صعود الشعبوية: لم يعيش الغرب في أزمة؟ – فريد زكريا / ترجمة: إبراهيم محسن
ألف
2018-11-24
قد يتفق محبو ومنتقدو “ترامب” على شيء واحد وهو أنه مختلف، يصفه “نيوت غنغريتش” –وهو من أبرزداعميه الجمهوريين الأساسيين– بأنه: “حالة فريدة واستثنائية.” , وبالطبع فإن “ترامب” متميز بنجوميتهومرونته مع الحقائق ، ولكن في المقابل ، لايسري هذا التميز هذا إلى جوانب أخرى من شخصية ترمب ، فهو جزء من صعود “شعبوي” يجتاح العالم الغربي، يُلاحظ هذا الصعود بعدة بلدان رغم اختلاف أوضاعها، من سويسرا الثرية إلى اليونان المثقلة بالأزمات. عامة، تبقى الشعبوية حركة معارضة، رغم أنها اليوم تزداد قوة، ففي بلاد كهنغاريا تُعد هي الأيدولوجيا المهيمنة. لقد استطاعت الشعبوية الحصول على اهتمام العامة في كل مكان تقريبا.
ما هي الشعبوية؟ يتباين تعريف الشعبوية أشياء لدى بين المجموعات البشرية ، وقد يكون الجامع المشترك بين هذه التعريفات أن الشعبوية – في كل المجتمعات البشرية – تتشارك بالشك والعداء للنخب،والسياسة السائدة والمؤسسات القائمة. ترى الشعبوية أنها تتكلم باسم الناس “العامة ” المنسيين متخيلة نفسهاأنها صوت الوطنية الحقيقية. على سبيل المثال ؛ يقول “ترامب” بعدد أبريل 2016 من مجلة “ذا وولستريت “: ” يكمن الترياق الوحيد لإنهاء عقود من الحكم المدمر لمجموعة قليلة من النخب يتحقق فيضخ دم جديد من الرغبة الشعبية. ففي كل موضوع مهم يؤثر على هذه الدولة، الشعب على صواب والنخبالحاكمة على خطأ.” .. يذكرنا هذا بكلام “نوبرت هوفر“، الذي اختار شعار “النمسا أولاً“ لحملتةالإنتخابة اليمينية في عام 2016، قال لمنافسه مرشح الخضر آليكسندر بيلين –الذي كان بروفيسورا سابقا -: ” تملك المجتمع النخبة ؛ وأنا معي الشعب“.1
جاءت الشعبوية تاريخيا بأشكال يمينية ويسارية، وكلا الشكلين ينشطان اليوم، من “بيرني ساندرز” لـ“ترامب” ومن “سيرزا” –الحزب اليساري الحاكم في اليونان– لحزب الجبهة الوطنية في فرنسا. إنالشعبوية اليسارية اليوم ليست بالمختلفة ولا المحيرة. لقد كان في الدول الغربية قوى يسارية متعصبة تنتقدسياسات الأحزاب اليسارية السائدة كون الأخيرة تميل للأسواق وتستوعب الشركات الكبيرة، وفي أعقابالحرب الباردة تحركت الأحزاب اليسارية الوسطية بشكل أكبر باتجاه الوسط – مثال ذلك بيل كلينتون فيالولايات المتحدة وتوني بلير في بريطانيا– وبهذا أصبح هناك فجوة يمكن ملؤها بالشعبويين. لقد بقيت هذهالفجوة فارغة حتى الأزمة المالية في العام 2007-2008. لقد كان الكساد العالمي سبباً في خسارة ملاكالبيوت في أمريكا تريليونات من الثروة وأدت إلى ارتفاع معدلات البطالة في دول كاليونان وإسبانيا لأعلىمن 20 % وثبات هذه النسبة إلى الأن، تلى هذا عودة اليسار الشعبوي ليست مستغربةعلى خلفية أكبرأزمة اقتصادية منذ “الكساد الكبير“.
إن الأجندة اليسارية الجديدة لا تختلف كثيرا عن تلك القديمة، ولو كان هناك اختلاف فهو أن أحزاب اليسارالشعبوية اليوم أقرب إلى الوسط عما كانت عليه قبل30 عاما في عدد من الدول الأوروبية. فعلى سبيلالمثال: حزب “سيرزا” في اليونان ليس اشتراكيا كما كان عليه الحزب الإشتراكي الرئيس في اليونان“باسوك” في الـ 1970 و1980، حيث وُضعت بعض الإصلاحات السوقية المغايرة للأحزاب اليسارية الآقدم .
يسري هذا على حزب “بديموس” النسخة الإسبانية من “سيرزا” الذي فاز بالسلطة – بعد أن حصل فقطعلى 20% من الأصوات في أحدث انتخابات البلاد– ، ومن المحتمل أن يجد الحزب وضعية مشابه ل“سيرزا“.
بالمقابل، تمر الأحزاب اليمينية الشعبوية بمرحلة تقدم جديدة في دولة تلو الأخرى في أرجاء أوروبا. حزبالجبهة الوطنية الفرنسي مؤهل للفوز بالجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، وفي النمسا اقترب “حزبالحرية” جداً من الفوز في الانتخابات الرئاسية هذا العام، الأمر الذي ما زال ممكناً بعد ما ألغيت الانتخاباتوأجلت لشهر ديسمبر 1. لم تستسلم كل الدول لهذا التقدم، فإسبانيا، بتاريخها القريب الذي عانت فيه مندكتاتورية اليمين، أظهرت شهية ضعيفة لمثل هذه الأحزاب. بالمقابل تمتلك ألمانيا اليوم، الدولة التي يلاحقهاتاريخ من التطرف أكثر من أي دولة أخرى، حزبا شعبويا يمينيا يزداد قوة ويسمى “الخيار لألمانيا“.وبالتأكيد لاتعدم ألمانيا “ترامبها “.
يرى بعض الأمريكيين أن “ترامب” ظاهرة فردية لا يمثل أجندة طويلة الأمد، إلا أن الأدلة المتراكمةتشيء بغير ذلك. استخدم العالم السياسي “جاستن جيست” البرنامج الانتخابي للحزب البريطاني الوطنياليميني، وسأل الأمريكيين البيض عما إذا كانوا سيدعمون حزبا سيقوم بإيقاف الهجرة الجماعية، توفيرالوظائف الأمريكية للأمريكيين، المحافظة على التراث المسيحي لأمريكا وإيقاف التهديد الإسلامي“، أجاب65% بأنهم سيدعمون مثل هذه التوجهات، الأمر الذي جعل جيست يستنتج أن “الترامبية” ستستمر بعد“ترامب“.
لماذا الغرب، ولماذا الآن؟
حتى نفهم البحث مصدر الشعبوية الجديدة، يجب على الشخص أن يتبع نصيحة “شارلوك هولمز2” في أنينتبه للكلب الذي لا يعوي، فالشعبوية غير موجودة بشكل كبير في آسيا، حتى في الاقتصاديات المتطورةكاليابان وكوريا الجنوبية، وهي أيضا تتقهقر في أمريكا اللاتينية، حيث قادت الشعبوية اليسارية، في كل منالأرجنتين وبوليفيا وفنزويلا، دولها للسقوط خلال العقد الماضي. في ورقة بحثية مهمة من كلية كيندي للحكمفي جامعة هارفرد، توصل “رونالد انغليهرت” و “بيبا نورس” إلى أنه ومنذ عام 1960، استطاعتالأحزاب الشعبوية اليمينية مضاعفة حصتها في الأصوات، فيما تضاعفت حصة الأحزاب الشعبوية اليساريةإلى خمس مرات في الدول الأوروبية. وفي العقد الثاني من هذا القرن، ارتفع معدل حصة اليمين الشعبويمن المقاعد إلى 13.7% بالمقابل ارتفعت حصة اليسار الشعبوي إلى 11.5 %.
إن أكثر النتائج الصادمة لهذه الورقة هو ضعف دور الاقتصاد كمحرك للسياسة. ما زالت الطريقة التي يفكرفيها بالسياسة اليوم تتشكل من خلال التقسيم الأولي للقرن العشرين اليميني–اليساري، فاليسار يرتبط دائماًبزيادة الإنفاق الحكومي، دولة الرفاهية وقيود أكبر على الشركات. بالمقابل تريد أحزاب اليمين حدّ الحكومة،شبكات أمان أقل وسياسات السوق الحر. لقد كان نمط التصويت السائد يدعم هذا التقسيم الأيديولوجي،فكانت الطبقة العاملة تفضل اليسار فيما تفضل الطبقة المتوسطة والعليا اليمين، كان مستوى الدخل المؤشرالأفضل للخيارات السياسية للناس. أشار “انغليهرت“و “نورس” على أن هذا النمط يشهد تراجعاً من عدةعقود. فقد كتبا: ” مع العام 1980، تراجع التصويت الطبقي إلى أدنى مستوياته في بريطانيا وفرنسا والسويدوغرب ألمانيا … في الولايات المتحدة، قد وصل إلى مستويات دنية مع حلول 1990 تاركاً لا مجال لنزولأكبر.” تعد الحالة الاقتصادية للأمريكي مؤشر ضعيف عن ميوله التصويتية، فتوجهاته في القضاياالاجتماعية –على سبيل المثال الزواج من ذات الجنس– مؤشر أدق على إن كان سيدعم الجمهوريين أوالديمقراطيين. لقد حلل “انغليهرت” و “نورس” أيضاً البرامج الانتخابية للأحزاب وتوصلا إلى أنه ومنذ عام1980 أصبحت الجوانب الاقتصادية أقل أهمية، فيما ازدادت أهمية القضايا الغير اقتصادية كتلك المتعلقةبالجنس والعرق والبيئة.
ما الذي قد يفسر هذا التغيير ولماذا يحدث بشكل حصري في الدول الغربية؟ إن أمريكا الشمالية وأوروبا فيهاالكثير من الدول التي تختلف في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولكنهم جميعاً يشتركون فيتحدي واحد وهو الركود الاقتصادي. ومع اختلاف السياسات التي اتخذتها هذه الدول، تشهد جميع الدولالغربية هبوطاً في النمو منذ السبعينات. لقد كانت هنالك بعض الانتعاش إلا أن هذا التحول المدني حقيقيحتى في الولايات المتحدة. ما الذي قد يسبب مثل هذا الانحدار؟ في كتابه الجديد: ازدهار وسقوط الأمم، يقول“ريشر شارما” أن الأنماط العامة لمثل هذا الركود يفسرها سبب عام، يحدد الكاتب سبب واحد يتفوق علىكل الأسباب الأخرى: الديموغرافيا. تعاني الدول الغربية من الولايات المتحدة لبولندا، ومن السويد لليونان،تعاني من تدني معدلات الخصوبة، تختلف الحدة ولكن في كل مكان هنالك أسر أصغر، أيدي عاملة أقلومعدلات التقاعد ترتفع كل عام، إن لهذا تأثير أساسي وسلبي على النمو الاقتصادي.
إن هذا النمو البطيء مقترن أيضاً بالتحديات المرتبطة بالاقتصاد العالمي الجديد، لقد أصبحت العولمة اليومنافذة وقوية، وإن أسواق الغرب (بشكل عام) هي الأكثر انفتاحا للعالم. أصبح من السهل تصنيع السلع فيالاقتصادات ذات الدخول المتدنية وتصديرها للدول الصناعية المتقدمة. ومع أن زيادة التجارة العالمية لهادور إيجابي على الاقتصاديات ككل، إلا أنها تؤدي لبلاء بعض القطاعات ولأعداد ضخمة من البطالة أوتدني التوظيف في العمالة التي لا تملك المهارات أو تملك القليل منها.
إن النمط الآخر الموجود في العالم الغربي هو الثورة المعلوماتية، إن هذا ليس مكان للتناظر فيما أن كانتالتكنولوجيا الحديثة تزيد من الإنتاجية، يكفي القول إنها تزيد من آثار العولمة، وفي حالات عدة تتجاوز ماتفعله التجارة في إلغاء بعض المهن. خذ على سبيل المثال التكنولوجيا الجديدة والباهرة التي تصنعها شركاتكأوبر وجوجل التي تجعل من السيارات بلا سائق أمراً ممكناً، مهما كانت الآثار الإيجابية لمثل هذا الاتجاهالسائد، فليس من الممكن أن يكون إيجابيا لثلاثة ملايين سائق شاحنات أمريكي (إن المهنة الأكثر امتهانا منقبل الذكور الأمريكيين هي قيادة السيارات والحافلات والشاحنات، حسب “ديريك ثومسون” من صحيفة“الأتلانتيك“).
إن التحدي الأخير هو التحدي المالي. فجميع الدول الغربية تقريبا تواجه أعباء مالية ضخمة، إن صافي نسبةالدين للناتج الإجمالي المحلي في عام 2015 للاتحاد الأوربي 67%، أما في الولايات المتحدة فهي 81%.لا تؤدي هذه الأرقام للتعطيل لكنها تفرض محددات على قدرة الحكومات على العمل. إن الديون يجب أنتسد ولكن مع ازدياد المصاريف على كبار السن من خلال رواتب التقاعد والقطاع الصحي، تزداد أعباءالديون. وإن كان الطريق الأكثر أماناً لنمو أكبر هو الاستثمار – الإنفاق على البنية التحتية والتعليم والعلوموالتكنولوجيا– فهذا الطريق أصعب مع وجود نمو كبير في الأعباء المالية لشعوب مسنة.
هذه العقبات – الديموغرافية والعولمة والتكنولوجيا والميزانية– تعني أن هنالك خيارات محدودة لصناعالقرار. إن الحلول المعقولة لهذه لمشاكل الاقتصاديات المتقدمة تكون من خلال مجموعة متتالية من الجهودالموجهة التي ستستطيع بالنهاية تطوير تلك الاقتصاديات: استثمار أكثر، إعادة تأهيل الأيدي العاملة،وإصلاحات في النظام الصحي. لكن هذه التدرجية تصيب المصوتين بخيبة أمل حيث أنهم يحتاجون لحلولسريعة وقائد جريء يستطيع تحقيق هذه المطالب. في الولايات المتحدة وفي غيرها هنالك ازدياد في دعممثل هؤلاء القادة، الذين يستطيعون الاستغناء عن ضوابط وموازين الديموقراطية الليبرالية.
من الاقتصاد إلى الثقافة
سببت المؤثرات الموجودة على العمل في الاقتصاد العالمي جزئيا بتقارب السياسات الاقتصادية حول العالمفي العقود الأخيرة، في الستينات، كان هناك فرق شاسع ما بين اليسار واليمين، فكان اليسار يعمل لتأميم كافةالصناعات، أما اليمين فكان يسعى لإخراج الحكومة من الاقتصاد. فحينما جاء “فرانسوا ميتيران” في بداياتالثمانينات في فرنسا، وضع العديد من السياسات التي كان قابلة لأن تحدد بأنها اشتراكية، بالمقابل فقد أراد“رونالد ريغان” و “مارغريت تاتشر” أن يقللوا من الضرائب وأن يخصصوا الصناعات والخدماتالحكومية وأن يحرروا القطاع الخاص بشكل جذري.
أفقدت نهاية الحرب البارد مصداقية الاشتراكية بكافة أشكالها، مما جعل الأحزاب اليسارية تتحرك في كلمكان باتجاه الوسط، وكان الأكثر نجاحاً في ذلك “كلينتون” في الولايات المتحدة و “بلير” في المملكةالمتحدة. ومع أن سياسيي اليمين ما زالوا يسعون لتحرير الاقتصاد، إلا أنه شيء نظري بشكل كبير. فيالسلطة، خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، تكيف المحافظون مع الاقتصاد المختلط، كما فعلالليبراليون في الأسواق. لقد كانت الفروق ما بين “بلير” و “كاميرون” موجودة إلا أنه وبالنظر للتاريخ تعدهامشية. في الأثناء، تتضمن خطط “ترامب” الاقتصادية زيادة الإنفاق على البنية التحتية، زيادات جمركيةومستحقات جديدة للأمهات العاملات، لقد استخدم “ترامب” الكلام الخطابي الاعتيادي عن تخفيضالضرائب والضوابط، ولكن ما وعد به –دع عنك ما سيستطيع فعله– كان أقل اختلافا عن خطط “هيلاريكلينتون” عما قد يتوقعه الشخص. بالحقيقة فقد تباهى بأن برنامجه للبنية التحتية هو ضعف برنامج“هيلاري“.
ساهم هذا التقارب في السياسات الاقتصادية في خلق وضع يكون الاختلاف الحقيقي اليوم بين اليسار واليميناختلاف ثقافي، بالرغم مما يسمعه الشخص أحيانا، فإن معظم التحليلات للمصوتين الذين صوتوا لـ“بريكست“، “ترامب” أو المرشحين الشعبويين عبر أوروبا وجدت أن العوامل الاقتصادية (وازدياد عدمالمساواة وتأثيرات التجارة) ليست هي المحركات الأساسية لدعم مرشح ما، ولكنها القيم الثقافية. بدأ هذاالتغيير، كما لاحظ “انغليهرت” و“نورس“، في السبعينات حينما بدأ الشباب في تبني سياسات ما بعد الماديةوالتي كانت تدور حول حرية التعبير وقضايا الجندر والعرق والبيئة. لقد تحدوا السلطات واستطاعوا تأسيسمؤسسات وأعراف، لقد كانوا ناجحين في تقديم أفكار جديدة وإعادة صياغة السياسة والمجتمع، ولكنهم أيضاًخلقوا ردة فعل، فالجيل القديم، خصوصاً الرجال، قد تأثروا بما قد رأوه تعدي على مبادئ وحضارةترعرعوا وكبروا عليها. قد كان هؤلاء الناس يصوتون لأحزاب ومرشحين ظنوا أنهم يستطيعون صد قوىالتغيير الثقافي والاجتماعي.
أدى هذا في أوروبا لنشوء أحزاب جديد، فيما أدى في الولايات المتحدة لأن يصوت الجمهوريون على أساسالقضايا الثقافية لا الاقتصادية، لقد استمر الحزب الجمهوري بصعوبة كاندماج ما بين المحافظينالاقتصاديين والثقافيين والصقور في السياسة الخارجية، ولكن بعد ذلك تحرك الديموقراطيين تحت إدارةكلينتون أكثر إلى الوسط بإضافة عدد من الخبراء والطبقة العاملة إلى الحزب. بالمقابل، إن الطبقة العاملةمن البيض وجدت نفسها غريبة بين الديموقراطيين المتنوعين، وأحسوا براحة أكبر للجمهوريين الذينوعدوهم أن يعبروا عن رأيهم في مواضيع: السلاح والدين والمثلية. في الفترة الرئاسية الأولى لأوباما،ظهرت حركة يمينية جديدة تسمى “حزب الشاي” والتي يبدو بأنها ردة فعل لمحاولات الإنقاذ الحكوميةلنتائج الأزمة الاقتصادية ولكن استنتجت “ثيدا سكوكبول” و “فينسا ويليمسون” في دراسة شاملة، قابلتا فيهامئات التابعين لهذه الحركة، بأن دوافعهم لم تكن اقتصادية بل ثقافية، إن العداء لأوباما قد أظهر أن العرقأيضا لعب دوراً في ردة الفعل الثقافية تلك.
بقي تركيز المؤسسة المحافظة في واشنطن على الاقتصاد لأعوام تلت ذلك، خصوصاً أن السبب هو أن أكبرالداعمين الماليين لها يميلون لليبرالية. ولكن خلف الكواليس كان هنالك فجوة ما بينها وبين قاعدة الحزب،ونجاح “ترامب” جاء ليظهر هذه الفجوة. عبقرية “ترامب” السياسية كانت بإدراكه أن العديد من المصوتينالجمهوريين لم تحركهم خطابات الحزب الاعتيادية عن التجارة الحرة وتقليل الضرائب وتحرير الأسواق أوإصلاح الرواتب، بل سيستجيبون بشكل جيد لخطاب مختلف قائم على مخاوفهم الثقافية والعاطفة الوطنية.
الأمة في مقابل الهجرة
لعله ومن غير المفاجىء أن أول المواضيع التي استغلها “ترامب” وأهمها كان موضوع الهجرة، إن شعوبيياليمين منقسمين على عدة مواضيع اجتماعية كحقوق المثليين، ويعلمون أن التيار ضدهم، قليل منالمحافظين يدعون لإعادة تجريم المثلية ولكن فيما يتعلق بموضوع الهجرة فالشعبويين متحدين فيما بينهمضد معارضيهم النخبويين.
هنالك حقيقة خلف ذلك الخطاب وهي أننا نعيش فعلاً في زمن الهجرة الجماعية. لقد تغير العالم على إثرعولمة البضائع والخدمات والمعلومات وكل ذلك قد كان له حصته من الألم والمعارضة، إلا أننا نشهد اليومعولمة للبشر وردة الفعل العامة على هذا أقوى وأعمق وأكثر عاطفية. لقد تفهمت الشعوب الغربية تدفق البضائع والأفكار والفنون والأطعمة الأجنبية، ولكن رغبتهم في قبول وتفهم تدفق الأجانب أقل بكثير ويُلاحظ اليوم العديد من هؤلاء.
في معظم التاريخ البشري، عاشت وعملت وتنقلت الناس في مسافة لا تتجاوز عدة أميال عن مكان ولادتهم،بينما في العقود الأخيرة، عاشت المجتمعات الغربية حالة من التدفق الكبير لأناس من أماكن مختلفة وثقافات غريبة. في عام 2015، كان هنالك حوالي 250 مليون مهاجر عالمي و65 مليون نازحين قصراً في العالم،كان لأوروبا الحصة الأكبر في ذلك بـ 76 مليون مهاجر علما بأنها القارة الأكثر تخوفاً من ذلك أيضا. هذا التخوف هو مؤشر أفضل على اتجاه المصوتين قضايا مثل عدم المساواة والنمو البطيء. وكمثال مضادهنالك اليابان وهي دولة تعاني منذ 25 عام من النمو البطيء وتشيخ حتى أسرع من غيرها، لكنها لا تملك الكثير من المهاجرين وكنتيجة جزئي جعلتها لا تصاب بحمى الشعبوية.
إن مستويات التخوف المجتمعي ليست مربوطة ربطاً مباشر بأعداد المهاجرين في بل أو حتى كثافةالمهاجرين في مناطق معينة، حيث أن استطلاعات الرأي تظهر نتائج مفاجئة. ففي فرنسا نسبيا هناك اهتمامأقل بالرابط ما بين الإرهاب والمهاجرين مقارنةً مع الأوربيين الآخرين، وفي ألمانيا تراجعت نسب وجهةالنظر السلبية عن المسلمين خلال العقد الماضي. لكن يبدو بالفعل أن هناك علاقة ما بين التخوف الشعبي ومستوى الهجرة، الأمر الذي يُظهر أن العامل الرئيسي في هذا الخليط هو السياسة: حيث شهدت الدول التيفشلت فيها السياسة السائدة في أن تهتم وتكترث لطلبات المواطنين صعودا للشعبوية بحافز من السياسيين الذين ينشرون الخوف ويبطنون التحام. بينما الدول التي أدارت الهجرة وعملية الدمج بشكل جيد مع وجودقيادة متفاعلة، واثقة وعملية لم تشهد صعودا في التعصب الشعبوي. كندا شكلت قدوة في هذا المجال، مع عدد كبير من المهاجرين وعدد جيد من اللاجئين مع ذلك قليل من الاعتراض.
في الكثير من الأحيان، شوه الشعبويون أو حتى ابتدعوا ابتداع الحقائق من أجل تأكيد قضيتهم. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، صافي الهجرة من المكسيك في صفرا منذ عدة سنوات، وبذلك فإن مشكلة الهجرةالغير شرعية في تناقص لا تزايد. وبالمثل، استخدم دعاة “بريكست” الكثير من الإحصائيات الغير صحيحة والتضليلية حتى يخيفوا العامة. ولكن من الخطأ أيضا إنكار على أنها ببساطة كذبة الدهمائيون (مقابل أنهامجرد استغلت من قبلهم). فأعداد المهاجرين الذين يدخلون أوروبا مرتفعة تاريخيا، وفي الولايات المتحدة،ارتفع عدد الأمريكيين الذين ولدوا في الخارج من أقل من 5% في عام 1970 إلى 14% الآن، وما زالت مشكلة الهجرة الغير شرعية في الولايات المتحدة حقيقية مع أنها أخذت تتقلص في الفترة الأخيرة. تعطلت في عدة الدول الأنظمة الموضوعة لإدارة الهجرة وإدماجهم، ومع ذلك رفضت الحكومات إصلاحها بالغالب أما بسبب المصالح الاقتصادية التي ستستفيد من وجود عمالة رخيصة أو لخوف المسؤولين من أن يظهروا غير مهتمين أو كارهين للأجانب.
الهجرة هي الجبهة الأخيرة للعولمة، وهي الأكثر تدخلاً وإزعاجاً، لأنه وبسببها لا يتعامل الناس فقط مع أشياء وأمور تجريدية بل يأتون وجها لوجه مع بشر آخرين يبدون ويُسمعون ويحس بأنهم مختلفين، ويولد هذا الأمر الخوف والعنصرية والكره للأجانب، ولكن ليست جميع ردود الفعل ضارة. يجب معرفة أن وتيرةالتغيير قد تمشي بسرعة أكبر من أن يستطيع المجتمع هضمها. إن الأفكار التمزيقية والتدمير الخلاق يحتفى بهما بشكل كبير حتى أصبح من السهل نسيان أنهما يبدوان بشكل مختلف للناس التي جري تمزيق مجتمعاتها.
على الشعوب الغربية أن تركز بشكل مباشر على مخاطر التغيير الثقافي السريع، الأمر الذي قد يحتاج وضع حدود لمعدلات الهجرة وتحديد للناس الذين سيسمح لهم بالدخول. ويجب أن تشمل جهودا وموارد أكبرمسخرة لدمجهم واستيعابهم، بالإضافة لشبكات حماية أفضل. معظم الدول الغربية بحاجة لبرامج إعادة تأهيلأقوى للعمال النازحين بحجم قانون الشأن الحكومي “GI bill”: متاح بسهولة للكل وتشارك فيه الحكومةوالقطاع الخاص والمؤسسات التعليمية. ويجب أن تسخر أيضا جهود أكبر لإجلاء حقائق الهجرة حتىيتعامل العامة مع حقائق لا مخاوف. ولكن بالنهاية لا غنى عن القيادة مستنيرة، التي بدل من أن تنقاد خلفغرائز الناس السيئة، تجذب أفضل ما فيهم.
بالنهاية سنتعدى هذه الجبهة كذلك، إن أكثر الانقسامات أهمية في موضوع اللاجئين هي جيلية، فالشباب همالأقل تخوفاً من الأجانب في أي مجموعة من المجتمع، فهم يفهمون أن عبر العيش في بلد متنوع وديناميكيإثراء لهم اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. حيث يجب العيش في عالم منفتح ومترابط أمر مفروغ منه بالنسبةلهم، فهو المستقبل الذي يسعون له. إن التحدي الذي يواجه الغرب هو أن يتأكدوا بأن الطريق لهذا المستقبللا تملؤه العقبات التي قد تؤدي إلى كوارث.
المصدر
هوامش المترجم:
1 – فاز اليمني نوربرت هوفر بالجولة الأولى في الإنتخابات السويسرية على منافسه مرشح الخضر اليكسندر بيلن ، وفي جولة كان الفارق ضيقا مما حتم تدخل المحكمة الدستورية النمساوية التى قررت إعادة الإنتخابات في 4 ديسمبر 2014 والتي أنتهت بفوز بيلين مرشح الخضر.
2- شخصية خيالية ثم سينمائية كتبها المؤلف البريطاني ارثر كونان.