أما آن لهذه الكارثة السورية أن تنتهي؟
فايز سارة
2018-12-08
احتفل العالم بالذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى، وكانت المناسبة فرصة لقاء كثير من قادة وزعماء العالم في باريس، وتم القيام بفعاليات من مستويات شعبية ورسمية بالمناسبة، وصدرت كتب ودراسات، وكتبت مقالات في الصحافة، وكلها تناولت تلك الحرب في أسبابها ونتائجها، وما سببته من قتل ودمار وهجرات، ترافقت مع معاناة بشرية فظيعة، وخسائر مادية جسيمة، لم تدمر قدرات وإمكانات دول وشعوب فحسب، إنما حدَّت من تطور العالم عقوداً.
ومثل تلك الحرب، كانت الحرب العالمية الثانية، التي لا يبعد الاحتفال بمناسبة نهايتها المئوية إلا سبعة وعشرين عاماً، يتكرر عندها بأقل أو أكثر احتفال العالم بمناسبة نهايتها، فيلتقي زعماء وقادة، وتقام فعاليات وأنشطة، ويكتب الكتاب والصحافيون عنها وما سببته من معاناة وخسائر، شملت شعوباً، ودمرت بلداناً بصورة كلية أو جزئية، ضمن نتائج فاقت بكثير شقيقتها الأولى.
بين الحربين وما بعدهما، لم يتعلم العالم دروس ما جرى في أسبابه ومقدماته ونتائجه، بل اكتفى بمقاربتها، وقرر سياسات وقام بإجراءات رأى أنها كافية لمواجهة أخطار الحرب، وتقييدها، ومنع انفلات الصراعات المحلية والإقليمية والدولية إلى حرب شاملة، لكن نتائج ما تم القيام به لم تمنع اندلاع حروب وصراعات أشد قسوة مما شهده العالم في الحربين الأولى والثانية، بل كثير من تلك الحروب والصراعات، كما في حروب الهند الصينية وحروب الشرق الأوسط، وضعت العالم مرات على عتبة حرب عالمية ثالثة، كان يمكن أن تكون أكثر كارثية من شقيقتيها الأولى والثانية، وغالباً فإنها ستكون نهاية العالم.
ولأن عجزت السياسات والإجراءات الدولية، التي تتحكم فيها الدول الكبرى، في مواجهة احتمالات حرب عالمية، فإن أبقت أبوابها مفتوحة عبر حروب وصراعات محلية وإقليمية، وحولت الشكلين إلى نموذج مصغر من حرب عالمية، ولعل الصراع الجاري في سوريا وحولها، أحد أبرز تلك النماذج.
ففي معطيات الصراع السوري، أنه انطلق في بلد صغير لا تتجاوز مساحته الـ185 ألف كيلو متر مربع، وسكان لا يزيد عددهم عن 23 مليون نسمة، بعد موجة من الاحتجاجات قابلها نظام الأسد بأقصى قدر من العنف والإرهاب خوفاً من سقوطه، ومن المواجهة الأولى كرت التطورات اللاحقة: تدخلات إقليمية ودولية واسعة، لم تشمل القوى الكبرى، وبينها روسيا والولايات المتحدة فقط، بل قوى أخرى طالما كانت على هامش الشرق الأوسط، وتدخلت فيها غالبية دول الإقليم، بما فيها دول متصارعة متعادية، وتنوعت التدخلات وتعددت مستوياتها بحيث لم يبق مجال أو ميدان لم يتم التدخل فيه على المستويات السياسية أو العسكرية – الأمنية، أو في المجال الاقتصادي – الاجتماعي وغيرها.
ولم يقتصر واقع التدخلات على الدول، فاندفعت جماعات الإرهاب والتطرف للتدخل في الصراع السوري، سواء بمبادرة منها، أو نتيجة تشجيع ومساعدة من دول، رأت أن حضور تلك الجماعات في الصراع يخدمها ويعزز موطئ قدمها على مسرح الصراع، ويقوي أوراقها فيه، بل إن بعض الأطراف المتدخلة أسست وأدارت جماعات تتبعها بصورة كلية، أو دفعت بما لها من جماعات للدخول إلى سوريا، والانخراط في صراعها. ولأن تمحور الصراع في سوريا بين النظام ومعارضته في الشقين السياسي والعسكري، كما تبلور بعد أشهر من انطلاقته في مارس (آذار) 2011، فإنه تمدد لاحقاً ليشمل أطرافاً أخرى، دخلت الصراع، أبرزها إيران وميليشياتها، ثم روسيا وشركاتها الأمنية، إضافة إلى تركيا والولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، والمدخل الرئيس لتدخل الجميع كان محاربة الإرهاب والتطرف الذي بدا شعاراً واسع الطيف، لكنه كان قريباً من الجاذبين الأساسيين للصراع السوري، وهما النظام والمعارضة، مع توافق معلن على أن التدخل في مواجهة «داعش» و«النصرة» – بكل مسمياتها – بما هي فرع لـ«القاعدة» في سوريا.
ولم تكن التدخلات بعيدة عن تحولات فرضت نفسها في الصراع السوري، خصوصاً لجهة نمو نزعات دينية وقومية ومناطقية وأخرى وظيفية. فالكثير من السياسات، ومنها سياسات روسيا والولايات المتحدة، غذَّت نزعة الأكراد السوريين نحو بلورة سياسات تخصهم على نحو ما فعل «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» (PYD)، الذي أصبح بتنظيمه «وحدات الحماية الذاتية» رقماً في المعادلة السورية، ومثل إيران في تمددها الذي لا شك أنه صار حاضراً في جملة الأوراق السورية، ومثل تركيا التي حولت التركمان السوريين إلى وجود متمايز، خلافاً لما كان عليه من اندماجهم في إطار الجماعة الوطنية.
ولم تقتصر مجريات ونتائج الصراع في سوريا وعليها على ما سبق، بل شملت تطورات نوعية أخرى، كان أبرزها تمزيق الكيان السياسي والبنيان الاجتماعي للدولة، فصارت البلاد منقسمة إلى خمس مناطق: منطقة تمتد على طول الساحل والمنطقة الوسطى إلى الجنوب، يديرها نظام الأسد تحت سلطة مشتركة روسية – إيرانية، وأخرى في الجزيرة إلى حدود حلب – إدلب، تحكمها بدعم أميركي ميليشيات «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» (PYD) تحت مسمى «قوات سوريا الديمقراطية»، ومنطقة في دير الزور ممتدة عبر البادية نحو الجنوب السوري، تسيطر عليها بقايا «داعش»، ورابعة في منطقة ريف حلب الشمالي والغربي، تسيطر عليها تركيا، وتمتد المنطقة الخامسة في إدلب وجوارها من أرياف حماة وحلب واللاذقية، وتديرها التشكيلات المسلحة وأكبرها نفوذاً «جبهة تحرير الشام» المتطرفة.
ويكمل تدهور البنيان الاجتماعي جانباً من نتائج الحرب. فالسوريون إضافة إلى انتشارهم تحت سلطات الأمر الواقع، غادر نحو نصفهم للخارج لاجئاً في بلدان الجوار والأبعد منها، أو مقيماً، والمهجرون من مدنهم وقراهم يقاربون نصف الباقين في البلاد، التي قتل خلق كثير من سكانها، واعتقل أو اختفى بصورة قسرية كثيرون غيرهم، وتعطلت مناحي حياتها الاقتصادية والخدمية.
ترى أي نتائج كارثية وقعت في واحدة من الحربين العالميتين على بلد مثل سوريا بمساحتها وسكانها؟ وتقديراً، لم يصب أي بلد بصورة منفردة ما أصاب سوريا. وبدل أن يحتفل العالم بالذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى، كان على العالم وقادته التفكير بوضع حد لحرب، تستمر أمام عيونهم، ويشاركون في استمرار كارثتها الرهيبة، التي لم تكن تداعياتها بعيدة عن بلادهم ومعظم العالم.
المصدر: الشرق الأوسطش