سوريا مستعمرة بحكومة محلية
فايز سارة
2019-01-12
اذا تجاوزنا الملامح الشكلية لنظام الأسد، فإن المعطيات الأخرى تؤكد أن سوريا صارت دولة مستعمرة. بل إن الملامح الشكلية للنظام فيها، لا تشكل نقيضاً لفكرة أن الدولة واقعة تحت الاستعمار، وفي التاريخ السوري حالات متعددة لرئاسة وحكومة سورية في ظل الاستعمار الفرنسي المسمى في لغة التهذيب الدولي (انتداباً)، وبين أسماء من تولوا رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة تاج الدين الحسني وشكري القوتلي وخالد العظم وسعد الله الجابري وفارس الخوري وكلهم شخصيات مشهود لها بالوطنية والنضال ضد المستعمرين، وليس في استدعاء الأخيرين والانصياع لهم، كما هي الحالة السورية الراهنة.
والاستعمار ظاهرة تاريخية، شهدت تبدلات متعددة، دون أن يتبدل جوهرها في سيطرة دولة على دولة أو شعب آخر، وفرض تغييرات عميقة عليهما في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، والأبرز في نماذج الظاهرة التاريخية، الاستعمار الاستيطاني الذي يجري – إضافة إلى سياسات أخرى – تغييرات جوهرية في البنية السكانية، وصولاً إلى تدمير السكان الأصليين، وجلب سكان جدد وبين نماذجه الأكثر شهرة وقرباً إسرائيل، والنموذج الأكثر شيوعاً استعمار مباشر، يتم فيه إخضاع دولة أو شعب بواسطة القوة، وقارب هذا النموذج حد الغياب عن المسرح العالمي، مخلياً مكانه لنموذج أحدث، يأخذ طريق القوة الناعمة للسيطرة، وتوظيف قدرات الدولة أو الشعب المستعمرين لصالح القوة الاستعمارية، ونماذجه حاضرة في عالم اليوم. واستعمار سوريا، خليط من النماذج السابقة، تدخلت في رسمه وإخراجه ظروف محلية وإقليمية ودولية، أحاطت بسوريا وخصوصاً في السنوات الثماني الماضية.
لقد توهم نظام الأسد بقدرته على هزيمة السوريين وإخضاعهم مجدداً، عندما رفض فكرة الحل السياسي وإجراء إصلاحات في نظامه، وأوغل في الحل الأمني/ العسكري على أمل الوصول إلى حسم الصراع بمساعدة حلفاء أقربين وأقل تكلفة، فكانت الاستعانة بالميليشيات اللبنانية والعراقية، والتي لنظام الأسد علاقات معها، ومرتبطة بنظام الملالي في إيران، وقد كثفت الأخيرة من مساعداتها وحضورها العسكري والأمني إلى جانبه دون أن تصل جهودها مع الميليشيات والنظام لتحقيق انتصار، وبطلب مشترك من النظام وإيران، جاء الانخراط العسكري الروسي في سوريا أواخر عام 2015، ليكرس استعماراً إيرانياً – روسياً مسلحاً ومباشراً لسوريا.
ورغم أن علاقات النظام السابقة مع الإيرانيين والروس، أعطت وجودهم ونفوذهم تمايزات مصلحية، فإن وجودهما العسكري أعطاهما فرصة التحول إلى قوة لها ملامح سياسات وممارسات ذات طابع استعماري واضح، رغم ما يمكن أن يرافق الثنائية الاستعمارية من تناقضات المصالح وتصادمها، والتي لا شك أن الطرفين سعيا لحل هذه المشكلة في واحدٍ من خطين أو بهما معاً؛ الأول سعى كل منهما للتخفيف من تناقض وتصادم مصالحه مع الطرف الآخر، والثاني تقاسم توافقي في مجالات ومستويات اهتمامه، مما يخفف تصادم المصالح، خاصة أن لدى الطرفين، إدراك كل منهما لطبيعة الآخر، ومكانته وقدراته واهتماماته وعلاقاته، ولعل المثال الأكثر وضوحاً في التفاهم والتناغم الإيراني/ الروسي، يمكن تلمسه في تقاسم الدور الدولي – الإقليمي في القضية السورية وحولها بين روسيا وإيران.
ففي ظل حقيقة مكانة روسيا الدولية، وما تتمتع به من قدرات وإمكانيات، فإن إيران أعطت الأولى الدور الرئيسي فيما يتصل بتطورات القضية السورية وعلاقاتها الإقليمية والدولية وبينها العلاقة مع الأمم المتحدة ودول ذات صلة أبرزها الولايات المتحدة ومثيلاتها الإقليمية، وخصوصاً تركيا وإسرائيل، واهتمت طهران بالعلاقات الإقليمية التي لها فيها حضور ونفوذ مثل العراق ولبنان، كما تولت العلاقة مع الميليشيات والتنظيمات المسلحة ومنها الجماعات الفلسطينية. ولأن لروسيا قدرات جوية مميزة، فقد أعطيت كل الدور العسكري الذي يقوم على استخدام سلاح الجو ومتمماته في الرصد والاستعلام الفضائي، فيما أعطي الدور العسكري المباشر، ولا سيما البري، للقوات الإيرانية وميليشياتها.
ووسط التقاسم الاستعماري السياسي – العسكري لسيادة الدولة السورية، استمر الطرفان الإيراني والروسي بحضورهما القوي لدى نظام الأسد وداخل المجتمع في مناطق سيطرته. لكن الروس ركزوا على العلاقة الخاصة مع رأس النظام وبعض كياناته وأركانه المؤثرة في مفاصل السياسة السورية، واحتمالاتها، فيما كانت الفتحة الإيرانية أوسع في علاقاتها مع النظام والمجتمع، وهو سلوك إيراني قديم ومستمر، هدفه توسيع وجود إيران ونفوذها في كل المجالات الممكنة.
وفيما ركز الروس اهتماماتهم على الثروات الأساسية ولا سيما النفط والغاز واحتمالاتهما، واهتموا بالبنية التحتية ولا سيما تطوير الموانئ والمطارات، التي تمثل مصلحة عليا للوجود الروسي المباشر في شرق المتوسط، وتوفر نفوذاً طويل الأمد، وتعطي فوقهما أرباحاً كبيرة، فإن الإيرانيين اهتموا أكثر بشراء الأراضي والعقارات التجارية والسكنية، لاقترانها بهدف التغييرات الديموغرافية والثقافية التي يشتغلون عليها سواء من خلال جلب شيعة إيرانيين وأنصار عراقيين ولبنانيين وأفغان وغيرهم وإسكانهم وتشغيلهم، أو من خلال توسيع عمليات التشييع في صفوف السوريين بعوامل الإغراء والترهيب.
ويمثل ما سبق بعض ملامح سياسة استعمارية، تتابعها روسيا وإيران في سوريا، وثمة مؤشر روسي ربما هو الأكثر شدة، تمثله الاستدعاءات الروسية لرأس النظام لمقابلة الرئيس الروسي أو أحد مندوبيه، والتي لا شك أن شيئاً إيرانياً مثلها يحدث، لكنه محاط بـ«التقية» لجهة عدم إظهاره ولجهة تخفيه بـ«الأدب» و«الدبلوماسية» الإيرانية المعهودين. لكن الخلاصة في السياسة الاستعمارية، تؤكد رغم اعتمادها سيطرة القوة المسلحة، فإن سياسات روسيا، أقرب إلى سياسات الدولة الاستعمارية الحديثة، أما سياسة إيران في بعض جوانبها، فتكاد تتطابق مع سياسة أوائل المستوطنين الصهاينة في فلسطين.
وسط الصورة السوداء لواقع الاستعمار الإيراني/ الروسي لسوريا، لا يحتاج المدققون الموضوعيون في الوضع السوري إلى جهد لإمساك مؤشرات السياسة الاستعمارية، لكن آخرين سيطرحون أسئلة، دون أن ينتظروا الأجوبة.
فالواقع السوري يحمل أجوبة عامة ومتوسطة وتفصيلية حول مسارات السياسة الاستعمارية الإيرانية/ الروسية والتي جعلت من نظام الأسد وحكومته وشخصياته مجرد دمى تنفذ قرارات ورغبات الإيرانيين والروس، بل إنها جعلت تلك الرغبات اتفاقات وعقوداً، وخطوات في سياسة الأمر الواقع، ترهن مستقبل سوريا والسوريين بمصالح موسكو وطهران لعشرات السنين، فتفرض عليها النضال ضد ظاهرة تتكرس تحت سمع وبصر عالم يتباهى بأنه خرج من عصر الاستعمار منذ عقود طويلة.
المصدر: الشرق الأوسط