التنوير: الواقعية السحرية ومقاومة الدكتاتور في أمريكا اللاتينية غريثا ليتي ميا*
خاص ألف
2018-12-29
تشاركت دول أمريكا اللاتينية، في القرن العشرين، المعاناة من نمط الدكتاتوريات نفسه، وأشكال المقاومة نفسها، سواء في البرازيل أو تشيلي أو الأرجنتين أو كولومبيا أو البيرو، وحتى في نيكاراغوا وغواتيمالا والسفادور. ومن الممكن لنا أن نؤكد أن شعب أمريكا اللاتينية طور نموذجا أدبيا خاصا وذلك لتفسير وشرح تشابه مساراته. ويسمى هذا النوع الأدبي باسم الواقعية السحرية أو الواقعية المتخيلة. ويمكن تحليل هذه العلاقة بين الأدب، كشكل من أشكال المقاومة، والدكتاتورية، كشكل سياسي غير ديمقراطي، بطريقتين: 1- عبر ملاحظة المفهومات الأدبية والسياسية ، و2- عبر الممارسات السياسية والأدبية. في الحالة الأولى، نحن حيال دراسة نظرية وقدر كبيرمن المحتوى التجريدي المختزل. وفي الحالة الثانية، نحن أمام محور تجريبي وآخر تاريخي. وقوامه ملاحظة الواقع ثم تحليل النسق وما تحت النص. ومقالتنا هذه تتبع الخيار الثاني.. فهي تهتم بالأدب وبأبعاده التاريخية. أو بالكتابة وشكل تطور الأحداث المكتوبة...... وبالعودة للعنوان: التنوير يعني أن تكون تحت تأثيرالإضاءة، أو أن تكون مفتونا ومسحورا. والسحري له مكان خاص في الأدب البرازيلي واللاتيني أيضا. وقد سحرنا أريانو سوسونا في "مغامرات مملكة الحجر" ( Romance d’A pedra do reino ) بشخصياته البرية Sertão التي ترمز للقفار والبراري، و للمملكة السحرية التي يأوي إليها مخلوقات مسحورة تسكن في الأنهار والبحار والبحيرات. وذلك في زمن الذاكرة المفقودة، أو زمن الحقبة القروسطية حينما لم نكن على قيد الحياة، ولكن التي استعدناها ضمن إطار من الأجواء الغريبة والفاتنة من خلال المهرجانات الشعبية والتزيينات والألقاب والشخصيات، وهذا كله جزء من الموزاييك الواسع لحركة النبالة. التنوير ،على وجه الدقة، يعني إضاءة أخطاء التاريخ وسبل الحياة من خلال حكايات غريبة. حينما "نُضاء" نكون أقل عرضة للمعاناة من الأحداث التي عشناها في ظل الدكتاتوريات، وهي نظام سياسي له قنوات مغلقة أمام الديمقراطية وقامعة للمعارضة. إن الدكتاتورية هي "إغلاق"، "أن تريد ولا تريد"، نظام ينكر الحقوق والميزات وتتحكم به الأفعال العشوائية. لذلك إن دراسته يحول المكان لمسرح آمن يستوعب المقاومة ويحافظ على ذاكرة الفترات المظلمة والعصيبة.
*الواقعية السحرية:
يؤكد تافاريس (2003،ص7) أن خورخي لويس بورخيس قال ذات مرة إن الفانتازيا هي اللغة المحبذة للكتاب في كل العصور، وإن الواقعية "ظاهرة شاذة معاصرة". وفي الحقيقة، إن وجود العجيب جاء من مسافات بعيدة، من الخيال البشري: فأوروبا أذهلها الشرق العجيب والغريب، فأنت هناك على ميعاد مع جان في قوارير وسجادات طيارة. ثم بدأ الغرب باختراع عجائبه، مثل إلديرادو والغطاء النباتي الغريب والحمولة الحيوانية الاستوائية العجيبة. لقد أصبح لدى الغرب أعاجيبه.. غابات تكرر نفسها، وبحيرات عميقة، وكهوف. ومنذ القرن التاسع وصلتنا قصص وحكايات شعبية من الهند والعرب والفرس، وتشكل بنتيجة ذلك كتاب "ألف ليلة وليلة". وكان ماركوبولو في القرن التاسع واحدا من طليعة الغربيين الذين اجتازوا طريق الحرير، وقد شكلت رحلته الغريبة رصيدا للمصموت عنه. وفي سجل رحلته إلى الشرق، ضمنا الصين، تفاصيل هي واحد من المصادر المحدودة لمعلومات الغرب عن آسيا. وإذا كان لا يوجد لأسطورة آرثر وما تفرع عنها تواريخ دقيقة، هناك كتاب مدون عام 830، وفيه أنباء عن معارك الملك، وكذلك سجل مكتوب في القرن العاشر له نفس الأهداف والمقاصد. وفي رواية "بودولينو" لأمبرتو إيكو سرد يحمل تفاصيل فاتنة وعجيبة عن الحملة الصليبية التي هاجمت الشرق في القرن الـ 12 بقيادة البطل الأسطوري فردريكو بارباروسا. وفي أسطورة شامبرلان و الـ 12 نبيلا من فرنسا، وخلال بحثهم عن الكأس المقدسة، تطورت أغنية رولاند التي يغنيها سحرة ومخلوقات غامضة. ومن السفينة الغريبة الغواصة إلى العجائب الشرقية، بدأت عجائب جول فيرن، في القرن التاسع عشر.
*ماركو بولو وطريق الحرير:
هل كانت الحكاية للتسلية أم أنها مصدر للأخبار؟. هل هذا آرثر الأنغلو ساكسون أم شارلمان الفرنجة: هل هو سرد تاريخي أم خيالي؟. وما هو هدف هذه الحكايات: المحافظة على الذاكرة أو دعمها، من خلال سرد غير حقيقي، قوامه سلسلة من الشروحات لتوضيح الغوامض؟. من المحتمل أن تعزو للأساطير والحكايات المؤسطرة وظيفة إرساء السرد الشعبي الذي يطور الرغبة بالماضي. ولكن قبل تركيب تاريخ رسمي، أنتجته حقول من الدراسات الداعمة لنفسها بمصادر وطرائق تحرض على التفكير العلمي و تطمح للبحث عن الحقيقة، كيف يمكن للمرء أن يتجاهل التجارب الأدبية التي تروي لنا الماضي؟. ولماذا نهتم فقط بالكتابة التي لها منهج؟. اتجاه هذه الدراسة هو أسئلة موجهة إلى الأدب. ولا سيما أسئلة عن التاريخ المدفون في السرديات الخيالية. وبالأخص في حالة السرد الذي يتابع الأنظمة الدكتاتورية، إنها مشكلة سؤال عن الهدف والسبب الذي أدى لتشكله. وربما بسبب الحاجة للاحتفاظ بالذاكرة أمام كل الظروف التي دفعت الذاكرة لتعنى بنفسها. فنضال الإنسان ضد النسيان، وهو ما يفعله التاريخ الحديث، موجود في البنية التحتية للسرد، حتى في أكثر المجتمعات ماضوية وقدما. في هذه الحالة، متى ظهرت الفجوة بين التاريخ (السجل الفعلي للتاريخ) والأسطورة؟. ما هي العلاقة بين تاريخ القرن العشرين في أمريكا اللاتينية وظهور الواقعية السحرية كحركة أو مدرسة أدبية؟. وما دور الأدب في التأسيس لمعرفة تعترف بالآخر؟. وماذا يريد اللاتينيون من التعبير اليائس عن عزلتهم وهو يأخذ شكل واقعية عجيبة افتتن العالم بها؟. ماذا نريد حينما نبحث عن الأدب العجائبي؟. وما هو منفذ النجاة الذي نتبعه وماذا نتوقع أن نجد؟. كل هذه الأسئلة تحتاج لبحث معمق ومستقل. وتقريبا كل من اهتم بهذا النوع من الدراسات انشغل بالمسافة الفاصلة بين التاريخ والأدب. فالتاريخ والأدب والسياسة والقانون تجاوزوا الأفق التأويلي للباحث، وواجهوا خطر التزامن المنهجي وفقدان تذوق قراءة عمل يحرض على القراءة أكثر من الإجابة على الأسئلة. والتقارب الحالي بين نظريات القانون واللغة، ولا سيما في السيميائية، يكشف عن مزيد من الحيرة وسوء الفهم وليس تحديد الموضوعات المعنية والمقصودة..... وقد وضع تودورف (1975) تعريفا للعجائبي في الأدب واقترح عدة مفهومات كانت موجودة في أطروحات ونظريات سابقة. بالنسبة له إن جوهر الخيالي يعرّف، في عالم يماثل عالمنا، العالم الذي نعرفه، والخالي من الشياطين، وغزاة الفضاء، ومصاصي الدماء، لانتاج أحداث لا يمكن شرحها بقوانين هذا العالم المألوف:"إن مفهوم العجائبي يمكن تعريفه بالمقارنة بين الحقيقي والعجيب، والثاني يستحق وقفة متأنية". ففيه تتجلى ظاهرة غريبة يمكن توضيحها بطريقتين: من خلال الملابسات الطبيعية وفوق الطبيعية. واحتمال التردد بين الاتجاهين موجود دائما في العجائبي (الفانتازي). إن ما يحدد هوية العجائبي هو تدخل الغامض في آلية عمل الحياة الحقيقية بشكل مباشر وفوري. والحضور المفاجئ للغريب المصموت عنه. وبرأي روجير كيلوس، نقلا عن تودوروف (1975) "العجائبي هو قطيعة في الترتيب أو النظام المعمول به، واندلاع لغير المقبول ضمن مشروعية الحياة اليومية غير المتبدلة". وعليه، من الضروري أن يجبر النص قارئه على النظر لعالم الشخصيات وكأنه عالم مخلوقات حية وممكن وموجود ويواجه غير المقبول أو اللامفهوم. وهذا اللامقبول، أحيانا، يتركب خلال تطور السرد. والنتيجة ستكون مدهشة، كما هو الحال في قصص الغموض والرعب، حيث أن الحصار يغلق الدائرة حول البطل. وبرأي لاف كرافت Lovecraft، أيضا بالنقل عن تودوروف (1975) إن معيار العجائبي ليس في العمل، ولكن في تجربة القارئ الخاصة، وهذه التجربة يجب أن تكون في نطاق الخوف والرعب. ويجب الحكم على الحكاية العجيبة بدرجة الكثافة العاطفية التي تحركها؛"الحكاية تكون عجيبة ببساطة إذا كان القارئ تنتابه حقا مشاعر الخوف والرعب، وبحضور وقوة العوالم غير الاعتيادية"( لاف كرافت، عن تودوروف،1975). إن التردد والحيرة التي تنتاب القارئ، برأي تودوروف، هي الشرط الثاني للعجائبي. إنها مختلفة عن مجاز الخرافات، بحيواناتها الناطقة، ولا تركز على إنتاج الأثر الشعري، باستعمال تراكيب استعارية: ويتضمن العجائبي ليس فقط حضور الحادثة الغريبة التي تسبب التردد لدى القارئ والبطل. ويأخذ التردد مكانه بين تفسير الطبيعي وفوق الطبيعي للأحداث التي يرويها ويمر بها البطل. ومن المهم أيضا أن يتبنى القارئ موقفا مماثلا من النص، ونحن بحاجة لطريقة لقراءته، وهو ما يمكن تعريفه مؤقتا بالنفي (اللفظ والاستبعاد): على العجائبي أن لا يكون شعريا ولا مجازيا.
فيما يخص تودوروف (1975) على المرء أن يميز بين العجائبي والغريب. وإذا قرر القارئ أن قوانين الواقع تبقى سليمة وتسهل تفسير الظاهرة السردية، فإن العمل يكون تابعا لنوع آخر: للغرائبي. وبالعكس، إذا قرر القارئ أنه لا بد من الاستعانة بقوانين جديدة حاكمة للطبيعة، فهذا النوع ينتمي للسحري. ولهذا السبب يقول تودوروف (1975، ص38) إن "الغرائبي يقود حياة حافلة بالمخاطر، ويمكن أن تتراجع وتختفي في أية لحظة". وما بين السحري والغرائبي يوجد العجائبي. ويفرع تودوروف لاحقا (1975) العجائبي إلى عجائبي- غريب وعجائبي- سحري: وفي الحالة الأولى، تبدو الأحداث فوق طبيعية طوال الحكاية ولكن في النهاية تواجه تفسيرا عقلانيا؛ وفي حالة العجائبي- السحري، من الضروري استعمال التردد على الأقل حين اختيار الحل النهائي، حينما يطالب العجائبي بحقه في النص:" فنحن في العجائبي- السحري، أو بمصطلحات أخرى: في فئة السرد الذي يقدم نفسه بشكل سحري، ينتهي الأمر بنا لقبول ما فوق الطبيعي"(تودوروف، 1975،ص58). يحدد تودوروف (1975)، من بين كل أشكال السرد السحري، ما ينطوي على "مبرر" بالاضافة للشكل السحري المجرد أو الخالص. ومع أن السحري موجود في تاريخ الأدب، هناك ظاهرة خاصة تغزو أو تندلع، أو تفاجئنا، في أدب أمريكا اللاتينية طوال القرن العشرين وكانت تتكئ على السحري الخالص، من دون مبررات في النهاية. ماذا تريد أمريكا اللاتينية من إنقاذ السحري بواسطة الواقعية السحرية؟. لم يتوقف تودوروف (1975) عن التساؤل حتى نهاية كتابه، ماذا بعد السحري، ولماذا السحري. ومع أن أول سؤال له علاقة ببنية النوع، يهتم الثاني بوظائفه. ويقتبس تودوروف من بينزولد (1975، ص 167) قوله:"بالنسبة لعدد من الكتاب، ما فوق الطبيعي هو تمهيد لوصف أشياء لا تجد الجرأة على ذكرها بمصطلحات واقعية". وبتعبير تودوروف نفسه (1975،ص167)، إن تنظيم الموضوعات التي يغطيها الأدب السحري"يترك لدى المرء الانطباع بوجود قائمة من الموضوعات الممنوعة، والتي وضعها نوع من أنواع الرقابة: وكل موضوع منها، هو في الحقيقة، ممنوع لعدة مرات، ومن الممكن أن يكون ممنوعا كذلك في الوقت الحالي أيضا".
وحسب رأي المنظر الهنغاري، يالإضافة لمؤسسة الرقابة توجد رقابة ثانية، وهي مدفونة في نفسية الكاتب نفسه، وتركب نفسها من موضوعات لا يجب الاقتراب منها وتعتبر تابوات. "العجائبي أكثر من مجرد تمهيد بسيط، إنه جهاد ضد نوعي الرقابة كليهما: فالسلوك الجنسي الخاطئ يكون مقبولا عند كل أشكال الرقابة إذا كان محسوبا على الشيطان"(1975، ص167). وبهذا السياق التاريخي ظهرت الواقعية السحرية في واحدة من أكثر الفترات اضطرابا في أمريكا اللاتينية. كانت بلدان أمريكا اللاتينية، ما بين الستينات والسبعينات، تعيش في مؤسسة حكومات الأنظمة الدكتاتورية. وبرزت الواقعية بشكل ردة فعل، ولكن استعملت الأدوات السحرية لتدعم من خطابها المعادي للأنظمة الدكتاتورية، في محاولة للالتفاف على رقابة هذه الأنطمة. وكان ذلك نوعا من ردة الفعل بواسطة الكلمة. إن العجيب كما يبدو، له تاريخ، وهذا النوع ليس من الأعاجيب التي تنتمي للأدب الأوروبي. إنه الواقعية السحرية. نوع أدبي يكتفي بذاته. وإذا صح ذلك، كما يقول تافاريس (2003،ص13)"يبدو العجائبي إذا كانت هناك قطيعة أو فاصل وبدأت أحداث غير متوقعة أو غير ممكنة بالحدوث. بمعنى أنه لا يسعنا أن نسمح لها بالحدوث إطلاقا"، ما هي العلاقة الممكنة بين مؤسسة الدكتاتور وأدواته المرعبة والقدرة على مقاومة تلك الأنظمة؟. من الممكن أن تقول إنه يوجد في السرد العجائبي نوع من المغفرة التي يمكننا اكتشافها: القدرة على تطوير نسخة من الحاضر / الماضي المصدوم والمعقد وذلك بواسطة الرغبة بالكلام عن الحرية في ظل النظام الدكتاتوري.
*غريثا ليتي ميا في كلية القانون، جامعة دي سيرا الفيدرالية، البرازيل.
Gretha Leite Maia أستاذة
ترجمة صالح الرزوق
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |