شوقي بغدادي يؤجج النار بين الشعراء الموتى
إبراهيم الجرادي
2018-11-03
بغدادي إذاً لا يتوقف عند اتهام كتابة درويش بالـ "إسرائيليات"
من بين مختلف أقوال الرثاء التي أطلقت في غياب الشاعر السوري ابراهيم الجرادي، الراحل أخيراً في دمشق (1951-2018)، تفرّد الشاعر شوقي بغدادي برثائية دلَفَ عبرها من العزاء المنصوب حديثاً للجرادي إلى عالم محمود درويش (1941-2008) البعيد، الغائب، ليثير الغبار من حوله، في محاولة، على ما يبدو، لإفساد هدأة درويش، أكثر من الأمل براحة نفس الشاعر الراحل للتوّ.
يفتتح بغدادي رثائيته بزعم أن "خير ما نرثي به صديقنا ابراهيم الجرادي هو النظر في شعره كي ندرك حجم الخسارة التي أصبنا بها، جميع محبيه"، لكنه فعلياً لا يعود إلا إلى قصيدة وحيدة، هي "نجمة الإسفلت"، مشبّهاً إياها بما فعلته "الشاعرة السورية الملهمة في نقد محمود درويش في إحدى قصائده الإشكالية، والمقيمة في لبنان غادة فؤاد السمان في كتابها الشهير "إسرائيليات بأقلام عربية"، لقصيدته المسماة "عندما يبتعد".."!
بغدادي إذاً لا يتوقف عند اتهام كتابة درويش بالـ"إسرائيليات" وحسب، إنما يعتبر ما جاء في الكتاب ملهماً، وهو، فوق ذلك، يريد أن يُكرِه قصيدة الجرادي على قول ما لم تقل، فالأخير وإن حاور درويش، عاتباً بمحبة أو غضب، لا يمكن له أن يصل إلى حدّ اتهام كتابة درويش بالإسرائيليات.
تكرس السمّان فصلاً مطوّلاً من كتابها المعنون "إسرائيليات بأقلام عربية- الدس الصهيوني" (2001) لتجربة درويش. ترمي الأسئلة، بل الأجوبة، الاتهامية هنا وهناك "هكذا صار درويش أفيون الأمة.. في سياق خدمة تحوير الصراع من المجابهة بالأداة إلى المشافهة بالنظم". لا تتردد في وصف تجربته بـ "غير البريئة". تتحدث عن "استثمارات صهيونية للظاهرة الدرويشية"، وتتساءل "عن الدور الحقيقي للشاعر، نقاهة، استهدان صهيوني؟".
أما عن قصيدة "عندما يبتعد"، والتي تقوم على حوارية خافتة الصوت بين الشاعر والعدو الذي "يشرب الشاي في كوخنا"، فتفرد لها السمّان حديثاً طويلاً، جلّه محاولات لقسر النص على قول ما لم يقل. تأخذ عليه أولاً أنه يخاطب العدو باسم "عدو"، حيث لا يجوز "أن يصبح الغاصب المحتل عدواً، فهو انقلاب عاطفي غير جائز"، كأنها تريد القول إن وصف "عدو"، يحمل شكلاً من أشكال الأنسنة، وقابلية العودة إلى دور الصديق.
تتمادى ملهمة بغدادي إلى حدّ التدخل في ما يجب على الشاعر قوله "كأن الغريب هنا هو الوصي الشرعي عندما يدعوه درويش للسلام على بيته وتفقّد آثاره. ولو أن درويش قد استبدل كلمة غريب بالقول مثلاً "سلّم على بيتنا يا غاصب" لكانت المفارقة هنا بين "سلم" و"غاصب" ذات دلالة أعمق.."!
وفي وقت يحتفي كثير من محبي درويش بذلك الموقف المبكر عندما توقف عن إلقاء قصيدة "بطاقة هوية" كنموذج لإرادة الشاعر الإبداعية الصلبة وإدارة ظهره للجمهور لإعلاء شأن القصيدة، تنظر السمّان إلى ذلك الرفض كنقيصة. لن يخطر في بالها أن الصورة التي قدّم فيها درويش قضيته إلى العالم كانت قد تأسست على مغامرة عدم الانصياع إلى ما يطلبه الجمهور.
تسأل السمّان أخيراً باستنكار "أهذا ما تبقى من لاءات درويش التي ذهبت في مهب الحبر وبريق الأوسمة.. بعد أن كان لدرويش لاءات تجلجل الأبجدية بحالها"؟!
فما الإلهام الذي يتحدث عنه بغدادي في هذه القراءة الإكراهية لشعر درويش، والأهم، أي شبه يجده في قصيدة الجرادي "نجمة الإسفلت" مع السيدة الملهمة.
الاختلاف كضرورة
يورد شوقي بغدادي في مرثيته عدة مقاطع من "نجمة الإسفلت"، لكن لا يبدو فيها أن شاعرها بلغ حدّ وصف قصيدة درويش بالـ "إسرائيليات":
"لماذا يخون القصيدةَ شاعرُها؟
أدرَكَت سرّ ما يبتغيه
فباعَت مفاتنَها للضغينة
والصيرفي الموشّى بقافلة من صيارفةٍ
آخرين
قلت: يكفي
يا ربّ
يا ربّ
يا رب".
يعلق بغدادي على هذا المقطع الختامي لقصيدة الجرادي بالقول "بهذه الخاتمة المفجعة يقفل الشاعر الكبير حقاً الباب على عرب هذا الزمان وعلى شاعرها المشهور جداً محمود درويش بطل قصيدة: "نجمة الإسفلت". ولا يفوته، إمعاناً في النيل من الشاعر الراحل، التوضيح "والنجمة هي محمود درويش، أما الإسفلت فهو العالم الفاسد الذي انتمت إليه هذه النجمة".
لكن كيف تجرأ بغدادي على استنتاجات بهذا الحجم بحق درويش، وعلى تقويل الجرادي ما لم يقل، خصوصاً أن بين يديه نصوصاً موازية يمكن أن يستعين بها في تأويل "نجمة الإسفلت"، إن شقّت عليه القصيدة.
لقد وضع الجرادي كتابه الشعري الأخير برمته في محاورة درويش وتكريمه، أعطاه العنوان "محمود درويش ينهض" (2010)، ومن البديهي أن يجد المرء اختلافاً ما مع الشاعر، فهذا من ضرورات الحوار، فلمَ لا يستمع بغدادي إلى مقابلة الجرادي الأخيرة على الشاشة السورية، وبين يديه ذلك الديوان، يُسأَل عن درويش فيجيب بإسهاب وإعجاب "محمود درويش يمثل الكثير، ليس لي فقط، وإنما للثقافة العربية والإنسانية. ورحيله كان خسارة كبرى، وهو الكشاف من الطراز الأول، صاحب المجازات الشعرية الرائعة الذي شذب الشعر من الزائد والفائض. وهناك إجماع على أنه كان في مقدمة الشعر العالمي. محمود دوريش وكل شاعر جيد يفتح لي آفاقاً ونوافذ، ويبني لي حدائق أستظل بها وأستفيد منها، ويعطيني مدلولات جديدة للغة، يجعلني أقول بصراحة وصدق إنني أتكئ عليه. محمود درويش أعاد للشعر اعتباره، وجذب عدداً هائلاً من الناس إلى الشعر بقوة موهبته الفذة".
اختصر بغدادي الشاعر الجرادي بقصيدة واحدة، هي "نجمة الإسفلت"، ثم فسّرها على هواه. اختصره بقصيدة، كما حشره مع "الناقدة الملهمة"، صاحبة كتاب "إسرائيليات"، أسوأ كتاب يمكن أن تقرأه في نقد الشعر. فهل هذا خير الرثاء!