خالد خليفة: اللاجئ ، عيش في الفراغ
ألف
2019-02-16
تخبرني أختي التي لم أرها منذ أكثر من سنيتن بأنها ستعبر البحر في قارب مطاطي، تغلق الهاتف ولا تريد سماع رأيي، اكتفت بكلمات عاطفية عميقة، وأوصت بأبنائها الثلاثة في حال غرقها، وبعد دقائق حاولت الاتصال بالرقم التركي الغريب لكنه كان مغلقاً. تداعت إلى ذاكرتي مئات من صور طفولتنا، ليس سهلاً وداع نصف قرن من عمرك، وانتظار غرق من تحبهم. شعرت بأطرافي باردة، ورأسي فارغ، ولا قدرة لي على النقاش أصلاً، ماذا تستطيع أن تقدم لامرأة خسرت منزلها وكل ما تملك، ولا تريد خسارة أبنائها، فحملتهم في رحلة شتات في المدن التركية باحثة عن مأوى آمن، والوضع في تركيا لم يكن سهلاً لامرأة مثلها تشبه ملايين السوريات ولا تملك مهارات خاصة، لم يبق سوى أمل اللجوء حتى لو كان يقتضي ذلك عبور البحر في قوارب مطاطية، كأنها تعلمني ما أعرفه بأنه لا أمل للسوريين سوى البحر.
قد تكون أختي محظوظة، لم تغرق، ووجدت من يساعدها من أصدقائنا في اليونان، وباقي المدن التي عبرتها، لكنها بالتأكيد لن تتحدث عن القصص المؤلمة التي عاشتها مع مهربين نهبوا أموالها القليلة، وتركوها فريسة للضياع على أرصفة المطارات، لكنها في النهاية وصلت إلى هدفها أخيراً ووجدت في الدانمرك مجموعة من أصدقائها قدمت لها يد العون، بينما باقي المغامرين غرقوا في لحظة لا يمكن تخيل مرارتها، قد يكون للموت ألواناً كثيرة لكن أكثرها دكنة وسواداً الموت غرقاً، إنه ضياع كامل لمعنى الجسد البشري، أن تتحول إلى طعام لأسماك البحر، وتذوب كملح في حوض ماء.
في الأيام التالية تلقيت الاتصالات نفسها من أخي الأصغر، الذي خرج من منزله في حلب إلى مرسين، حيث ترك عائلته، وركب البحر وحيداً في رحلة شاقة امتدت إلى اليونان ثم إيطاليا ليصل أخيراً إلى السويد، ولم تتوقف الاتصالات نفسها من أقرباء مقربين كأبناء أخواتي وأخوتي وأصدقاء يخبرونني فيها بأنهم في الطريق إلى البحر، لم أعد أسأل عن تفاصيل الرحلة أو نقاشهم، أتمنى لهم السلامة ورجاء طمأنتنا عن سلامتهم، مئات الآلاف من السوريين يفكرون في الطريقة ذاتها، وعلى المقاهي في المدن التركية يتبادلون أرقام المهربين، والمعلومات عن أفضل الطرق، ويكتبون ذلك علناً على الفيس بوك وعبر المجموعات المفتوحة والمغلقة، لقد اصبح الحديث علنياً.
أذكر في صيف 2015 سافرت من دمشق إلى اسطنبول عبر مطار بيروت، وأثار إنتباهي نوعية الركاب الذين ينتمون جميعهم إلى شكل واحد تقريباً، ، مجموعة كبيرة من الشباب لم يتجاوزوا العشرين من عمرهم، ومجموعة نساء وحيدات مع أولادهن، بدوا لي بأنهم رفاق طفولة أو أقرباء، واضح من أسئلتهم بأنهم يسافرون للمرة الأولى خارج الحدود، بعد مغادرة الطائرة مطار دمشق تنفسوا الصعداء، وبدأوا يتحدثون بصوت عال عن الخطط المقبلة، إنهم مسافرون إلى استنبول ثم سيتجهون في طيارة أخرى إلى أقرب مدينة من الحدود اليونانية، أغلب هؤلاء الشباب كانوا هاربين من الخدمة العسكرية، ويتمتعون برفاهية ركوب الطائرة للمرة الأولى، ويبدو أمرهم معداً بشكل مسبق، لاحظت وجود رجل أربعيني زودهم بالتعليمات الضرورية بعد إقلاع الطائرة من مطار دمشق إلى مطار بيروت، وفي ترانزيت مطار بيروت تكرر الأمر نفسه، وكانت النسوة يتلقين التعليمات نفسها، فكرت في هؤلاء اليافعين الذين لم يبق لديهم أي أمل في الخلاص سوى ركوب البحر، الأمر لم يكن غريباً عني لكنه طريف رغم ألمه الشديد، أن تختار مجموعة أصدقاء الهجرة بشكل جماعي، تذكرت أحلامنا حين كنا صغاراً نتواعد كمجموعة أصدقاء على الإخلاص الأبدي، ونخطط لحياتنا بشكل جماعي، وهؤلاء الشباب قرروا العيش معاً أو الموت معاً، عيونهم تشي بالخوف لكنهم كجماعة كانوا أكثر شجاعة، تأملتهم في بحثهم عن المؤازرة في مواجهة الوحش المقبل.
لقد غادر أغلب اصدقائي البلاد، وأصبحوا لاجئين، ولم يبق لي سوى البحث عن أسماء المفقودين والغرقى، ومتابعة عناوين رفاقي الجديدة. كلما غرق مركب أجدني أدور كالمجنون في مكاني، وأبحث عن أية معلومة، عن قوائم الأشخاص الغرقى وعن أي معلومة عنهم، مدنهم، قراهم، أسماء عائلاتهم، صورهم، وفي ذلك العام 2015 أستعدت نفس هستيريا البحث عن وجوه أصدقائي المعتقلين في صور الموتى المسربة من سجون النظام، والتي عرفت بإسم صور القيصر، أدقق في الوجوه الغائبة، لدي عشرات الأصدقاء المفقودين الذين لانعرف أي شيء عنهم، لا خبر، لا رسالة شفوية، لا أحد رآهم أو يمتلك أية معلومة عنهم، أدقق في الصور، وحين ينتابني الشك أحاول تذكر باقي التفاصيل، شامة على الخد، جرح في الركبة، لكن أيضاً لا جدوى، البحث عن الغرقى أو الموتى وانتظار عودة المعتقلين فعل عبث لا يضاهيه سوى فعل العيش في مدن تنتظر دورها في التدمير.
لم تتوقف أسراب المغادرين، إلى درجة بأننا في عامي 2013 و2014 كنا ننظم حفلات وداع جماعية لأصدقائنا الذين سيتركوننا إلى المجهول، لم نعد لنقاش الخيارات، أو تقديم خبراتنا في المدن التي نعرفها، أصبح الخروج من البلاد وباءاً اجتاح حياتنا، بدأت الأمكنة تفرغ من روادها، كل شيء يتغير بسرعة شديدة، شوارع المدينة أصبحت خاوية، والنوافذ مطفأة الأضواء، والهواتف لا تجيب، كل شيء ينذر بكارثة مقبلة، يتحسسها الجميع، أصبحت أعاني من فقدان عميق لأصدقائي، لكن لا جدوى، أنا ومن تبقى في الداخل منشغلين بالحفاظ على حياتنا، لم نعد نفكر بمن سيرحل، بل تحول السؤال إلى متى سترحل؟، أو أمازلت هنا؟ لأول مرة نشعر بطعم الفراق الجماعي.
في بادئ الأمر لم أكن أصدق بأنهم لن يعودوا جميعاً، كنت أعتقد بأن خروجهم سيكون مؤقتاً لكنني الآن بعد هذه السنوات رتبت حياتي على غيابهم، لقد امتلأت مساحة الفراغ الذي تركوه بفراغ آخر، لم أعد أفكر في صورتهم الجديدة، إذا لايمكن لأحد مثلي يعيش طوال الوقت مع شخصيات يخترعها على الورق، ويمجد الخيال، ان يشعر بالعجز، إلى درجة بأنني ازددت تمسكاً في حياتي هنا، بدأت أخاف من عدوى وباء النزوح التي تفشت مع اليأس الذي أراه كل صباح في وجوه الناس، أسأل نفسي لو دمر بيتي هل سأبقى هنا، لاأعرف جواباً لكنني في الآونة الأخيرة بدأت أتأقلم مع الفكرة، نعم سأبقى، ولكن لماذا؟، لاأعرف الجواب، أو أخجل من حقيقة أنني أريد التشبث في المكان الذي أعرف رائحته جيداً، إنها في النهاية أوهام كاتب وحيد، لم يعد لديه مايخسره بعد تأمل طويل لخسارات شعب حاول أن يستعيد بلده فخسره بالكامل، كأن ضريبة استعادته لحريته وكرامته مقابل كل حجر وكل ركن وكل شجرة، لايمكن للسوريين إذن إستعادة بلدهم من أنياب الديكتاتورية التي عاشوا خمسن عاماً في ظلها، وأبدعوا طرقاً لامتناهية لمقاومتها، للتعايش مع صدئها، أقلها الصمت، والإنتظار، مدافعين عن ثقافة مدنية عمرها آلاف السنين.
في السنوات الماضية تلقيت دعوات كثيرة وسافرت عبر العالم، والتقيت سوريين مهاجرين منذ سنوات طويلة، تأملت حياتهم وأيقنت بأن اللاجئ يخسر هويته لكنه لايكتسب هوية جديدة، وكانت فكرة التخلي عن مجموعة عادات صغيرة تشكل سعادة شخصية بالنسبة لي شيء غير محتمل، أفكر بقهوتي الصباحية في منزلي، أو في المقهى مع أصدقائي قبل الذهاب الى العمل، الثرثرة، روائح المدينة، العشاءات، روائح المطر في الخريف، كل هذه الأشياء كان أصدقائي اللاجئون الجدد يقدسونها، لكنهم تخلوا عنها، وفي الأشهر الأخيرة بدأت هواتفنا ورسائلنا عبر الفايس بوك والايميل تتباعد. لم يعد هطول أول مطر في دمشق مهرجان حنين يشارك فيه مئات آلاف اللاجئين في العالم، لقد تباعدت لحظاتنا، ولم نتحدث كثيراً عن مشاكل الاندماج مع ثقافة غريبة، عن فكرة بدء التخلي عن الهوية الأصلية، أتفهم إحباطهم، ومدى الصعوبات التي يعانونها، لكنني في الوقت نفسه أتفهم خوفهم علينا، نحن من إخترنا البقاء هنا والحرب تتربص بنا في كل الزوايا.
لم أتخلى عن عاطفتي، ولاأريد التحدث كباحث سوسيولوجي لأن البحث في موضوع اللاجئين السوريين له مايميزه عن باقي اللاجئين، تعدد الثقافات وطبقات اللاجئين تجعل هذا الأمر يحتاج إلى مئات الصفحات، أريد هنا تقديم صور للاجئين خسرناهم، ونتمنى أن يكسبهم العالم لكنني لست متأكداً، التخلي عن الهوية يشبه إقتلاع القلب من الجسد، أفكر في عائلات صديقة هاجرت بأكملها، رن هاتفي مراراً، وحدثني أب صديق لاجئ تجاوز السبعين من عمره وهو يبكي، يريد أن يتحدث مع أحد يفهم لغته فقط، ويفهم أسرار اللغة ويستمع إلى نكتة في لغته العامية العميقة، ويضحك من القلب. الضحك من القلب، إنها صورة الحياة التي يحب البشر أن يحيوها، واللاجئ عموماً لايمتلك هذا الحظ حاصة في سنوات لجوئه الأولى، لكن ذلك الرنين توقف، لقد غرق الجميع في ثقب اللجوء الأسود.
في البداية كانوا مئات، ثم آلاف، ثم مئات الآلاف والآن ملايين اللاجئين، ترعبني بعض الصور القادمة من بلدان لاترحب باللاجئين، ترعبني صور النازيين وهم يهددون اللاجئين، ترعبني اللافتات المعلقة في بعض البلدات اللبنانية التي تحظر على السورين التجول بعد السادسة مساءاً، وبعض اللافتات التي تشتم اللاجئين علناً، ترعبني تلك الصحفية المجرية التي ركلت رجلاً سورياً يحمل طفله في طريق هروبه من حرب لم يخترها، ورغم ذلك منحت تلك الصحفية جائزة في الأيام الأخيرة، ترعبني تلك الصورة حين تمنح جائزة لمن يركل أبناء شعبي، أفكر في هؤلاء البشر الذين أدعي معرفتهم، افكر في آلامهم، لكنني في الوقت نفسه يصيبني الإرهاق ولاأستطيع فهم مايحدث، لاأريد الاستسلام لفكرة بأننا سنستيقظ ذات يوم لنجد المدينة فارغة، لابشر، ولابيوت مضاءة، ولاسيارات، وإذا سألنا ببساطة سنكتشف بأن الجميع ساهم في تحويلنا إلى مجتمع من اللاجئين.
تبدو الصورة غائمة وغير مفهومة لأشخاص لم يقابلوا سوريين من قبل، أو لم يعرفوا شيئاً عن تاريخ سوريا الحديث والقديم، في المئة سنة الماضية استقبل السوريون مجموعات كبيرة من اللاجئين والنازحين والهاربين من الموت. في بدايات القرن الماضي استقبل السوريون الأرمن والشيشان والألبان الهاربين من المذابح والحروب، وفيما بعد أستقبلوا أكثر من نصف مليون فلسطيني بعد نكبة عام 1948 وحرب حزيران عام 1967، وذروة إستقبال أكثر من ثلاثة ملايين نازح عراقي كانت في عام 2003 بعد إحتلال بغداد من قبل الأمريكان وسقوطها، وفي حرب تموز عام 2006 استقبل السوريون مئات آلاف اللبنانيين، ولم يغلقوا حدودهم يوماً في وجه لاجئ، منذ بداية القرن العشرين ولن نتحدث عن الهجرات القديمة التي جعلت من سوريا بلد جذب للاجئين، وأستوطنتها الكثير من الشعوب التي إختارتها وطناً أبدياً لها.
كما كانت سوريا طوال عمرها خلال القرن الماضي بلد مصدر للمهاجرين وليس للاجئين، فالهجرات الكبيرة في بدايات القرن العشرين ونهاية القرن التاسع عشر تشهد على تدفق مئات آلاف السوريين إلى الولايات المتحدة الامريكية وبلدان أمريكا اللاتينية، وهؤلاء المهاجرون سجلوا نجاحات مشهودة لأقوام مهاجرة، والإحصائية الأخيرة التي كانت متداولة في عام 2006 تتحدث عن عشرين مليون شخص من أصل سوري في العالم، أغلبهم في الأرجنتين والبرازيل، لكن الظروف التي أجبرت أولئك المهاجرين على ترك بلدانهم مختلفة تماماً عن لاجئي اليوم الذين عددهم سيكسر حاجز السبع ملايين شخص، يعيش أغلبهم في مخيمات الأردن ولبنان ظروف بؤس وحرمان لايمكن تخيلها، واللاجئون في المخيمات التركية حتى لو بدت صورتهم أفضل إلا أن حجم المشاكل التي يعانونها لايمكن السكوت عنها، خاصة الأمر الذي يخص تعليم الأطفال، إذا أن جيلا كاملاً من السوريين سيحرمون من التعليم، ويبقى الوضع أفضل مع باقي المحظوظين الذين لم تغرق مراكبهم واستطاعوا الوصول إلى بلدان أوربية متعاطفة مع اللاجئين كألمانيا وفرنسا مثلا.
لكن بشكل عام الكتلة الرئيسية من اللاجئين التي تعيش في مخيم كالزعتري في الأردن مثلاً لايمكن تصور سوء وضعهم، وحرمانهم من أبسط حقوق الإنسان، إضافة إلى التهديد الدائم من إغلاق الحدود في وجه باقي الفارين من الحرب المستمرة.
لكن أيضاً يجب الإشارة إلى أن سوريا خلال الخمسين سنة الماضية كانت بلد طارد لأبنائه، فالقمع الشديد الذي فرضه النظام، والحرمان من أبسط الحقوق الرئيسية للإنسان حولت سوريا خلال الخمسين سنة الماضية في ظل حكم الأسد وإبنه إلى مملكة للخوف والهلع، والنزيف الدائم لمواهب أبنائها، مئات الآلاف من السوريين يعيشون في دول الخليج، وملايين السوريين يكملون دراستهم في الدول الاوربية وأميركا ويكملون حياتهم هناك، وإذا قرأنا الإحصائيات سنفاجئ بأرقم مرعبة لبلد صغير كسوريا ” 185 ألف كيلو متر مربع / 24 مليون نسمة قبل 2011″ هناك من يتحدث عن عشرة آلاف طبيب سوري في فرنسا وحدها، كما يتحدثون عن الرقم نفسه في الولايات المتحدة، وبلدان أخرى، ولم يكتف النظام بتهجير هذه المواهب العلمية بل لاحقهم إلى منافيهم ومنع تجمعهم، زرع الشك في بينهم، هددهم بأهلهم المقيمين في الداخل وبحرمانهم من زيارة بلدهم الأم، مما شرذم جهود السوريين المتواصلة ليتعارفوا ويشكلوا لوبي ضغط في البلدان التي يعيشون فيها، وكانت صور المهاجرين والمنفيين من السوريين دوماً مثيرة للشفقة، بين شعوب أخرى عاشت التجارب نفسها ولكن تمالكت نفسها وساندت بعضها البعض وساهمت في نشر ثقافتها الأصلية، ويمكن مقارنة تجربة الأرجنتين بالتجربة السورية مثلاً لإكتشاف كم كان منفى السوري أيضاً صعباً وضيقاً رغم الفضاء الواسع للبلدان التي عاشوا فيها.
والشيء الذي لم يستطع السوريون فهمه حتى الآن هو تحولهم من شعب مستقبل للاجئين إلى لاجئين يعانون المرارة في كل مكان يذهبون اليه، تغلق الحدود في وجوههم، ويدقق في تفاصيل ثيابهم وخطوط أيديهم وقلوبهم، لكن المتأمل لهذا المهرجان الفظيع سيكتشف بأن العالم الذي تخلى عن السوريين بل وبارك ذبحهم وقتلهم وغرقهم، هذا العالم دوما يجد سبباً للتعاطف في صورة الطفل إيلان التي هزت العالم لأيام ثم طويت كما طويت البحث في أسباب مآساتهم وإيقافها، سيجري البحث بين الحين والآخر عن صورة مماثلة، يقدم فيها العالم لحظات قليلة من التعاطف مع شعب يعيش تحت القصف الروسي وقصف طائرات النظام الذي لم يهدأ منذ خمس سنوات، دون أن يفكروا جدياً بإيقاف هذا النزيف المتواصل، القصة أشبه ماتكون بقصة ” موت معلن ” إلا أن تحويل شعب بأكمله إلى لاجئين يبدو هو الهدف الخفي لعدم إيقاف هذا الحرب بل ودعم استمرارها عبر خلق أعداء جاهزين لإقناع قطاعات كبيرة من الجمهور الأوروبي والأمريكي وباقي دول العالم بصعوبة حل المسألة، وليس خلق داعش إلا دلالة فظيعة على التخلي عن الواجب الأخلاقي لدعم الشعوب في سعيها نحو الحرية والديمقراطية.
رغم أن الثقافة الاوربية والحداثة قامت على السؤال كفعل رئيسي، إلا أن السؤال هنا أصبح محرماً، لم يسأل أحد من خلق تنظيم فاشي ورهيب ومجرم كداعش، من موله، من سهل إحتلاله لمدن بأكملها، من الذي تغاضى عن أسرابه وقطعانه التي تقطع الصحارى بين مدينة الرقة السورية والموصل العراقية، بانتظام تسير سيارات هذا التنظيم وفي قوافل طويلة، تتصرف كدولة لها كيان يقوم العالم بإحترام سيادتها. عدم توجيه هذه الأسئلة اليوم وبشكل جدي سيدمر كل قيم المدنية التي دافعت عنها البشرية ودفعت أثماناً هائلة لترسيخها، وأقصد قيم العدالة والمحاسبة على جرائم الحرب، والديمقراطية وحق تقرير المصير. وهذا ماحدث، لقد تخلت البشرية عن كل قيمها، هناك الآن غول رهيب إسمه داعش يجري الحديث طوال الوقت عن تدميره، وصعوبة هذا التدمير، وهو أحد أسباب تدفق ملايين اللاجئين، وإفراغ بلدان بأكملها من سكانها الأصليين، ومن الممكن في القريب العاجل يصبح فكرة إحلال إثنيات وقوميات وطوائف مكان طوائف وإثنيات أخرى عملاً مقبولاً أو ثمناً لإيقاف الحرب وسفك دماء الأبرياء من المدنيين، دون الحديث عن دور النظام وحلفائه.
القضية في سوريا ليست قضية لاجئين، بل قضية شعب بأكمله يجري تحويله إلى قتلى أو لاجئين، والصمت الذي يعم العالم ومجموعة الأكاذيب التي يتداولها رؤوساء الدول خاصة الغربية عن ضرورة حماية المدنيين وعدم إفراغ السكان الأصليين من مدنهم وقراهم تشبه تلك البيانات التي كانت تصدر دوماً لراحة ضمير من يصدرها ويتبناها دون أن يقوم فعلا بممارسة دوره الفاعل والقادر فعلا على ايقاف الحرب وإحالة المجرمين الى العدالة الدولية.
لايمكن للصور أن تتلاشى بسهولة، كما لايمكن لي الإكتفاء بلقاء أولئك الاصدقاء الذين خسرت حين أزور مدنهم الجديدة، مازلت أذكر أثناء وجودي في أوسلو عام 2013، دخلت صديقة لاجئة إلى مكان ندوتي، لم تحتمل فبكت بمرارة طوال وقت الندوة، وأنا ايضاُ لم أحتمل رؤية دموعها، توقفت الندوة لدقائق ولكن من الصعب شرح الرسائل المتبادلة بيننا، كما من الصعب شرح مرارة التهجير التي تعني إقتلاع شخص من مكانه. لم يختر الكثيرون حياتهم الجديدة لكنهم اضطروا اليها، والأغلبية ستعيش على المساعدات المقدمة في بلدان اللجوء، والكثيرون سيعيشون من أجل تربية جيل جديد صالح ومتأقلم مع حياته الجديدة، وفي الوقت نفسه لايعرف معنى الحياة القديمة التي عاشها أبائهم وأمهاتهم، حياتان ستتجاوران ولن تندمجا مهما حاولتا الاندماج، ولن تنتهي القصة حتى يموت كل الشهود، حتى يموت الأباء والاجداد، ليعيش الأطفال اللاجئين في سلام في بيئتهم الجديدة، مستمتعين في الانتماء إلى هويتهم المكتسبة، لكن حتى يموت هؤلاء الشهود يجب أن نتخيل حبل الألم الذي سيمتد من برلين وباقي المدن الالمانية والفرنسية والتركية والاسكندنافية الى مدن وحارات سوريا جميعها.
الآن حصل أخي على حق لم شمل أسرته، وهو لا يخفي سعادته لانتهاء ألم الفراق، ويتعلم السويدية التي أشك بأنه سيتعلمها وهو يقترب من عامه الخمسين، وأختي تتعلم اللغة الدانمركية وفي أفضل الأحوال ستتعلم عشرات الجمل التي تعينها على شراء باقات البقدونس لصنع أطباق التبولة التي تبرع بصناعتها، وشرح ذلك لجيرانها الذين لن يزوروها، ولن يسألوا عنها في حال ماتت وحيدة، لن يثير ذلك اي شيء، بينما في ثقافتنا يعني العار لكل العائلة التي تركت أحداً من افرادها يموت وحيداً.
وباقي أصدقائي يحاولون بشتى الطرق طمأنتنا بأنهم في منافيهم الجديدة سعداء، بينما الباقون هنا يتساقطون فرداً فرداً، عائلة .. عائلة إلى درجة بأن فكرة المدينة الفارغة قد تصبح حقيقة بعد عدد قليل من السنوات، رغم يقني بأن اللاجئ شخص منزوع الهوية تماماً، لن يستطيع الحصول على هوية جديدة ولن يستطع نسيان هويته القديمة، إنه عيش في الفراغ. لكنه عيش وحياة مؤلمة مهما حاولنا تجميلها.