Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

ما بعد الحداثة والعلوم الاجتماعية ستافروس د. مافرودياس ترجمة.

خاص ألف

2019-01-05

مابعد الحداثة اتجاه عريض في العلوم الاجتماعية - وفي الثقافة- وقد ولد من خيبات أمل كثيرة تنامت في نطاق الأنتلجنسيا الراديكالية، وتزامنت مع نهايات "الآمال الواسعة" لفترة الستينات. وقد قدم إيغلتون (2003) تفصيلات مسهبة عن المسيرة التي قادته إلى ما بعد الحداثة. حيث أن تراجع مد الحركات الشعبية والكفاح السياسي والاجتماعي لم يترك غير البقايا. وأكد حراك وفتوحات تلك الفترة، في المجال النظري، أنه غير قادر على مواجهة إعادة بناء الرأسمالية الراديكالية في العقود التي أعقبت أزمة 1974-1975البنيوية، بالرغم من أهمية هذا الحراك. وكان معظم هذا التراجع ذاتيا. وقد ارتكزت حركات عام 1960 أساسا على حضور الطبقة المتوسطة وشريحة الطلبة، ولم تندلع إبّان فترة الرفاهية الاقتصادية، ولكن أيضا قبيل الأزمة التي لحقت بالاقتصاد. وأثبت هذا المزيج فشله الذاتي. ووضع لنفسه من خلال خطاب ثوري عالي الصوت، أهدافا سياسية يوتوبية. وفي نفس الوقت، فشل في تشكيل جذور عميقة للطبقات الاجتماعية ولطبقة أقل ثراء (هي بالعادة الطبقة العاملة) مع أن خطابه موجه لها. وهذه المقاربة النظرية المبالغ بأهميتها على مستوى العالم، مع السياسة الماركسية غير الواقعية، وغياب الأساس لطبقات مناسبة، قاد تقريبا لتراجع غير مشروط، وهو ما تزامن مع انفجار الأزمة الرأسمالية (التي تنبأ بها). ولم تكن هناك مقاومة تذكر بمواجهة محاولات مستميتة وغير ناجحة لإعادة ترتيب بنية النظام، علاوة على ذلك، إن اقتراب الأوقات العصيبة التي خيمت على الجماهير الواسعة، المنتمية لفئة الطبقة العاملة، وسّع الفجوة بينها وبين السياسة الماركسية والخطاب النظري الذي تتبناه حركة الطلاب والطبقة المتوسطة. وعوضا عن القيام بنقد ذاتي معمق، نجمت عن ذلك خيبة عميقة أصابت شريحة من الأنتلجنسيا، وترافقت الخيبة مع انقلاب تام على موضعها السابق. وكما قال إيغلتون (2003:51) عن وجه حق، إنه "بعد قلق نهاية الستينات، كانت السياسات الممكنة الوحيدة على ما يبدو موجودة بشكل وجبة من المقاومة ضد النظام والذي جاء ليبقى". فالنظام يمكن أن يعاني من انقطاعات ولكن لا يمكن تفكيكه كله.

و الإحساس بخيبة الأمل هو الذي قاد إلى ما بعد الحداثة. إن رفض أي تحليل كوني، وعدم الإقرار باحتمال أي انقلاب اجتماعي، والعودة إلى قضايا صغيرة ومجزأة، بالإضافة إلى السخرية الجمالية بتوظيف أدوات ثقافية منتخبة (إلى حد ما، مع التأكيد على عدم تدخل المجتمع والسياسة)، هي العلامات البارزة لهذا الاتجاه.

فالأطروحة الأساسية لما بعد الحداثة تتلخص باستحالة وجود أي معيار موضوعي يمكننا قياس الحقيقة به. وهناك عدة تحليلات مختلفة، وكلها مشروعة بالتساوي. وسبب ذلك أنه لا يوجد إمكانية للفصل بين ما يجب شرحه (المدلول) وبين أساليب شرحه (الدال). وبالنسبة للنسخ المتعصبة من ما بعد الحداثة، لا يوجد مكان للحقيقة بذاتها، ولكن هناك فهم إنساني لها. أما النسخ المعتدلة، فيمكن للحقيقة أن تتوفر بشكل مستقل، ودون أي علاقة مع البشر. وأضف لذلك أن تفسيرات مختلفة يمكن أن تبني "حقائق" مختلفة. والمعرفة جزئية، ومحدودة، وعارضة. وعليه، إن النظريات الكبرى ليست ذات علاقة لأن التداخل بين الدوال والمدلولات متعدد جدا ومتشعب.

وهذه الأطروحة مدعومة بعجز فاضح عن الإيمان بقدرة العقل البشري للوصول لتفسيرات كونية. وقد انتقد ليوتار (1984-xxiii ) العلوم أنها تحاول شرعنة نفسها مع الإحالة لما وراء الخطاب أو لـ"السرديات الكبرى"، مثل ديالكتيك الروح، وهيرمونطيقا المعنى، تحرير الذات العاقلة أو تحرير الطبقة العاملة، أو الإثراء. وبالمقارنة، قام بتعريف ما بعد الحداثة على أنها "لامعقولية ما وراء السرد"(ليوتار xxiv - 1984). ولأن ما بعد الحداثة تقلل من دور العلاقات المادية، أصبح الخطاب هو حقلها الرئيسي. فالخطاب ليس ببساطة هو الإيديولوجيا بالمعنى الكلاسيكي. وكما بيّن بورفيس وهانت (1993) بحصافة، إن الإيديولوجيا شروحات تستمد نفسها تقريبا من الظروف المادية، مهما كانت غير دقيقة أو فيتيشية. وبالعكس، الخطاب - النابع من انعطافة ألسنية معاصرة في الفكر النظري الاجتماعي - تتضمن أن اللغة (وغيرها من

أشكال السيميائية) لا تنقل التجارب الاجتماعية فقط، ولكنها تتضمن الذوات الاجتماعية (هوياتها)، والبيئة التي توجد فيها تلك الذوات. وعليه، إن العناصر الخطابية، وكل أنواع العلاقات الممكنة بين الدال والمدلول تصبح مركزا للاهتمام. لا شيء يوجد دون انعكاسه الخطابي، والمدلول مقيد بالدال ولا يمكن فصله عنه. إن ما بعد الحداثة تفضل منهج التفكيكية على الكونية الصناعية التي تشكل السرديات الكبرى، أن تتجزأ بواسطة التفكيكية للوصول لوحداتها الأساسية وشظاياها وعوارضها وعناصرها الخطابية المعقدة والمحتملة. أضف لذلك، التفكيكية تفكر حتى بالتقابل بين الدال والمدلول لأنه، كما قال دريدا، هاتان الفئتان متداخلتان. وعليه، إن أي فكرة عن السببية مرفوضة وتستبدل بقلق افتراضي (بلات 1989؛ دريدا 1981).

وتتجنب التفكيكية أي ارتباط افتراضي لأنه لا توجد هناك قناعات سببية وحتمية جوهرية تربط كل موضوع تحلله بموضوع آخر يقع في نطاق اهتمامها. والنتيجة نسبية غير محددة. ومن المهم أن نعلم كيف أن بلات (1989) حاول إسقاط ما بعد الحداثة في حقل العلوم الاجتماعية. ولاستبدال علاقات السببية، استعار مصطلح الاستعادة recursion من علوم الكومبيوتر. وتحيل الاستعادة لبنية أو شبكة تعرّف نفسها بمصطلحات التطور البسيط. والشبكة المستعادة هي الشبكة التي تتميز فيها المستويات على أساس تكرار عمليات تحيل لذاتها. وفي نظام من هذا النوع، توجد علاقات لكن بلا أسباب. وهذه العلاقات، وبمقاربة غير محددة، تخلص إلى نموذج نمطي يفسر نسبية ما بعد الحداثة.

وأخيرا، إن القلق الافتراضي يتلازم مع الفردانية المنهجية. فما بعد الحداثة تفترض مجددا لغز البنية المستديمة - كوسيط حامل للألغاز وفي نفس الوقت تفككه بكامله: إنه ليس هناك بنية (ولا حتى قانون يفضل البنية وعلاقاتها)، ولكن فقط وسيط يعمل من خلال الخطاب. وأي علاقات تراكمية هي بنيات قريبة الأجل، وعارضة، وخطابية وتتكون من جماعات من الوسائط. وعليه، تكون البداية من الوسيط. الفرد. أفراد بالمحاكاة، والتكرار، والعادات التي تخلق بيئات اجتماعية (مع أن ما بعد الحداثة تشتبه بجوهر وروح المفهوم الاجتماعي). وحينما يصل هذا التفكير إلى التاريخ، يعود بنا إلى النسبية التاريخية (انظر: روليه Raulet 1989:160) .فالتاريخ هو نتيجة عارضة بالصدفة، حيث أن الهويات الفردية لها أهمية عابرة للحدود، وهذا واضح وبيّن في جينيالوجيا موري Meuret عن الاقتصاد السياسي... ويؤكد أندرسون (1988) أن هذا يقودنا إلى عشوائية تاريخية. وبمنحى مماثل أكدت وود (1995:5-6) أن دراسات ما بعد الحداثة "هي تبدل تاريخي لكن دون تاريخ". لا يوجد شيء يقود إلى النظام الاجتماعي (النظام الرأسمالي مثلا) بجهازه الموحد و"قوانين حركته". ولكن هناك فقط أنواع مختلفة من السلطة والقمع والهوية و"الخطاب". وليس علينا أن نرفض "السرديات الأساسية" القديمة، مثل مفهوم تقدمية التنوير، ولكن أيضا علينا التخلي عن أي آلية تاريخية ملموسة وسببية - ومعها كما هو واضح، أي فكرة عن "صناعة التاريخ". ليس هناك آلية متبنينة ومتاحة للمعرفة البشرية (أو، كما هو المفروض، للنشاط البشري). ولكن لدينا فروقات فوضوية ومنفصلة وغير مفهومة. ولأول مرة، لدينا ما يبدو أنه تناقض بالمصطلحات: نظرية عن تبدل الأطوار انطلاقا من نفي وإنكار التاريخ. ويميز كالينيكوس (1985)، بعد أن يضع في حسابه طريقتهم بتنظير الخطاب، موقفين أساسيين من ما بعد الحداثة.

الأول، له علاقة بليوتار، ويعتمد بقوة على نسخة الفلسفة التحليلية للغة (نظرية نشاط الكلام). الثاني، هو ما بعد البنيوية، وهذا بدوره ينقسم إلى محورين فرعيين.

من جهة، لدينا نصية دريدا (وهو الوارث الشرعي للمثالية الألمانية الكلاسيكية)، وهي نظرية تنكر إمكانية التملص من الخطابية؛ فالخطاب ليس له كوابح خطابية مضافة، ويتضمن كل جوانب الواقع. من جهة ثانية، اقترح فوكو ودولوز وغوتاري نسخة عالمية من ما بعد البنيوية، وهي، بالمقارنة مع النظرية المثالية لدريدا، تفترض أن الخطاب واللاخطاب كلاهما ملفوظ. وأساسا إن ما بعد البنيوية الدولية تنشط بصفة رافعة تعوّم غزو ما بعد الحداثة للعلوم الاجتماعية (ومنها الاقتصاد). وما بعد الحداثة العالمية تستوعب نظريات ما بعد البنيويين وما بعد الماركسيين الذين ينتمون لفروع مختلفة تستند على بنيوية ألتوسير وسوء تفسير أعمال غرامشي. والمثال النموذجي والمعبّر عن هذه الزمرة تجده عند لاكلو Laclau وموف Mouffe

(1985). وقد قدمت وود (1986) وجيراس (1987) نقدا دقيقا ووافيا لهذه الأطروحات. ومع ذلك من الضروري الإشارة لبعض جوانب هذه الأطروحات التي تعمل كما لو أنها روابط محددة تربطها بما بعد الحداثة. والبداية من "الجوهريات"، ولا سيما بشكل وصيغة افتراضية تعيد للأذهان الاقتصادوية الماركسية، فهذه الجوهريات قد تم حرقها مجددا باحتفالات طقوسية. وبالاستطراد، إن العلاقات البنيوية، ولا سيما العلاقات الطبقية، تعرضت للهدم أو التقليل من أهميتها أو جعلها نسبية، وعوضا عنها افترض الخطاب أولوية تفسيرية. ولم يعد لدينا أشياء مادية ومواقع طبقية وأفعال، ولكن فقط أفكار لها بنية خطاب يتناول تلك الماديات. وكما نبهتنا وود (1986:62)، بهذا الخصوص، تبع لاكلو وموف مسارا معروفا يقود من البنيوية إلى ما بعد البنيوية - ومع أنهما غير متأكدين هل تحويل الواقع ما بعد البنيوي واستيعابه في خطاب يمكن اعتباره قانونا عاما للتاريخ (وهذا هو ما كان)، أو هل أنه في العصر الحديث فقط، وبالأخص بعد دخول "المجتمع الصناعي"، تعرّض الواقع الاجتماعي إلى نفي ماديته وأصبح عرضة للبناء الخطابي.

قدم أندرسون (1988: 40-55) تفصيلا دقيقا وواضحا عن الترابط بين البنيوية وما بعد البنيوية. وعزل ثلاث موضوعات أساسية أرست في ثلاث مراحل متعاقبة مسارا قاد من البنيوية إلى ما بعد البنيوية.

أولا، إن تشكيل قاعدة أخذت منها البنيوية في النهاية مفهوماتها، ثم أسقطتها على كل قطاعات المجتمع، كانت مصادرها في الألسنيات، وأدت لما يسميه أندرسون استخلاص اللغة.

ثانيا، هذه الصفة المطلقة للغة قادت إلى موضعة الحقيقة. فالميزان غير المستقر بين الدال والمدلول، الموروث في الألسنيات البنيوية، قطع أي إمكانية للحقيقة كحامل لافتراضات الحقيقة. وهذا بدوره، ينطوي على ضعف حرج في سببية الحالة. "السببية، حتى إذا كانت مقبولة، لا تتطلب التمركز على حدود التحليل البنيوي"(أندرسون 1988: 50).

ونتيجة هذه الآلية هي عشوائية التاريخ.

ولأن السببية تتعرض للإضعاف، يتشكل فراغ لا يمكن عبوره بين القوانين العامة والأسباب والحوادث الفعلية. ولذلك، هناك نتيجة محيرة.. فاليقين الأولي الشامل ينتهي إلى تبني عارض نهائي مطلق.

هذه الموضوعات الثلاث الأساسية كلها، التي تابعها أندرسون، تجدها في داخل اللغز المحير عن البنية- الذات ويمهد الطريق لما بعد البنيوية. وهذا يتطلب سؤالا لا يمكن تجنبه عن صلاحية ونوعية التمييز بين الدال والمدلول لتنشيط سلسلة ردود الفعل التي أدت إلى ظهور ما بعد البنيوية. في حدود معينة، الطريقة التي تشكلت بها البنيوية ويعتقد أنها حلّت هذه الأحجية، تتكون من بذور آلية تنتهي بعكس الأطروحة، وهكذا ولدت ما بعد البنيوية.

وكما أثبتت وود (1995) إن هذا المسار من البنيوية إلى ما بعد البنيوية راكم العظم واللحم وشكّل قوامه وكتلته خلال الرحلة التي سار على دربها مثقفون في طليعتهم أتباع ألتوسير وصولا إلى ما بعد الماركسية. وحددت بدقة أن بولانتزاس هو السبّاق. بالنسبة لهؤلاء المثقفين إن أولوية الخطاب المفسر قام على "أتمتمة الإيديولوجيا والسياسة المشتقة من الاقتصاد". وتبع ذلك "عشوائية التاريخ والسياسة". وأول خطوة تضمنت استحالة تحديد عناصر الخطاب بواسطة الاقتصاد، حتى لو أن هذه العناصر في الظرف النهائي (طبقا لما يقوله الماضي الألتوسيري). وهذا جزء وكذلك غلاف للدافع غير الجوهري وغير القابل للاختزال، وسعي نحو "الانفتاح" والنظرية "المضادة لتلاحم الجزئيات". إن عشوائية التاريخ والسياسة تقودان، في كل الأحوال، إلى التاريخانية. والنتيجة هجين غريب من الحتمية المطلقة والعارض المطلق، مع التأكيد على الطرف الثاني. وبمتابعة الماضي البنيوي الألتوسيري، وضع لاكلو وموف بنيات وقوانين نظرية بأسلوب متماسك وساكن ويرفض الجدل أو الديالكتيك (ويحمل قيم الحتمية الميكانيكية وهذا بدوره، مكّن من رفض ما سلف لمصلحة ما هو نوعي تاريخيا وغير حتمي، حتى لو أن الحركة الآن هي تحت راية ما بعد البنيوية.

هوامش:

جيرار موري: عالم اقتصاد وسياسة ماركسي.

كريستين موري: تخصص اقتصاد سياسي. كلية باريس للعلوم السياسية.

إرنستو لاكلو: باحث في السياسة.

شانتال موف: باحثة بلجيكية في شؤون السياسة.

ستافروس د. مافرودياس Stavros D. MavRoudeasعضو في قسم الدراسات الاقتصادية، جامعة مقدونيا، ثيسالونيك، اليونان.

ترجمة صالح الرزوق
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow