تنحَّ أيها الشاعرُ كي نَمُرَّ
2006-12-19
خاص ألف
يوميات حول الشعر
سرقة عصرية
ثمة أمداء واسعة، كيما يتمرغل الشعراء فوق عشبها السرمدي، ثمة فضاءات بلا حدود ليهتف الجميع الهتاف العظيم لنيرودا:
تنحَّ أيها الشاعر كي نمر
وثمة الكثير ..الكثير كي نستعيد ذلك الهتاف، لأننا، وفي مرات كثيرة،لم نفهم بعد الدرس جيداً، وإن كنا، وفي مرات كثيرة أيضاً، ما نزال ندعي بأننا ( بقل في أصول نخل طوال) على حد تعبير تيار نقدي قديم. هكذا كنت أقرأ، و حسبما أتاحت لي أدواتي، المعرفية والجمالية، المواقف الخمسة القادمة، بل اللحظات الحية في النفوس الكبيرة..واللحظات الميتة أيضاً.
سطو معلن:
تقول الحكاية: إن الفرزدق استنشد الشمردل، فأنشده، فلما وصل إلى :
وما بين من لم يُعطِ سمعاً وطاعة وبين تميمٍ غيرُ حزِّ الغلاصم
صاح به الفرزدق: والله لتتركن لي هذا البيت، أو لتتركن عرضك..!!فخشي الشمردل سلاطة الفرزدق،وخاف هجاءه، فترك، صاغراً، لخصمه ما أراد.
وأنا إذ أقرأ اليوم هذه الحادثة، أتأملها قليلاً، أقلبها، فأخلص منها إلى شيئين:
الأول: إن الفرزدق حتى في محاولته المعلنة للسطو على الآخر، كان يفصح عن اعتراف جلي بشعر هذا الآخر،الأقل شهرة وشاعرية.
الثاني: إن الشمردل وإن أجاد في هذه القصيدة، كان مدفوعاً وهو يتخلى عن شعره للآخر، باعتراف جلي بقدرات خصمه الشعرية، وربما بتفوقه أيضاً.
اليوم وبعد مئات السنين، أنصف التاريخ الشاعرين وفرد أمامنا الحادثة كدرس غير أكاديمي، للاعتراف بالآخر حتى وإن كان مكتوباً بحبر السطو.
ذكرني بهذه القصة سطو عصري، بطله عضو سابق في المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب،عندما أرسل إلى إحدى المسابقات مخطوطة شعرية (أدب أطفال) تعود إلى شاعر آخر، كان قد تقدم بها طالباً طباعتها على نفقة الاتحاد، المخطوطة فازت بجائزة قيمة استلمها الساطي، مع الكثير من الحفاوة والتبجيل، إلا أن الأمر افتضح فطالب صاحبها بحقوقه، ومع تدخل العقلاء والوسطاء انتهى الأمر إلى تقاسم الجائزة،وأنا إذ أقرأ هذه الحادثة، أتأملها، فأخلص إلى شيئين:
الأول: أن الساطي، في محاولته السرية للسطو على مخطوطة غيره، مدفوع باعتراف جلي بقيمة هذه المخطوطة، وبقدرة صاحبها الشعرية.
الثاني: أن صاحب المخطوطة، وهو يقبل باقتسام الجائزة, مع الساطي مدفوع باعتراف جلي بأفضال سارقه وبدربته وحسن اقتناصه .
بعد مئات السنين, ترى ماذا سيقول التاريخ ؟
قصيدة النثر...يالكِ:
رغم أن البحث عن أشكال جديدة للقصيدة العربية، كان من هموم مجلة شعر وهموم شعرائها،ورغم أن عادات الإبداع التي ترسخت عندهم وفي تجاربهم الشعرية بقيت موصولة بالعروض وموسيقى الشعر ،رغم هذا , فقد خلخلت تجربة الماغوط قوانين هذه المجلة, ودفعتها للانعطاف نحو أشكال جديدة, وفي هذا يكتب نذير العظمة في كتابه( قضايا وإشكاليات في الشعر العربي الحديث ) : إن الرواج الذي لاقته قصائد الماغوط, عطفت كلاً من يوسف الخال وأدونيس على قصيدة النثر, ونجاح هذه النماذج, دفع أدونيس للبحث عن مصطلح مناسب لتسمية هذه القصيدة.
الجميل في هذه الشهادة أن نذير العظمة ( أحد مؤسسي مجلة شعر ) كان يكتب بأمانة عن الماغوط, رغم اعتراضه وعدم موافقته على تبني المجلة لقصيدة النثر, وهو لا ينكر هذا في كتابه, بل يورده حرفياً : ( في عام 1959 كنت مستاء من سياسة تحرير المجلة, في إعطاء حجم أكبر ومساحة أوسع مما ينبغي لقصيدة النثر, كما كنت مستاء من طريقة التنظير لهذا الشكل, وأبديت ذلك في رسالة مكتوبة إلى يوسف الخال ليثيرها في اجتماع الخميس..) .
بكلام آخر, كان د. نذير العظمة شاهداً أميناً على نجاح قصيدة النثر, رغم اعتراضه عليها، فيما لا يزال الكثير، وخصوصاً في أروقة وقاعات اتحاد الكتاب العرب, مصراً على إخراج هذه القصيدة من عائلة الشعر العربي، فيما يذهب آخرون في المكان نفسه، إلى وضع شروط عبقرية على شعراء النثر وقصائدهم, كالذي فعله محمد رجب ( مقرر جمعية الشعر في اتحاد الكتاب العرب ) عندما اقترح عدم قبول انضمام أي شاعر نثري لاتحاد الكتاب العرب،ما لم يرفق أعماله النثرية بديوان موزون ومقفى...
وللأمانة فقد ثارت ثائرة العديد من الشعراء الحداثيين, وهددوا بمغادرة القاعة, وربما الاتحاد, إن لم يسحب مثل هذا الاقتراح.
ذلك الشعر العظيم:
في القرن الثاني للهجرة ( تأصل ) الشعراء المتحدرون من أرومات غير عربية, في تجربة الإبداع الشعري العربي, بل وتفوق بعضهم على الشعراء الأقحاح, كما هو الحال عليه في ظواهر شعرية كمسلم بن الوليد وبشار بن برد وأبي نواس وغيرهم .
ورغم أصولهم غير العربية, كان صدر النقد العربي القديم تجاههم أكثر رحابة من صدور كثيرين من نقاد هذه الأيام, بل ذهب بعضهم إلى اعتبار أبي نواس وبشار، رغم تبذّلهما الفكري والأخلاقي, أكثر إخلاصاً للشعر من الذين عبأوا قصائدهم بالمواعظ والقيم الشريفة, فالأصمعي مثلاً، رأى حسان بن ثابت شاعراً فحلاً في الجاهلية، ضعف شعره في الإسلام، وكذلك هو الحال بالنسبة لكعب بن زهير ولبيد بن ربيعة، بمعنى آخر لم تشفع الأخلاق العظيمة لل( أيديولوجيا) التي امتلأت بها نفوس وقصائد هؤلاء الشعراء، لم تشفع لهم لدى النقد الأدبي, الذي وعلى العكس, رأى في هذه الأيديولوجيا سبباً في انحسار المخيال الفني لديهم, ف( أعذب الشعر أكذبه) على حد تعبير الأصمعي .
وعليه فإن النقد القديم, لم يربط بين تبذل الموقف الفكري أو الأخلاقي للشاعر, أو مخالفته للسائد ( الأخلاقي أو الاجتماعي أو السياسي ) وبين القيمة الفنية لإبداعه. وبهذا كان الأصمعي, وهو يعطي رأياً بلا حماس, للشعراء الذين أدلجهم الإسلام, لا يعلن عن موقف معاد للإسلام وقيمه, بل عن أمانة نقدية مُطَالَبَةً برأي قيمة للشعرالذي بين يديه, فنياً وجمالياً, غير آبهة بالمعاني الرفيعة والقيم والأفكار الشريفة, التي استعارها هذا الشعر من الإسلام.
بهذه الذهنية الجريئة التي قرأ بها الأصمعي شعراء الإسلام, كان علينا أن نقرأ الشعر وأنفسنا معاً.. وكان علينا أن نقرأ اليوم كيف اعتلت الأيديولوجيات ظهورنا لتقودنا إلى المراعي اليابسة للشعر (الإيديولوجي) لنستيقظ, ذات لحظة عارية,على خوائنا الطويل .
كان علينا أن نتفحص ذواتنا لنفهم, لماذا طلبوا منا أن نكره نزار قباني وقصائده التي أثبتت الأيام أنها كانت أكثر ثورية من ( ثورجيينا ) وأن ( نحب ) سليمان العيسى وأيمن أبو شعر وغيرهم من شعراء الدكاكين والأيديولوجيات .
اليوم , وبعد أن تَكَشَّفَتْ الأحساب والأنساب, نتمرغل, نحن جحافل الأممية المهزومة, فوق ذلك العشب, عشب الشعر السرمدي، لنقرأ بأرواح جديدة ذلك المطر الذي زخه مرة فوق مراعي الحياة, ذلك الشعر العظيم.
أجل, نزار قباني , كنت محقاً.
هي ذي التي خربت الشعر..
هي ذي الأيديولوجيا .
هكذا تكلم البياتي:
منذ سنوات نُشر حوار لافت في مجلة العربي الكويتية مع الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي, وفيه تطرق البياتي إلى قضايا هامة, وحساسة كالشعر والتصوف والايدولوجيا والمنفى, كما توقف عند بعض التجارب الشعرية العربية، فأثنى على بعضها وقَبَّح بعضها الآخر, وفي هذا الحوار كان رأيه بأدونيس مفاجئاً بل الأكثر استيقافاً, إذ لم ير فيه سوى شاعر من الدرجة الثالثة..؟
وإذ أقول ( مفاجئاً ) فإنني أتقصد قطع الطريق على الذين يتكئون على العبارات المراوغة, التي تحيل الأمور دائماً إلى مثل( هذا هو رأيه الشخصي ) لأن هذه العبارة تكون ِأحياناً مقرونة باللامنطق أو الإلغائية غير عابئة بالمنجز الثقافي, وللحقيقة أقول: إن رأي البياتي بأدونيس جعلني أتساءل:
إذا كان مغفوراً للسياسيين قراءاتهم الخاطئة, للظواهر الثقافية, أحياناً وكما فعلت الستالينية مع شاعر كبير ك ( مايكوفسكي ) فهل تُغفر مثل هذه الأخطاء لغير السياسيين, من المثقفين والأدباء الكبار؟
بمعنى آخر أنه ورغم خطورة القرار السياسي على الثقافة عموماً, إلا أن الستالينية بوجهها السياسي لم تتهم بتعتيمها على ظاهرة شعرية فذة, كمايكوفسكي, مثل اتهمت الستالينية بوجهها الثقافي والتي ساهمت بإلقاء مجمل الثقافة السوفيتية في شرنقة أيديولوجية سميت بالجدانوفية,والجدانوفية( نسبة إلى جدانوف وزير الثقافة السوفيتي آنذاك) لم تر ، بسبب إشكاليات معرفية، أنه ورغم التعتيم الذي مارسته على الشعر المستقبلي, فقد ظل مايكوفسكي هو الشاعر الأكثر طلباً من قبل قراء الشعر.
ما من قارئ للشعر إلا ويقرأ مايكوفسكي، هذا المستقبلي، أولاً وكثيراً.
وأنا لا أظن بان شاعراً كبيراً كالبياتي قد فاته ( حتى لو كان غير مقتنع بشاعرية أدونيس ) أن أدونيس هو الآخر الأكثر طلباً وقراءة من قبل قراء الشعر العربي .
ما من قارئ جاد للشعر العربي الحديث إلا ويقرأ أدونيس أولاً وكثيراً .
كما لا أظن بأن البياتي وبثقافته العالية وتجربته الواسعة, قد غاب عنه ( حتى لو كان غير متفق تماماً مع مواقف أدونيس وأفكاره ) بأنه ما من شاعر أثر في الشعرية العربية، منذ جبران, كما أثر أدونيس فيها على مستويي الكتابة و التنظير الشعري.
ورغم أننا في هذا المكان لم نتقصد إنشاء دفاع عن أدونيس, وإن بدا كذلك, إلا أن ثمة حقيقة لا يمكن تغييبها أو تجاهلها, وهي أن أدونيس ومنذ عقود, هو الشاعر الأكثر إشكالية بين الشعراء العرب بل الأكثر حفراً في الذائقة الشعرية.....
إذا كان ما يقوله أبو تمام شعراً فكلام العرب باطل..
هكذا استقبلت الذائقة النقدية والشعبية قصائد أبي تمام أول الأمر, لكن بعد هذا سيقطع أبو تمام أرزاق الشعراء.
بلى.. أدونيس هو الشاعر الأكثر إشكالية..
وهل كان الرواد إلا هكذا..؟
تنحَّ أيها الشاعر كي نمر:
كنت في الثانوية عندما قرأت ديوان ( إيماءات ) للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس, بترجمة سعدي يوسف الجميلة والمتقنة.
وأنا هنا لا أنوي إعطاء رأي قيمة بالديوان, لأن هذا الرأي سيأتي من شاعر كبير وبطريقة مختلفة.
في مقدمة الديوان ثمة عبارة بهية المعنى والمبنى, اعتنى بها سعدي يوسف وعمل على ترحيلها إلى ظهرية الغلاف.
لم تكن العبارة سوى رسالة تهنئة وإعجاب موجهة إلى ريتسوس, احتوت, رغم كلماتها القليلة, على كل شئ:
تَنَحَّ أيها الشاعرُ كي نَمُرَّ
أما صاحبها فكان بابلو نيرودا.
هذه العبارة علقت في بالي منذ اليفعان، لجاذبيتها وخلابتها, وهي فيما بعد ستكبر في داخلي ..ستتمدد, وتتكاثر مساهمة في تشكيل قابليتي وذائقتي القادمة, لأسباب أهمها:
إنه ومع تنامي حصيلتي المعرفية, بدأت تتضح لي الأهمية الكبيرة لشاعر مثل نيرودا, فاجأني هذا التواضع الذي يملأ روحه, وهو الأبرز ليس في تشيلي وحدها ( التي حمله شعبها إلى سدة الحكم, فتركه طائعاً لرفيقه سلفادور اللندي كيما يظل قريباً من الشعر ) بل في كل البلاد الناطقة بالإسبانية, إنه باختصار واحد من أهم شعراء العالم.
فاجأني هذا التواضع من شاعر بهذه الأهمية, أمام شاعر أقل شهرة وشاعرية.
في العبارة أيضاً مسيحية عميقة الأغوار، تؤسس ليس بالسطو, لاعتراف بالآخر, ولإيمان واع بمشروعية المزاحمة.
لا نجمة في سماء الشعر تسطو على ضياء نجمة أخرى
هكذا سيقول التاريخ دائما..ً
هوذا درس نيرودا..
هوذا درس الشاعر العظيم.