"سورية المجوّفة" لعيسى اسكندر المعلوف: كم تغيرت الجغرافيا!
2018-12-01
حتى أواخر أربعينيات القرن المنصرم، ظل معظم سكان المناطق التي ضمها الجنرال الفرنسي غورو في سنة 1920 إلى بعضها، وشكل منها "دولة لبنان الكبير"، يعتبرون أنفسهم سوريين. وبقيت الحال على ذلك المنوال حتى بعد اكتساب هؤلاء الجنسية اللبنانية. فالشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان ظل حتى سنة 1939 يكتب عنوانه على رسائله إلى أخته فدوى هكذا: "الجامعة الأميركية- بيروت – سورية". وإلى أمد قريب كانت جميع الكتابات التاريخية تذكر بيروت وطرابلس وصور وصيدا كمدن ساحلية سورية. وحتى متصرفية جبل لبنان كانت، منذ إنشائها في سنة 1861، تابعة لولاية دمشق، لكنها، بسبب الصراعات الأهلية اللبنانية، ارتبطت مباشرة بالباب العالي في إسطنبول خصوصاً بعد بروتوكول 1864 الذي توصلت إليه الدول الست الكبرى آنذاك كطريقة لمعالجة الحروب اللبنانية المتمادية. ولعل مخطوطة "تاريخ سورية المجوّفة" للمؤرخ عيسى اسكندر المعلوف تنير بعض جوانب تلك الحقبة من تاريخ بلاد الشام. وهذه المخطوطة تحولت كتاباً وافياً بجزأين (1045 صفحة) عنوانه "تاريخ البقاع وسورية المجوّفة" (حققه وضبط فهارسه زهير هواري وابراهيم مهدي، وقدم له فواز طرابلسي، وصدر في بيروت عن دار الفارابي في عام 2018). وعيسى اسكندر المعلوف من المؤرخين الذين نشأوا وكتبوا قبل تقسيم سورية، وكان يعتبر نفسه سورياً، وهو، إلى ذلك، سوري الأصل؛ فعائلة المعلوف المسيحية تعود في جذورها القريبة إلى قرية داما في جبل الدروز. وقد انتشرت في غير بلدة لبنانية بعد نزوحها من السويداء (انظر كتابه: "دواني القطوف في تاريخ بني معلوف، بيروت: 1907)، واشتهر من أَعلام العائلة المعلوفية الشعراء فوزي وشفيق ورياض المعلوف، والكاتب جميل المعلوف والصحافي رشدي المعلوف والد الروائي أمين المعلوف، والمحامي نصري المعلوف والأب لويس المعلوف صاحب "المنجد في اللغة". وللمؤرخ عيسى اسكندر المعلوف، وهو جد فواز طرابلسي لأمه، كتاب عنوانه "تاريخ الأسر الشرقية" صدر منه سبعة أجزاء مخصصة للأسر اللبنانية، وقد عُني بتحقيقه فواز طرابلسي (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2007). وله أيضاً "تاريخ فخر الدين المعني الثاني" (بيروت: دار الحمراء، 1997- وكانت الطبعة الأولى ظهرت في سنة 1934).
تواريخ لبنان
المعلوف مؤرخ إخباري يستخدم التقاليد القديمة في تقسيم الأجناس البشرية إلى ثلاث سلالات هي ذرية سام (الساميون) وذرية حام (الحاميون) وذرية يافث. والآراميون لديه ينتسبون إلى أرام بن سام بن نوح (ص 233). والحثيون هم سلالة حث بن كنعان بن حام بن نوح (ص 236)، والأيطوريون هم سلالة أيطور بن اسماعيل بن ابراهيم (ص 240)... وهكذا. وهذا التقسيم اندثر علمياً منذ زمن طويل، وما عاد أحد يأخذ بنظرية الأجناس الثلاثة. وفي كتابه "تاريخ فخر الدين المعني الثاني" أفاض المعلوف في استخدام عبارة "لبنان" وكذلك "اللبنانيون" حين لم يكن لبنان موجوداً، وحين كان فخر الدين نفسه يدعى أمير الشوف أو أمير الدروز وليس أمير لبنان، ولم يرد في المصادر المحترمة، ولا حتى مرة واحدة، كلمة لبنان في سياق الكلام عن فخر الدين. فلبنان دولة حديثة ظهرت في 31/8/1920، وقبل ذلك لم يكن هناك لبنان كنطاق جغرافي أو كيان سياسي. أما لبنان المذكور في المصادر الجغرافية والتاريخية فهو مجرد جبل بين طرابلس وبعلبك في ولاية سورية الثانية بحسب طنوس الشدياق في كتابه "أخبار الأعيان في جبل لبنان" (تحقيق أسد رستم وفؤاد أفرام البستاني، منشورات الجامعة اللبنانية، 1970). ولبنان، بحسب كمال الصليبي، جبل في الشام من جند حمص، وهو مقصور على جبة بشري وبلاد البترون وبلاد جبيل، وكان تابعاً لباشوية طرابلس التابعة بدورها لجند حمص، بينما جبل كسروان وجبل الشوف ووادي البقاع فكانوا تابعين دائماً لجند دمشق (انظر: كمال الصليبي، بيت بمنازل كثيرة، بيروت: مؤسسة نوفل، ص 92).
لم يُستعمل مصطلح "لبنان" للدلالة على كيان جغرافي – سياسي إلا في سنة 1861 مع إنشاء متصرفية (سنجق) جبل لبنان. وظلت طرابلس وبيروت وصيدا وسهل البقاع وجبل عامل حتى سنة 1920 إما تابعة لولاية دمشق، أو صارت ولاية (إيالة) من ولايات سورية كطرابلس وصيدا. وكثيرون يعرفون أن جسر المعاملتين في جونية، على سبيل المثال، هو الجسر الذي كانت تجري في أوله معاملة الخروج من ولاية صيدا (حين لم تكن بيروت ولاية)، ثم، في نهايته، معاملة الدخول إلى طرابلس، والمسافة بين المعاملتين هي طول الجسر، أي أقل من ثمانية أمتار. وكثير من السائقين في بيروت يتذكرون محلة صغيرة في فرن الشباك تدعى "الدخولية"، وهي نقطة لجباية الرسوم من الداخلين إلى جبل لبنان من بيروت. وفي هذا الميدان، من غير الجائز في الكتابة التاريخية العلمية إسقاط زمن من على زمن؛ فلا يحق استعمال مفاهيم الحاضر حين يكون الماضي موضوع البحث، وإلا يصح القول اليوم إن النبي محمداً سعودي الجنسية، وامرأ القيس. وعلى الرغم من ذلك فإن عيسى اسكندر المعلوف مؤرخ مجتهد، وهو في بحوثه التاريخية يتحرى المعلومات من مصادر متعددة تشمل الجغرافيا والثقافة والمجتمع والعقائد والخرافات والأساطير واللغة، الأمر الذي يضعه في مصاف المؤرخين المحدثين الذين نهجوا نهجاً موازياً، أو كاد يقترب من نهج مارك بلوخ الذي أسس في سنة 1929 مجلة "الحوليات"، مع أن من المشكوك فيه أن يكون المعلوف قد اطلع على أعمال مارك بلوخ وتابعيه أمثال لوسيان فيفر وفرناند بروديل، أو على مجلة "الحوليات".
بين يدي الكتاب
يعرض المعلوف تاريخ سورية في الحقبة العثمانية، فيذكر أنها كانت مقسّمة إدارياً إلى ثلاثة أقسام هي: سورية الشمالية التي تمتد من جبال طوروس إلى حماة، ومن مدنها أنطاكيا وحلب وحماة؛ وسورية الوسطى التي تمتد من حماة حتى صور، ومن مدنها تدمر وبعلبك وحمص وطرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وصور؛ وسورية الجنوبية التي تمتد من الحولة حتى العريش، ومن مدنها الناصرة وطبرية ونابلس والقدس والخليل وعكا وحيفا ويافا وغزة والعريش، وكانت العاصمة دائماً هي دمشق. واللافت أن عيسى اسكندر المعلوف يجعل العريش مدينة سورية لا مصرية، تماماً مثل كثير من الجغرافيين والرحالة الذين كانوا يعتبرون العريش أول الشام. وهذا العرض يكاد يطابق وصف سورية في عهد الرومان: سورية الأولى عاصمتها أنطاكيا؛ وسورية الثانية عاصمتها أفاميا (غرب حماة)؛ وسورية الثالثة عاصمتها هيرابوليس (منبج)؛ وفينيقيا الداخلية عاصمتها دمشق؛ وفينيقيا الساحلية عاصمتها صور. وهذه البلاد لدى المعلوف تتطابق مع جغرافية بلاد الشام بحسب المؤرخ كمال الصليبي في كتابه "بلاد الشام في العصور الإسلامية الأولى" (بيروت: مؤسسة نوفل، 2011، ص 13-19). أما مصطلح سورية المجوّفة فكان يطلق على وادي العاصي ووادي بردى ثم وادي الليطاني، ومن مدن سورية المجوّفة دمشق والزبداني وبعلبك وعنجر والكرك، أي كرك نوح (ص 35)، وليس كرك الأردن. وهذا الكتاب هو جولة في بلدانيات سورية المجوّفة وأَعلامها والعبادات القديمة فيها وأصول أسماء أماكنها. وهو كتاب في التاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا والميثولوجيا والأنساب. ثم إنه، فضلاً عن ذلك كله، بحوث في تاريخ سورية الوسطى وعمرانها وحضارتها وسكانها وحكامها القدامى، وآدابها وعلمائها وآثارها وقلاعها وحصونها ومغاورها وأساطيرها، وفيه وصف للزبداني وعين حليا وبعلبك وجبل الشيخ وسهل البقاع الذي صار ضمن دولة لبنان في سنة 1920. ويعدد الكتاب قرى سورية المجوفة التي أُلحقت بلبنان وهي الهرمل وشمسطار ووادي العرايش وقاع الريم وحزرتا والتويتة وقمّل من أنفال زحلة (ص 644).
لا يترك عيس اسكندر المعلوف في هذا الكتاب أي أمر من دون التصدي له، فيتناول تاريخ الحرافشة (أمراء آل حرفوش) وأعيانهم، والتركمان والأرمن، وقوانين الأرض، ثم يبحث في تاريخ النصرانية في بلاد بعلبك، ويركز على الأديار والكنائس والمزارات والأساقفة، ولا يستثني "المتاولة" (أي الشيعة) ورؤوسهم وعائلاتهم. ثم ينثني إلى علماء سورية المجوّفة أمثال عدي بن مسافر. غير أن المعلوف والمحققَين بعده لم يذكروا أن الفرقة الإيزيدية في العراق تنتسب إليه، ومرقده قائم حتى اليوم في بلدة لالش، ويسمونه شيخ عادي، ويُنسب اليه "مصحف رش" (المصحف الأسود)، وهو الكتاب المقدس لدى الإيزيدية.
الحيرة العلمية
يستعمل المعلوف عبارة "قلعة بعلبك" نقلاً عن "التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية" لفقيه الشام عبد الغني النابلسي، ويكرر تلك العبارة في صفحات كثيرة من كتابه (14 و75 و276 و337). والصحيح أن لا قلعة في بعلبك بل معبدين: معبد باخوس ومعبد جوبيتر. لكنه في الصفحة 351 يوضح ذلك الالتباس فيقول إن من آثار بعلبك "هياكل شادها الأقدمون في عهد الرومان لعبادة البعل أو جوبيتير (...). وقد حوّل العرب الهياكل الرومانية إلى قلعة منيعة بنوها بحجارة الهياكل، فطوقوها بالأبراج والمرامي والسراديب والخنادق (...). وهكذا أضحت الآثار الرومانية والعربية كتلة واحد، فأُطلق عليها اسم القلعة من باب تسمية الكل باسم البعض. وقد يوجد من هذه الأبنية العربية ما ليس ذا قيمة تاريخية ويشوه بوجوده الآثار الرومانية فيجب إزالته".
يسترسل المعلوف في دراسة أسماء البلدات والقرى، لكنه لا يحسم، علمياً، أصول معظم أسماء المواقع في سورية المجوّفة، وقلما يرجّح ما هو الأصح أو الأقوى، بل يقول: هذا الاسم ربما عبراني، وربما سرياني، وربما يوناني، وربما عربي على طريقة إما وإما. وعلى سبيل المثال بلدة عنجر التي تعني أنجرا (أي المرساة) أو عين الجرة أو عين الغريب بالعبرانية، أو الينبوع المجرور بالعربية، وربما كان أصلها فارسيا من غَرَا أي الأبيض. وفي هذا الميدان ثمة تطابق أحياناً في معاني أسماء القرى والمدن والمواقع بين عيسى اسكندر المعلوف وأنيس فريحة في كتابه المرجعي "معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية" (بيروت: مكتبة لبنان، 1972). لكن، في أحيان أخرى، ثمة تنافر بل تناقض بين الكتابين؛ فخربة قنافار مثلاً لدى المعلوف إما سريانية من كلمتي "قنا" أي القناة، ونيرو أي النمرة (قناة النمرة)، أو يونانية (أنوفاروس) وتعني المنارة العالية (ص 88)، بينما لدى أنيس فريحة تعني صاحب الثمر أو بائع الثمر أو صاحب النخالة أو صانع الحبال، وشتان ما بينهما في المعنى. وبلدة حِزّرتا لدى المعلوف سريانية بمعنى التل أو الرمل أو الوجه (ص 79)، أما عند فريحة فهي تفاحة أو رمانة أو مشتقة من الخنزيرة، أو تعني معصرة العنب أو الزيت. وبلدة سرعين عند المعلوف مشتقة من كلمة شير الفارسية، أي الأسد، ومعناها عين الأسد، أو من صير العبرانية وتعني الصوان، فيكون معناها عين الصوان (ص 97). لكن سرعين عند فريحة تعني مزارعين وفلاحين أو أرض مشققة. ولا يستبعد فريحة أن يكون اسم سرعين مركباً من سر (أي الأمير) وعين، فيكون معناه النبع الأول أو أمير الينابيع. وبلدة عرسال عند المعلوف اسمها عربي بمعنى عرّيسة الأسد (ص 109). لكن، عند فريحة، فإن الاسم آرامي قح، بمعنى العرزال أي خيمة مبنية من الأخشاب بين أغصان الشجرة، يستخدمها نواطير الأحراج، وربما تعني عرش الله. وتربل عند المعلوف تعني المدن الثلاث، أي تريبوليس (طرابلس) (ص 100). أما عند فريحة فتعني جبل الإله بل. ومدوخا في كتاب "سورية المجوّفة" هي مايا دوخا السريانية، وتعني محل الماء (ص 71). ولدى فريحة تعني متبلا بالبهارات أو مملحا. وبين عيسى اسكندر المعلوف وأنيس فريحة الأحدث عهداً والمتخصص باللغات القديمة، حار الدليل العلمي و"احتار دليلي" أنا أيضاً.
***
كتب زهير هوّاري مقدمة وافية عن عيسى اسكندر المعلوف ومنهجه ومؤلفاته، وتوسّع في الكلام على المخطوطة والطرائق التي اتبعها مع زميله ابراهيم مهدي في تحقيقها. والواضح أنه بذل جهداً مشهوداً في ضبط هوامش المخطوطة وفي تحقيق الأعَلام والأماكن، ثم فهرسة الكتاب، حتى جاء على ما هو عليه من إتقان ودقة وإحكام. ومع ذلك، بقيت في نفسي حسرة لأنني لم أعثر على تعريف للقعرونيين (ص 42) و للعياقيين (ص 236).