مؤسسة الوقف التي ظهرت في العالم الإسلامي كردة فعل من المجتمع المدني على انصراف الحاكم العسكري إلى جعل دولته دولة جباية عسكرية ولاشيء آخر, وإلى اعتبار الدولة أو الإمارة التي يحكمها ملكية خاصة, له الحق في التصرف بريعها كما يشاء, وهو بالمقابل ليس مطلوبا منه إلا الحماية العسكرية, والسؤال الذي سيلح: فأين مضت الدولة المصرية القديمة وبناة الأهرام والمعابد العملاقة, وأين مضت الدولتان السلوقية والبطلمية ورثة الاسكندربناة المكتبات العظيمة والمعابد الضخمة والمدارس التي نقلت إلينا وإلى معاصري المرحلة الشك الفلسفي في كل شيء, والتي كانت تعلم حب الحكمة" الفلسفة"وعلم الفلك ,واين المسارح التي كانت تقدم يوريبيدس وارستوفان, والمدن التي ما تزال تحمل أسماء معشوقاتهم الفاتنات اللاذقية وافاميا , وأسماء ملوكهم الفاتحين كالاسكندرية وانطاكيا, وأين مضى اللاتين بناة "الستراتوم "الطريق العظيم الذي يصل ما بين روما في ايطاليا المعاصرة وبصرى الشام الواقعة في حوران سورية المعاصرة, وكيف انحط الشرق ؟, بل ربما العالم مع تحلل الدول الكلاسيكية, وتسلط آسيا ممثلة بالفرس بداية, واستمرار الانحطاط مع العناصرالرعوية الطورانية حاملة الأسماء المتعددة, والتي لم تحترم قانونا إلا قانون الجباية, فهو المقدس الأكبر في العلاقة بين الغازي والمغزو المهزوم, فالدول والولايات والشعوب ليسوا إلا بدائل للقطعان التي كان هؤلاء الغزاة يرعونها مقدمين لها الحماية الممكنة من الذئاب المعتدية مغتصبة "غنمي" أو "إبلي" أو" خيولي"أو" رنتي", ولنا أن نتخيل شكل العلاقة بين الراعي "الحاكم الراعي" وبين " الرعية" الشعوب المقهورة عسكريا, وكلمة الرعية المتداولة حنى الآن لاتعني إلا حيوانات الرعي التي يحرسها ويحلبها الراعي, وتحضرني الآن شهادة أحد الحكام أوالقادة العسكريين أثناء تفكك الامبراطورية السلجوقية السريع, وكان اسمه طغتكين, وكان الامبراطور السلجوقي ألب أرسلان الذي سبقه بحوالي الثلث قرن والذي كان قد أحرز النصر الكبير على الامبراطورية البيزنطية, فدمر الجيوش البيزنطية الأكبرمن جيوشه بمراحل, وأسر الامبراطور البيزنطي رومانوس في معركة مانز يكرت أو ملاذ كرد, وكانت هذه المعركة الحجة الأوربية للبدء والتحضير للحروب الصليبية, فلقد رأوا إمكانية زوال الدولة البيزنطية معقل المسيحية في الشرق, ولكن هذه الامبراطورية السلجوقية التي امتدت من آسيا العميقة الصحراوية وحتى ساحل المتوسط الشامي سرعان ما تحللت, وتوازعها الأبناء والأحفاد, و القواد المغامرون في أقل من ربع قرن, واستجابت الشام إلى مزاجها الجغرافي في إنشاء دويلات المدن, فشكلوها, وهكذا حين وصل الصليبيون بعد أقل من خمسين سنة وجدوا الامبراطورية السلجوقية, وقد تمزقت إلى دويلات وإقطاعيات متناحرة متحاربة على المراعي والرعية, وهكذا حين تقدم طغتكين إلى المشهد وكان قد طرد على يد أجد الأقوياء, ثم استعاد مدينته المرعى ليجدها وقد نهبها السيد السابق, فلم تستطع الرعية تزويده بالمال الذي طلبه, فوقف فيهم صارخا : حقي ...أتأكلون حقي؟ !!ثم أخذ يهدد بالويل والثبور إن لم يجمعوا له حقه ولو بجوع الأطفال.
ولو رجعنا إلى الشهادة الأدبية عن ذلك العصر كما في رواية الف ليلة وليلة, وتساءلنا : ما المشكلة الأساسية التي كان سكان تلك الرواية يعانون منها ؟أهو فقدان الحريات الديموقراطية؟ ولكنهم للأسف لم يكونوا يشعرون أصلا بضياع ما لم يكن معروفا! أهو الفقر المدقع؟ , وكانت شريحة كبيرة جدا تعيش تحت خط الفقر بمراحل, ويكفي أن نذكر أنّ كاتبا عملاقا من كتاب العربية هو أبو حيان التوحيدي قد اضطر إلى العيش على حشائش الطرقات وإحراق كتبه لشدة فقره, والسؤال إذن هو: فما المشكل الأساس في حياة سكان الرواية, والتي ما تفتأ الرواية تتحدث وتشكو منه ؟ وبهدوء سنكتشف أنه فقدان الأمن على الطرقات, البرية منها والبحرية, وانتشار قطاع الطرق البرية, والقراصنة في البحر, ويقفز السؤال: فأين كانت ا لدولة المسؤولة قبل كل شيئ عن الأمن, ولتكتشف بمرارة أن الدولة لم تفكر في هذه الأمور التافهة...وكان ما يهمها من الطرقات هو سلامة وصول الخراج إليها دون أن يهاجمه قطاع الطرق, فيغلبون الحراس الكثيرين, وينهبون الخراج, فمهمة الحاكم الأولى والوحيدة هي الدفاع عن "بلاده", أو مملكته, ولنلاحظ الصلة اللغوية الشديدة بين الملكية بكسر الميم وتسكين اللام, وبين الملكية بفتح الميم واللام أي النظام الملكي, والقائم على أن الملك هو مالك كل شيء, وأذكر أناّ قي طفولتي كنا نتداول مثلا لم نكن نفهمه تماما ولذا كنا نستخدمه للتهريج حين كان أحدنا يحتج بأنه لايملك شيئا, فيقول الطيز طيزنا وا لأرض للسلطان, أي أنّا نحن من نعيش في بلاد السلطان لانملك إلا مؤخراتنا فقط, وقد أكملها أحدهم مرة يسخر : هذا إن ملكناها, هل كان هذا المثل متسربا من الزمن المملوكي والرعاة الآسيويين حين كان السلطان يملك الأرض وما عليها وما تحتها ؟ أم أنه تعبير اليأس في زمن الميليشيات العسكرية العثمانية, ثم الميليشيات البعثية وما أكثرها .
لم يكن الاسم المعاصر" الوطن "قد طرح في السوق بعد, فما يجمع بين الحاكم والمحكوم في أغلب الأحيان كان وحدة الرؤية الدينية أو المذهبية, والأنكى من هذا أن الحاكم إن قرر تغيير دينه أو مذهبه, فعلى المحكوم اللحاق بالحاكم وإلا فهو الموت والتعذيب كما حصل للفرس حين حكمهم اسماعيل الصفوي, وكانت فارس قبل الصفوي سنية حتى ذلك الحين ولكونها سنية, فقد أمر السفاح تيمور لنك بذبح أهل أصفهان, فقتل فيها كما يحدث المؤرخ المعاصرلتيمور لنك " ابن عرب شاه " ألف ألف رجل وامرأة, وطفلا رضيعا, أو...ربما يعمد الحاكم في أحسن الأحوال إلى طرد المخالفين من " مملكتي" أونفي من لا يدينون برؤيته المذهبية, وغالبا ما يقرر المنفي الهجرة إلى بلد يشاركه أهلها وحاكمها الرؤية الدينية أو المذهبية, فهذا هو الوطن!
وإذن , فكيف كان الناس يعيشون في ذلك الحين, وما المهام التي كان الحاكم يقوم بها حتى يحق له استنزاف أموال الناس من فلاحين, وحرفيين, وتجار صغار, فهو لم يكن ينشئ المدارس, ولم يكن يشق الطرقات, ولم يكن ينشئ المشافي, فإن فعل فإنما يفعله كرما وطيبة شخصيين لديه كما فعل الوزير نظام الملك وزير السلطان السلجوقي ملك شاه حين أمر بإنشاء المدارس التي ستسمى على اسمه حتى اليوم " النظامية", وإن حفر آبارا على طريق الحج حتى يشرب الحجاج في الصحراء المعطشة قام الكتاب والمؤرخون بالتطبيل والتزمير لهذا الكرم غير المسبوق كما هللوا وطبلوا لزبيدة زوج الرشيد حين حفرت الآبار على طريق الحج, فما المهام التي كان يقوم بها الحاكم ليستحق أموال الناس, وضرائبهم و...الغرامات التي كان يفرضها عليهم بين الحين والآخرإذن؟
كان النشاط الوحيد ااذي يمارسه المتنفذ أوالمستولي على المدينة هو النشاط الحربي, أو الدفاع عن المدينة ضد الغزاة والطامعين والمتنفذين الآخرين, ولنذكر أن المأ ثرة التي يكررها ويعيدها عبدة الأجداد عن الرشيد هوأنه "وهو الأهم بين الخلفاء العباسيين "كان قد شطر حياته إلى شطرين, فهو يغزو سنة, ويحج أخرى, وماذا عن بقية العمر؟ إنه للجواري والطرب وسماع المنافقين من الشعراء أي "وزارة الإعلام المعاصرة" مخلوطة "بمديرية الدعاية والأنباء" واللذين لاهم لهم إلا التغني بعظمة الحاكم, وتقاه, وذكائه, وهم يستخدمون كل مأثرة من هذه المآثر في موقعها فإذا بك أمام الرجل الكمال, ولكن ماذا عن تعليم الصبيان والبنات كما تفعل الدول المسؤولة حقا عن المواطنين, لا الرعايا, ماذا عن صحتهم وأمراضهم, أو الأوبئة التي يمكن أن تصيب البلاد جميعا ؟
الشيء الغريب في العلاقة بين الحكام والمتميزين من المحكومين هو الجملة المتداولة حتى يومنا هذا والقائلة : خزانة الحاكم هي جيوب الرعية, وكتب التاريخ والأدب حافلة بحكايات المصادرة التي يلجأ إليها الحاكم كلما ضاق به الحال, فغلاء الجواري المعلّمات والذي قد يصل إلى آلاف أو عشرات الألاف من الدنانير, وكثرة جوائز الشعراء المتغنين بشجاعة الحاكم وذكائه وحكمته, والغريب هو الحس بالشماتة الذي نلحظه لدى مؤرخي تلك المرحلة حين يعمد الحاكم أو الخليفة إلى إرخاء الحبل للوزير أو الكاتب ليرتشي ويرتشي حتى تثقله السمنة, وعندئذ يعمد الخليفة إلى مصادرته, ثم يسأل الوزير الخلف :بكم نصادره ؟ويرد الوزير الجديد بالمبلغ الذي الذي حددته له مخابراته لثروة الوزير أو الكاتب المقال, وعندئذ يسلمونه إلى الجلاد ليعترف عن مكان مخزوناته وخباياه, فتصادر لحساب خزانة الخليفة يشتري بها مزيدا من الجواري الشابات الفاتنات, ويبني القصور يزينها بالفاتنات والخصيان.
كانت مصادرات المتنفذين وكبار التجار هي الوسيلة التي يحكم الحاكم فيها السيطرة على ثروات المجتمع باستيلائه عليها, ولما لم يكن هناك من مصارف لحفظ المال, فقد لجأ الناس إلى إخفاء ما يملكون تحت البلاطة أو في الآبار, ولكن رجال السلطان كانوا أخبث وأقدر على العثور على الخبيئات والمكنوزات من الكانزين, وأخيرا وجد الفقهاء حلا لمصادرات السلطان لمواريث الأيتام التي فشت حتى صار المثل الذي يقال حين يذكر الملك الحلبي سيف الدولة الحمداني: من هلك, فلسيف الدولة ماملك!....وكان الوقف.
كان الإسلام المبكر قد لجأ إلى نظام الوقف للصالح العام, أي للفقراء والمساكين مستندين إلى الحديث النبوي :إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية, أوولد صالح يدعوله, أو علم ينتفع به .وقد اتفقوا على أن الصدقة الجارية هي الوقف كأن توقف ضيعة, أو بستانا, أو سوقا تجارية على أعمال الخيرمن نفقة مسجد, أو نفقة مدرسة, أو تكية يأكل من طعامها الفقراء, وأنا أذكر من طفولتي تكيتين كانتا تقدمان الطعام للفقراء, وأبناء السبيل, والمنقطعين في مدينتي دمشق, وهما التكية السليمانية, وجامع الشيخ محيي الدين بن عربي, وكانتا تقدمان الهريسة طعاما للفقراء ممن يرغب "والهريسة هي خروف أو أكثر, أو عجل أو أكثر يطبخ مع القمح لساعات حتى يتحول اللحم والقمح إلى عصيدة كانوا يسمونها بالهريسة" وبذا استطاع الأثرياء ضمان ألا يستقوي عليهم السلطان فيصادرهم, وأن تجري لهم حسنات الصدقة بعد موتهم, وهكذا فجرؤة حكام كسيف الدولة على أموال الأيتام وإرثهم جعل الفقهاء يبحثون عن حل ينقذ للأيتام ما يحفظ لهم كراماتهم, فكان الوقف الأهلي أي الوقف للأبناء والأحفاد بحيث لايجوعون ولا يتشرشحون بعد وفاة المورث, ليس هذا فحسب بل قصد الواقف أيضا أن ينقذ الورثة من إسراف شبابهم وانغماسهم في الملذات فيفلسوا, ولذا فقد حاول الحفاظ على كرامة ذريته من جور السلطان ومن جور ملذات الشباب.بتحويل أملاكه إلى وقف, فيضمن ألا يفتقر الأبناء بعد وفاة المورث .
وجاء حزب البعث , فكان ....أن حاول الاستفادة من نبل الأجيال السابقة في إيقاف البساتين والضياع على المشاريع الخيرية, وقال أشاوس الحزب: الدولة "أي رجالات البعث والمخابرات "أحق من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل, فاستولوا على الأوقاف بمعظمها بهذه الحجة أو تلك, ولنذكر الفضيحة التي قام بها رامي مخلوف حين قرر الاستيلاء على أرض معرض دمشق الدولي والتي كانت أرضا للملعب البلدي المحاذية لبردى, وهي أرض موقوفة منذ مئات السنين على الحيوانات المريضة أو العجوز حين تعجز عن العمل, أوتعجز عن جر العربات, أو حمل الناس حين كانت الوسيلة الوحيدة للتنقل, فقرر الواقف أن يوقف هذه الأرض لترتاح بها الحيوانات " المتقاعدة " بدلا من تركها تتعفن في عجز الشيخوخة, أو تقتل للتخلص من نفقات عجزها, فقدم لها المرج تأكل منه ماتشاء, وتشرب من بردى المجاور حتى تموت في سلام, و في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين وكانت سورية بريئة لم تأثم بتسلط العسكربعد,ولم يتنطح حزب البعث لقيادتها بعد, وكان من المقرر إنشاء معرض دمشق الدولي لتنشيط الصناعة والتجارة في سورية, ولم يجدوا مكانا خاليا ومناسبا للمعرض إلا أرض الوقف هذه, وفعرضوا ذلك على الرئيس الأسبق شكري القوتلي, فرفض الاعتداء على الوقف إلا بأجر المثل, واستأجرته مديرية المعرض من وزارة الأوقاف بعقد سنوي قابل للتجدد إلى أن .....انفتحت شهية رامي مخلوف التي لاتشبع, فعمد إلى نقل المعرض إلى خارج دمشق حتى إذا ما شغر المرج الموقوف على الحيوانات العجوز والمريضة تقدم لاستئجاره لمدة بسيطة هي تسع وتسعون سنة فقط!!!, وكانت هذه هي نهاية الوقف!
[email protected] خيري الذهبي