“مفهوم الشر في مصر القديمة”
2019-01-12
لعل مفهوم الشر قديم للغاية قدم التاريخ الإنساني، إنه يحيط بالعالم كله، حيث نجد المنازعات والصراعات من أجل مصلحة شخصية دون النظر إلى المصالح العامة وخير البشرية ودفع عجلة الإنتاج لا الهدم، حتى أن كاتبا بحجم جيمس هنري بريستد صاحب كتاب “فجر الضمير” ألف ذاك الكتاب بسبب قيام الحرب العالمية الأولى، وكان هدفه حينها أن يعقب على الحرب التي تحصد الأرواح ويكشف جوانب الشر لدحضها.
في كتاب “مفهوم الشر في مصر القديمة” لمؤلفه الدكتور علي عبدالحليم الذي حاول أن يقدم دراسة عن أفكار المصريين القدماء وتصوراتهم عن الشر والفوضى وكيفية التخلص من كليهما، فقد ذكرت نصوص عديدة كراهية المصريين القدماء للفوضى واعتبروها انتكاسة في الخلق وعبروا عنها بكلمة بليغة هي كلمة “إسفت” التي تعني جميع أنواع الشرور والفساد، كما عددت تلك النصوص وسائل التخلص من هذه الفوضى سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي أو حتى المستوى الكوني.
ويكشف المؤلف أن علم المصريات، نال اهتمام الغرب منذ فترة غير قصيرة، حيث صدرت عنه عدة كتابات، كما زاد الاهتمام أيضا بالفلسفة الأخلاقية، خصوصا فكرة العدالة التي قلما تجد كتابا يتجاهل ذكرها، بل صدرت دراسات عديدة تناقش هذه الفكرة ورغم ذلك فهي ما زالت تحتاج إلى دراسات أوسع.
ويعتبر المؤلف أن هناك محورين مهمَّين وقاعدتين أساسيتين للأخلاق في مصر القديمة هما: “الماعت”؛ أي الخير والحق والعدل، و”الإسفت”؛ أي الشر والفوضى والفساد. وفي حين تناول علماء المصريات المفهوم الأول الماعت بشكل كبير، فإنه لا توجد دراسة شاملة مستقلة عن نقيضه الإسفت، وإنما اكتفت الدراسات بذكره في سياق الحديث عن الماعت. وكانت كلمة الإسفت تعتبر على أنها الذنب والشر عموما؛ كما لم يفرد لها مقال في أشهر الموسوعات والمعاجم التي صدرت في علم المصريات؛ لذلك ينصب الاهتمام في هذا الكتاب بالتركيز على الإسفت باعتبارها أوضح مفردة تعبر عن الشر وسيكون ذلك من خلال النصوص المصرية القديمة.
الكتاب يقدِّم عرضا تحليليا لأفكار المصريين القدماء عن الشر
الكتاب يقدِّم عرضا تحليليا لأفكار المصريين القدماء عن الشر
يتضمن الكتاب، الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سبعة أقسام أو فصول، وقد شملت الدراسة أيضا تمهيدا عن الماعت والفلسفة الأخلاقية، ويتناول هذا التمهيد مفهوم الماعت وبداية ظهوره ورموزه وتصويره وعبادته. ثم تأتي بعد ذلك الأقسام الرئيسة للدراسة والتي يمكن وصفها بأنها دراسة تحليلية كنتاج لترجمة العديد من النصوص المصرية القديمة سواء أكانت نصوصا ذات طابع ديني أم جنائزي أم سيرا ذاتية وحتى مصادر أدبية وتاريخية؛ وقد تناول المؤلف مقدمة عن الشر في مصر القديمة، كاشفا أصوله ورموزه وكيفية التخلص منه، ثم مفهوم الإسفت باعتباره أمرا مكروها أو محرما، بالإضافة إلى الكلمات التي تعني الشر والذنب والتي وردت مرافقة للإسفت في النصوص، وكان هذا هو موضوع الفصل الثاني من الكتاب.
وناقش الفصل الثالث المستوى السياسي للإسفت ودخول الأجانب وثورة المتمردين من الداخل وهم ممثلو الفوضى الإسفت، وقد أكدت على ذلك النصوص التاريخية التي وردت فيها الكلمة، ويتناول هذا الفصل لماذا وكيف تحدث الإسفت؟ بالإضافة إلى كيفية القضاء عليها وكيف تتحقق الماعت على يد الملك.
كما لم يكن الملك وحده هو المسؤول عن تحقيق النظام بالقضاء على الإسفت، بل عاش المجتمع المصري القديم في كلّ متكامل يتلخص في الماعت؛ أي المنظومة والتضامن والتكافل الذي أوردته النصوص المصرية التي اعتمدت عليها الدراسة، لذلك تم تخصيص الفصل الرابع للحديث عن المفهوم الاجتماعي للإسفت التي تعبر عن التفكك وعدم التآلف بل تعبر عن الظلم والجشع؛ فقد كان على هذا المجتمع بفئاته المختلفة أن يعمل ليوم يلقى فيه ربه فيوفيه حسابه، وربه هذا هو الذي يحب الماعت ويكره الإسفت وقد حرمها على بني البشر وأمرهم بألا يقربوها، فالإسفت هنا لها دلالة أخلاقية يؤكد أصحاب النصوص أنهم فعلوا الماعت ولم يفعلوا الإسفت.
ويعتمد الفصل الخامس على فكرة المحاكمة حيث كان المصريون يرون أن المتوفى خالٍ من الإسفت قبل وأثناء وبعد المحاكمة. ويتناول هذا الفصل أيضا مصير فاعل الإسفت والطهارة أو التخلص من الإسفت.
ثم يأتي الحديث بعد ذلك عن علاقة الإسفت بالنظام الكوني، فهي الفوضى السابقة على الماعت، أي النظام الكوني، الذي أقره الخالق بعد طرده للإسفت في المرة الأولى، ويتضمن الفصل السادس المفهوم الكوني وكيفية الحفاظ عليه.
وبعد هذه المفاهيم فإن الحديث عن فاعلي الإسفت أمر ضروري، فهم مجرمون أفسدوا النظام سواء على المستوى الكوني أو السياسي، ويمثلهم بشكل رسمي أبوفيس وست وهما العدوان للنظام اللذان يحاولان إفساده بشتى الطرق، لذا يتم عقابهما وطردهما باستمرار.
يمكن اعتبار أن هذا الكتاب يقدِّم عرضا تحليليا لأفكار المصريين القدماء عن الشر، وما يندرج تحته من معانٍ وفروع مثل الفوضى، والظلم، والذنب، والفساد، وغيرها. وذلك من خلال النصوص المصرية القديمة سواء أكانت دينية أم جنائزية أم غير ذلك. ويفصّل هذا الكتاب ما ذكره المصريون القدماء عن تصوراتهم للشر وفاعليه، والتمرد والقائمين به، والذنب ومقترفيه، والظلم ومرتكبيه، وعقوبة ذلك جميعا.