الخارجين ،كما بدا لي، من حفلات التعذيب، واتضح أيضاً أن هذه الطقوس الهمجية أصبحت بحكم العادة لكم. وإذهالاً لدواخلي المتخبطة، كنتم تبتسمون، فالبقاء على قيد الحياة في أقبية الموت نصراً جديداً، تتغامزونه بفرح مبطن يُشرق لمعاناً في حدقاتكم المتسعة. لم أقدر على الصمود مطولاً، وأنت المعتاد على سماع صرخات الألم من غرفة مجاورة، يتعرض أصحابها للهتك تحت أجهزة الجلادين المحدّثة والمطورة سادياً، لإشباع شبقهم المسعور بضحية جديدة أو قديمة تسقط تحت أنيابهم ومخالبهم المسمومة. لذا بدأت منك الانسحاب البطيء ، فما كان إلا أن تلفظتَ بحرف الحاء المضمومة، والمكوّر على أوجاعه بجانبك لفظ حرف الراء المكسورة، والثالث صرخ بحرف الياء المفتوحة، وفجأة صدحتم جميعاً بسخرية ممن يقبع وراء الباب: حرية .. حرية. ساندتكم أصواتاً من الغرف المجاورة .. تعالت ولعلعت. خرجتُ منك وعمتُ في الفضاء المحيط، أتلذذ بسجن يهتز على رنين الحرية، ابتسمتُ بدايةً ثم ضحكتُ على الجلاد وأدواته الصدئة. وفكرتُ ملياً بأجنحة اللغة العابرة للمعتقلات. انتهى. ٨١٢٠١٢ ملاحظة: ستخرج قريباً وتقرأ رسائلي، إلى ذاك الحين سأهربُ من معتقلي في الخارج .. وأعودُ إليكَ .. لأُبصر مجدداً بعينيكَ.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...