1- إطلالة على الفلسفة الصينية
ألف
2019-03-02
بين الفلسفة والدين:
إذا كانت آيات القرآن الكريم أول ما يتعلمه التلاميذ المسلمون بعد حروف الهجاء، فقد كانت الفلسفة أول ما يتعلمه التلاميذ الصينيون بعد الرموز الكتابية الصينية، وكانت الكتب الكونفوشية الأربعة هي المقررات الدراسية الأولى الموضوعة بين أيديهم. وإذا كان التلميذ المسلم يتعلم تجويد آيات الكتاب بعد تعلم قراءتها، فقد كان لدى التلاميذ الصينيون كتيباً للتجويد أيضاً، يتكون من جملٍ مختارة من الكتب الكونفوشية، تتألف كل جملةٍ من ثلاثة رموزٍ كتابية تم اختيارها بطريقةٍ تجعل قراءتها تُـحدث إيقاعاً موسيقياً يساعد على حفظها. وإذا كانت الجملة الافتتاحية في كتاب القرآن تقول: "الحمد لله رب العالمين"، فإن الجملة الافتتاحية في كتيب التجويد الصيني تقول: "إن الطبيعة الأصلية للإنسان خيّـرة". أي إن الجملة الافتتاحية في التعليم الإسلامي تضع قارءها في لبّ الدين، أما الجملة الافتتاحية في التعليم الصيني فتضع قارءها في لبّ الفلسفة.
إن الدور الذي لعبته الفلسفة في الثقافة الصينية، يعادل الدور الذي لعبه الدين في الثقافة الأوروبية والشرق أوسطية. ولعل هذا ما دفع البعض إلى اعتبار الكونفوشية (وهي الفلسفة الأكثر تأثيراً على الثقافة الصينية) ديناً. ولكن الكونفوشية في واقع الحال ليست ديناً، شأنها في ذلك شأن فلسفة أفلاطون أو أرسطو أو حتى أفلوطين الاسكندري الذي كانت الإلهيات محور تفكيره. وعلى الرغم من أن الكتب الكونفوشية الأربعة كانت بمثابة إنجيلٍ للصينيين، إلا أن أياً منها لم يبشـر بإلهٍ أعلى خالقٍ للسماء والأرض، ولم يحتوِ على قصةٍ للخلق والتكوين، أو على تصوراتٍ آخروية عن نهاية العالم ويوم الحساب، وعن الجنة والجحيم.
إن الدين والفلسفة يتفقان في أن جوهرهما يقوم على التفكير المنهجي المنظم في شؤون الإنسان والحياة والكون. وهذا يعني أن في كل دينٍ شيءٌ من الفلسفة ولكن العكس ليس كذلك، لأن الفلسفة تفتقد إلى الأساطير والعقائد والعبادات التي تميز الدين. فهي بالدرجة الأولى أفكار، وهذه الأفكار لا تنتظم في إيديولوجيا ودوغما كما هو حال الأفكار الدينية.
ولهذا فإن الرأي الشائع الذي يقول إن في الصين ثلاثة أديان هي الكونفوشية والتاوية والبوذية، هو من قبيل تبسيط الأمور. فالكونفوشية ليست بالتأكيد ديناً، أما فيما يتعلق بالتاوية، فعلينا التمييز بين التاوية الفلسفية، أي تاوية المعلم الأول لاو تسو ومن بعده المعلم الثاني تشوانغ تسو، والتاوية الطقسية التي تحمل ملامح الدين، والتي نشأت بعد لاو تسو بعدة قرون وادعت الانتساب إلى لاو تسو على الرغم من الفوارق الجذرية بينهما. فالتاوية الفلسفية تقوم على مبدأ التوافق مع صيرورة الطبيعة، أما التاوية الطقسية فتعمل أحياناً على معاكسة الطبيعة. والمثال على ذلك أن لاو تسو يرى أن تناوب الحياة والموت هو قانونٌ طبيعي، وأن على الإنسان أن يقبل الموت مثلما قـبل الحياة، أما التاوية الطقسية فقد ابتكرت تقنيات من شأنها إطالة العمر وطمحت إلى تفادي الموت.
وفيما يتعلق بالبوذية، فقد تبـدّت في صيغتين صيغة فلسفية وصيغة دينية، وكانت الصيغة الفلسفية هي ما يراه المثقف الصيني في البوذية. ولهذا فقد كان من المألوف رؤية كاهنٍ تاوي وكاهنٍ بوذي يقومان بطقوس الجنازة لإحدى الأسر، ولا يجد أحدٌ في ذلك غضاضة، لأن الصيني بشكلٍ عام يأخذ دينه فلسفياً، إذا كان ذا دين. فالصينيون أقل الشعوب اهتماماً بالدين، وعبر تاريخهم كانت الفلسفات الأخلاقية هي أساس حياتهم الروحية، ومن خلال الفلسفة كانوا يُـرضون ذلك السعي الإنساني إلى السمو فوق مجريات العالم المادي.
ونحن إذا عدنا إلى ما قبل القرن السادس ق.م الذي أخذت فيه المدارس الفلسفية المختلفة بالتوضح، نجد أن الديانة الصينية التقليدية لم تأخذ مفهوم الألوهة المفارقة للعالم بشكلٍ جدي، ولم يكن لديها تصورٌ واضح عن إلهٍ يتربع على عرش الكون ويتحكم فيه عن بُـعد. وعلى الرغم من أن الميثولوجيا الصينية حافلة بالآلهة من شتى الاختصاصات، إلا أن هؤلاء لم يكونوا في حقيقة الأمر إلا أسلافاً أسطوريين جرى رفعهم إلى مرتبة الآلهة. وتُـظهر السِـير المتداولة عن حياتهم كيف ابتدأ أمرهم كرجالٍ صالحين على الأرض قـدَّموا خدماتٍ جلـى لمجتمعهم، وكيف تم تأليههم وعبادتهم فيما بعد. ومما يلفت النظر في أمر الآلهة الصينية أنها لا تتمتع بشخصياتٍ واضحة ووظائف دائمة، وهي تبدو لنا مثل كياناتٍ شبحية تكتسب قوتها من قوة المنصب الذي تشغله. ذلك أن الوظيفة الإلهية هي الثابتة، أما شاغلوها فمتبدلون. ففي كل إقليمٍ من الأقاليم الصينية يجري توزيع الوظائف والاختصاصات الإلهية بشكلٍ مختلف عن الإقليم الآخر، وقد يجري في إقليمٍ معين رفع إلهٍ إلى أعلى من مرتبته في إقليمٍ آخر، أو تخفيض مرتبته، أو حتى صرفه من الخدمة إذا فشل في مهمته، كأن يفشل إله المطر في إنزاله لسنواتٍ عديدة ويغدو لابد من إعفائه من منصبه والبحث عن بديلٍ له. وقد عبَّـر الفيلسوف منشيوس عن هذا الموقف الصيني من الآلهة في كتابه المعروف باسمه حيث قال: "إذا كانت حيوانات القربان في صحةٍ جيدة، وحبوب القربان نقية، وجرى تقديم القرابين لآلهة الأرض والحبوب في وقتها، ومع ذلك فشلت في منع الجفاف والفيضانات، فإنها تُـستبدل." (منشيوس 14:14).
أما المصدر الحقيقي لقوة الآلهة، فهو مفهومٌ تجريدي عن الألوهة يتمثل في قوة السماء المدعوة تي يين، التي جرى تصورها كقوةٍ تشغل الجهة العليا من قبة السماء. وهي قوة غير مشخصة لا تتمثل في شخصيةٍ إلهيةٍ معينة، ولا تتصل بالبشر عن طريق رُسـلٍ يشرحون مقاصدها، فإذا أراد الناس التواصل معها ومعرفة مقاصدها عمدوا إلى تقنيات الاستخارة والتنجيم والعرافة. فإذا تجردت قوة السماء حتى من القبة الزرقاء التي اعتُـبرت مظهرها المرئي، فإنها تلتقي مع مفهوم التاو الذي لعب الدور الأهم في تاريخ الفكر الديني والفلسفي الصيني. وهذا المفهوم لا يتطابق مع أي مفهومٍ نعرفه مع الألوهة المفارقة الخالقة للعام والمتحكمة به، بل هو الخميرة الفاعلة في العمليات الجارية على مستوى الكون والطبيعة من الداخل لا من الخارج. فهذه العمليات لا تتطلب عنصراً خارجياً يدفعها، بل إنها تعمل وفق تلقائية شمولية يتبادل من خلالها كل عناصر الوجود الأثر والتأثير في سلسلةٍ مترابطة لا يوجد فيها علة ومعلول.
ولقد كانت قوة السماء ركيزة الميتافيزيك الكونفوشي، أما التاو فقد كان ركيزة الميتافيزيك التاوي.
أسلوب التعبير في الفلسفة الصينية:
تختلف الفلسفة الصينية عن الفلسفة اليونانية وربيبتها العربية في طريقة الفلاسفة الصينيين في التعبير عن أنفسهم. ففي مقابل النص المطرد الذي يستخدم الجدل والبرهان وينتقل من المقدمات إلى نتائجها، عند الفيلسوف اليوناني، فإن الفيلسوف الصيني يعمد إلى صياغة أقوالٍ موجزة بكلماتٍ قليلة، وهذه الأقوال تـتتابع في نصه دونما رابطٍ ووحدة في الموضوع. نقرأ في كتاب الحوار لكونفوشيوس، الباب الثاني:
إذا حكمتَ بقوة فضيلتك، تغدو مثل نجم القطب الذي يبقى ثابتاً وكل النجوم تتحرك حوله.
هنالك جملةٌ واحدة تلخص فحوى القصائد الثلاثمئة التي يتضمنها كتاب القصائد وهي: أبعِـدْ عن ذهنك الأفكار السيئة.
أما كتاب التاو تي تشينغ فلا يتجاوز عدد كلماته الخمسة آلاف، أي بطول مقالةٍ عصرية في مجلة، ومع ذلك فقد ضمَّ بين دفتيه فلسفة لاو تسو بكاملها. وفيه نقرأ مقاطع مثل:
التاو فارغ ولا ينضبه النضح منه.
لا يُـسبر غوره، منشأ الآلاف المؤلفة (من مظاهر الطبيعة).
الفصل 4
عندما يرفع الطرفان السلاح في وجه بعضهما
الطرف الرابح هو الذي يدخل الحرب بأسى وحزن.
الفصل 69
عندما تكون واعياً لعيوبك تتحرر منها.
الحكيم بلا عيوب لأنه يعيها.
الفصل 71
إن الفيلسوف الصيني من خلال تعبيره عن أفكاره بأسلوب الحِـكَم، والأقوال المأثورة، وضرب الأمثلة، يعوّض عن الإسهاب والتفصيل الذي يميز النثر بالإيحاء الذي يميز الشعر. وبما أن الإيحاء والإسهاب لا يجتمعان، فإنه كلما نحا التعبير نحو الإسهاب كلما قلَّـت إيحاءاته، وكلما نحا نحو الإيحاء قلَّ إسهابه. وهذه هو سر جاذبية الفلسفة الصينية. ربما قام أحد الباحثين بجمع كل الأفكار التي يتضمنها كتاب التاو تي تشينغ، وأسهب في شرحها والتعليق عليها في كتابٍ من ثلاثمئة صفحة. مثل هذا الكتاب قد يساعد القارئ العادي على فهم التاو تي تشينغ، ولكنه لن يكون بحالٍ من الأحوال بديلاً عنه. وقد يرى القارئ الحصيف أن التاو تي تشينغ هو الذي يشرح هذا الكتاب وليس العكس.
خلفيات الفلسفة الصينية:
الصين بلدٌ قارّي، وبالنسبة للصينيين القدماء كانت الصين هي العالم. وقد عبّـرت لغتهم عن ذلك عندما جعلت كلمة الصين مرادفة لكلمة العالم، أو لتعبير "كل ما تحت السماء". وقبل افتتاح طريق الحرير التجاري خلال فترة حكم أسرة هان (206 ق.م – 220 م)، لم يكن من عادة الصينيين مغادرة بلادهم أو ركوب البحر. وكلمة البحر لم تَـرِد عند كونفوشيوس (551 – 479 ق.م) سوى مرة واحدة، وكذلك الأمر عند منشيوس (372 – 289 ق.م)، ولم نسمع عن مفكرٍ صيني ركب البحر واطلع على أحوال البلدان البعيدة، على عكس المفكرين الإغريق الذين طالما تنقلوا بين الجزر اليونانية، وركبوا البحر إلى مصر وسورية وإيران وآسيا الصغرى.
في هذا البلد القارّي كانت الحياة الاقتصادية تقوم على الزراعة، وكانت نسبة العاملين في الزراعة حتى أواسط القرن العشرين نحو 80%. أي أن الزراعة كانت المصدر الأساسي لثروة الأمة. أما التجارة فلم تتعـدَّ التبادلات في أسواق المدن، ولم تشكل التجارة الخارجية عبر البحار والطرق الدولية بعد أن نشط طريق الحرير سوى نسبة ضئيلة لا يعتد بها من ثروة الأمة. وقد انعكس ذلك على الآراء الاقتصادية والاجتماعية للمفكرين الصينيين الذين ميزوا بين الجذور التي هي الزراعة، والأغصان التي هي التجارة، لأن وظيفة الزراعة الإنتاج أما وظيفة التجارة فالتبادل، والتبادل لا يتم قبل أن يكون هنالك إنتاج. ولذلك فقد اعتُـبر التجار بمثابة الشريحة الأدنى بين شرائح المجتمع، أما الشريحة الأعلى فهم أصحاب الأراضي، يليهم المزارعون فالحرفيون. وقد كان أصحاب الأراضي بما تتيح لهم طبيعة حياتهم أهل ثقافة، وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا يباشرون الزراعة بأنفسهم، إلا أن أقدارهم وحظوظهم كانت مرتبطة بغلّـة الأرض كما هو حال المزارعين، ولهذا فقد كان المزارعون وأسيادهم يتشاركون النظرة نفسها إلى العالم، وفلسفة الحياة نفسها. ولكن بما أن علم الأسياد قد أعطاهم القدرة على التعبير عن مشاعر المزارع الذي لا يملك أدوات التعبير، فقد تجلّت نظرة المزارع إلى العالم وفلسفته في الحياة في ما أنتجه المثقفون من فلسفةٍ وأدبٍ وفن.
التاوية والكونفوشية
اتفاق واختلاف
لدينا من القرن الثالث قبل الميلاد كتاب يتضمن عرضاً وافياً وموجزاً للمدارس الفلسفية الصينية، ورد في أحد فصوله وصفٌ لطبيعة الناس الذين يعملون في الجذور أي المزارعين، والناس الذين يعلمون في الفروع (أو الأغصان) أي التجار. فالمزارع حسن الطوية وبسيط وساذج، ولديه براءة الأطفال، ولذلك فهو مطيعٌ وغيري. وبما أن ممتلكاته وأدوات عمله ثقيلة وصعبة النقل، فإنه لا يفكر بترك موطنه إذا تعرض لخطرٍ خارجي. أما التاجر فخبيثٌ وغادرٌ وأناني، ولذلك فهو غير مطيع. وبما أن أدوات عمله خفيفة وسهلة الحمل، فإنه يترك موطنه إذا تعرض لخطرٍ خارجي. ثم يخلص الكاتب إلى نتيجةٍ مفادها أن الزراعة أكثر أهمية لاقتصاد المجتمع من التجارة، وأن نمط حياة المزارع يعلو على نمط حياة التاجر.
وفي الحقيقة فإننا لواجدون في هذا التقدير العالي للزراعة وللحياة الزراعية أصول الاتجاهين الرئيسيين في الفلسفة الصينية، وهما التاوية والكونفوشية، سواء في اتفاقهما أم اختلافهما.
في الفلسفتين هنالك مبدأ مشترك ناجم عما يراه المزراع من حركة الشمس والقمر وتبدل الفصول، مفاده أن السير في أي مجال (سواء في الطبيعة أم الإنسان) إلى أقصى مدى، سيؤدي إلى حركة عكوسية نحو نقطة المبتدى، ويتحول الشيء إلى نقيضه. هذا ما نجده في التاو تي تشينغ، وفي التفسيرات الكونفوشية لكتاب التغيرات كما تبدت في ملاحقه.
نقرأ في التاو تي تشينغ:
الكلام الكثير يقود أخيراً إلى الصمت.
الفصل 51
فورة القوة يتلوها الوهن.
الفصل 55
عندما تزيد في شحذ حد السكين
تعمل في النهاية على انثلامه.
الفصل 9
ونقرأ في ملاحق التغيرات:
عندما يبلغ الدفء ذروته يأتي البرد
وعندما يبلغ البرد ذروته يأتي الدفء
عندما تبلغ الشمس أقصى مدى في الارتفاع تميل نحو الغروب
وعندما يكتمل القمر يأخذ بالتناقص.
وأيضاً:
في العودة إلى المبتدى
يتجلى عقل السماء والأرض.
وتقول لنا الفيزياء الكونية الحديثة أننا إذا أطلقنا شعاعاً من منبعٍ ضوئي، فإن أقصى مدى سوف يبلغه هذا الشعاع هو المنبع الضوئي الذي صدر عنه بعد أن يقطع الكون برمته. وأنك إذا نظرت في تلسكوب قادر على استكشاف أقصى نقطة في الكون، فإن أبعد ما تراه هو نقرة رأسك.
وينجم عن هذا المبدأ أيضاً مبدأ مشترك آخر هو الوسطية او الاعتدال، لأن التطرف في كل شيء سيقود في النتيجة إلى عكس المراد. يقول لاو تسو:
من يتطاول على أطراف أصابعه لا يقف طويلاً
ومن يسرع خطاه (من أجل الإسراع) لا يمشي بعيداً.
الفصل 24
ويقول كونفوشيوس:
هنالك قلةٌ من الناس حققت الفضيلة عن طريق الاعتدال.
فلسفة الاعتدال هذه ساعدت الشعب الصيني على التعامل بحكمةٍ مع ما واجهه عبر تاريخه من مصاعب وكوارث. فقد كان الصيني لا يأمن لأوقات الرخاء لعلمه أن أوقات الشدة قادمة لا محالة، ولا يأسى لأوقات الشدة لعلمه بأنها لن تدوم. ولدينا أمثولة مُصاغة في قالب حكاية تعبّـر عن موقفه هذا. تقول الحكاية:
"فقد فلاحٌ صيني حصانه الوحيد الذي هرب ولم يعثر له على أثر، وكان سنده في أعمال الحقل. فجاء إليه جيرانه يواسونه قائلين: أية مصيبةٍ حلّت بك؟ فهز الفلاح رأسه وقال: ربما، من يدري. بعد عدة أيام عاد إليه الحصان ومعه ستة جيادٍ برية أدخلها الفلاح إلى حظيرته. فجاء إليه جيرانه يهنئونه قائلين: أي خيرٍ أصابك؟ فهز رأسه وقال: ربما، من يدري. في اليوم التالي قام الإبن الوحيد للفلاح بامتطاء أحد الجياد البرية لترويضه، فجمح الجواد ورماه عن ظهره فكُسرت ساقه. فجاء إليه جيرانه يواسونه قائلين: أية مصيبةٍ حلّت بك؟ فهز الفلاح رأسه وقال: ربما، من يدري. بعد عدة أيام جاء ضابط التجنيد ليسوق شباب القرية إلى الجيش بعد أن تعرضت الإمارة إلى غزوٍ خارجي، فأخذ من وجدهم صالحين للخدمة العسكرية وعفَّ عن ابن الفلاح لعجزه. فجاء إليه الجيران يهنئونه قائلين: أي خيرٍ أصابك؟ فهز رأسه وقال: ربما، من يدري".
ومغزى هذه الحكاية هو أن كل ما فينا وفي خارجنا في تغيرٍ دائم، وهذه التغير يقوم على تناوب الأضداد: النور والظلام، الحرارة والبرودة، الجفاف والرطوبة، الحركة والسكون، الحظ الطيب والحظ العاثر، السـرّاء والضـرّاء، الخير والشر... والقائمة أطول من أن نستنفدها هنا. هذه الأضداد ليست في صراعٍ من أجل سيادة أحدها على الآخر، بل إنها تنشأ معاً ويتخذ كل منها معناه من ضده، فلا نور بلا ظلام، ولا حياة بلا موت، ولا خير بلا شر، والنقائض هي نسيج الوجود. ولذلك يقول لاو تسو:
يرى الجميع في الجميل جمالاً، لأن ثمة قبحاً
يرى الجميع في القبيح قباحة، لأن ثمة جمالاً
الوجود واللاوجود ينجم أحدهما على الآخر
الصعب والسهل يكمّـل أحدهما الآخر
الطويل والقصير يوازن أحدهما الآخر
العالي والمنخفض يسند أحدهما الآخر
الصوت والصمت يجاوب أحدهما الآخر
القَـبل والبَـعد يتبع أحدهما الآخر (الفصل 2).
هذا عن الاتفاق بين الفلسفتين. أما اختلافهما فناشىءٌ عن كونهما صياغة نظرية لوجهين من حياة المزارعين؛ الأول طبيعي وهو علاقة الفلاح بالأرض، والثاني اجتماعي وهو علاقة الفلاح بالعائلة.
فلقد عبَّـرت التاوية عن رؤيتها للحياة والعالم من خلال رؤيتها لتلك العلاقة الوثيقة بين الفلاح والأرض التي لا حياة له بدونها. وقد عملت الطبيعة على تشكيل شخصية الفلاح وطبائعه وأخلاقه، فهو كما أسلفنا بسيط وبريء مثل طفل. وقد رأى فلاسفة التاوية في هذه البساطة والبراءة صورةً للمجتمع الإنساني، ودعوا إلى العودة إلى الطبيعة ورذلوا المدنية، ورأوا في الطبيعي مصدراً لسعادة الإنسان وفي المصطنع مصدراً لتعاسته. وهذا ما عبَّـر عنه لاو تسو أفضل تعبير في الفصل الختامي من التاو تي تشينغ، حيث رسم صورةً بهية لمجتمعٍ بسيط وبريء، رأى فيه جنة الأرض:
هنالك دولة صغيرة وقليلة السكان
لدى أهلها أدوات تسهل عملهم ولكنهم لا يستعملونها
يخشون على حياتهم فلا يرتحلون بعيداً
لديهم قوارب وعربات ولكنهم لا يركبونها
في حوزتهم أسلحة ولكنهم لا يحملونها
يستمتعون بالطيبات ويزهون باللباس
يسعدون في مساكنهم المريحة ويرضون بعاداتهم
وعلى الرغم من أن الدولة المجاورة تقع على مرمى البصر
وتُـسمع من جهتها أصوات الكلاب والديكة
إلا أنهم يقضون حياتهم دون اتصالٍ مع أهلها.
وقد كان للتاوية أثرٌ بالغ على الفن الصيني الذي انطبع بـرَوح التاوية، فاستمـدَّت روائعه كل موضوعاتها من الطبيعة. وفي تلك المشاهد الحافلة بالأشجار والأزهار والطيور، غالباً ما نرى رجلاً جالساً في سكينةٍ يتأمل الطبيعة، ويتفكر في المبدأ الكلي الذي يتجاوز الإنسان والطبيعة. وهذا الرجل لا يشغل سوى مساحة ضئيلة من اللوحة، كما أنه ليس شخصاً بعينه لأن حضوره ليس إلا تكميلاً للمشهد الطبيعي، وذلك على عكس الفن الأوربي الذي يشغل فيه الشكل الإنساني معظم اللوحة، أما المشهد الطبيعي فمجرد خلفية للإنسان المصوَر (لوحة الموناليزا مثلاً).
كما أنتجت التاوية مدرسة شعرية استمدت موضوعاتها من علاقة الإنسان بالطبيعة، رعتها فيما بعد بوذية الشان (ويكتبها الباحثون الغربيون بصيغة Chi’an)، والتي نجمت عن تمازج البوذية بالتاوية، ثم حملتها إلى العصر الحديث بوذية الزن وهي الصيغة اليابانية لبوذية الشان الصينية.
يقول شاعرٌ تاوي:
كنت أجمع الأقحوان البري تحت سياج الأشجار
رفعت نظري وتأملت المرتفعات الجنوبية
نسيم الجبال يهب عليلاً عند الغروب
والعصافير تتجمع عائدة إلى أعشاشها
في كل ما حولي معاني عميقة
وعندما حاولتُ التعبير عنها بكلمات
ضِـعتُ في عالم اللاكلمات.
ويقول أحد شعراء الزن:
عندما تصدح الطيور على الأشجار
يحمل شدوها أفكار الحكماء الأوائل
عندما تتـفتح الأزهار البرية على ذرى الجبال
يحمل شذاها أعمق المعاني.
وكان معلمو الزن هم من ابتكر قصيدة الهايكو المؤلفة من ثلاثة أبيات والتي تتخذ موضوعاتها من تفاعل النفس الإنسانية مع الطبيعة، على ما تبينه القصائد المختارة التالية:
البركة القديمة
ضفدعٌ يقفز
صوت الماء.
عندما سلكت في الدرب الغربي
أية مفاجأة يهفو إليها القلب
مجموعة من البنفسجات الغضة.
أهي زهرةٌ ساقطة
تخفق بأوراقها عائدة إلى غصنها؟
آه! إنها فراشة.
اللص
تركه وراءه:
القمر في النافذة.
في مقابل تأكيد التاوية على كل ما هو طبيعي وتلقائي في الإنسان، فإن الكونفوشية تؤكد على واجباته الاجتماعية، وهي صياغة نظرية للدور الذي لعبته مؤسسة العائلة الفلاحية في النظام الاجتماعي والسياسي للصين. لقد كان على المزارعين وأسيادهم أيضاً قضاء حياتهم على الأرض التي تُـشكّل مصدر رزقهم، وكان على أفراد العائلة الواحدة العمل معاً في تكاتفٍ وتعاون. وهذا ما أدى إلى نشوء النظام العائلي الصيني، الذي ربما كان أكثر النظم العائلية إحكاماً وتعقيداً في العالم، وعليه بُـني النظام الاجتماعي برمته. فمن بين صيغ العلاقات الاجتماعية التقليدية الخمسة التي تعبر عن واجبات وحقوق كل فرد، هنالك ثلاثة منها تنتمي إلى العائلة وهي: علاقة الأب بالابن، علاقة الأخ الأصغر بالأخ الأكبر، وعلاقة الزوج بالزوجة. أما الصيغتين الباقيتين فشبه عائلية، وهما علاقة الفرد بأميره التي نُـظر إليها دوماً على أنها صورةٌ للعلاقة بين الأب والابن، وعلاقة الصديق بالصديق التي نُـظر إليها دوماً على أنها صورةٌ للعلاقة بين الأخوين في العائلة.
هذه العلاقات الاجتماعية – العائلية كانت الموضوع الرئيسي لتعاليم الفلسفة الكونفوشية التي نظرت إلى المجتمع على أنه صورةٌ موسعة عن العائلة، وهذه العائلة الموسعة لا تقتصر على الأحياء فقط بل وعلى الأموات أيضاً. ذلك أن الكونفوشية أعطت زخماً لعبادة الأسلاف المترسخة منذ القدم، والتي نشأت عن الدور المركزي الذي تتمتع به العائلة في المجتمع الزراعي. فالسلف الأول هو رمز وحدة العائلة، وأرواح الأسلاف على الرغم من انتمائها إلى مستوى آخر للوجود، إلا أنها تبقى قريبة من العائلة وتمد أفرادها بالعون عند الحاجة وتحميهم من الأخطار، وإليها يقدم الصيني قرابينه الرئيسية. واليوم، وعلى الرغم من تحوّل الصين إلى مجتمعٍ صناعي متقدم، إلا أنني خلال سنوات إقامتي في العاصمة بكين، كنت كلما خرجت من مسكني عشية عيد الأسلاف، وجدت شاباً (أو فتاة) على كل مفرق طريق جالساً على الأرض يوقد ناراً لأسلاف العائلة، وخلفه سيدة عجوز ترعى الطقس وهي في جلسة صمتٍ وتأمل.
لم تغـدُ الفلسفتان التاوية والكونفوشية بمثابة الاتجاهين الرئيسيين في الفكر الصيني إلا بعد فترةٍ طويلة من التطور. وخلال ثلاثة قرون فيما بين القرن الخامس وأواخر القرن الثالث قبل الميلاد، لم تكونا سوى مدرستين بين عدة مدارس متنافسة.
في المدارس الفلسفية:
في عام 1027 ق.م قامت أسرة تشو/Chou بالقضاء على أسرة شانغ/Shang وانتقلت معها الصين من العصر الحجري إلى عصر المعادن والتمدن وأسست أول دولةٍ في وسط الصين كانت عاصمتها إينانج في مقاطعة هونان الحالية. وقد استمر حكم أسرة تشو حتى عام 221 ق.م، وهي التي أسست النظام الإقطاعي في الصين. فقد قام ملوكها بتوزيع الأراضي التي اكتسبوها من أسرة شانغ على أتباعهم وأقربائهم فصارت ملكية وراثية لهم، وجرى تقسيم البلاد إلى عددٍ كبير من الإقطاعيات (التي أدعوها في هذا الكتاب بالمقاطعات)، وبذلك تم التوحيد بين السلطة السياسية وملكية الأراضي، وصار مالكو الأرض هم سادتها من الناحيتين السياسية والاقتصادية. أفراد هذه الطبقة الأرستقراطية التي تدير المقاطعات وتدفع ما يتوجب عليها من ضرائب إلى السلطة الملكية المركزية، كانوا بحكم طبيعة حياتهم متعلمون، وكانت قصورهم بمثابة مركز للتعليم. وقد ساعدهم في إدارة الدويلة موظفون يمتلكون معارف وخبرات في شتى المجالات، ويقدمون المشورة والمعونة لأسيادهم، كما كانوا في الوقت ذاته ينقلون هذه المعارف والخبرات إلى الآخرين، أي أنهم كانوا يجمعون بين وظيفة الإدارة ووظيفة التعليم.
خلال القرون الثلاثة الأولى كان النظام الإقطاعي لأسرة تشو أكثر النظم الإقطاعية في التاريخ إحكاماً ونجاعة، ولكن علائم الخلل بدت عليها منذ القرن السادس، وأخذت السلطة المركزية للعاصمة تضعف لصالح أمراء المقاطعات الذين أخذوا يتصرفون وكأنهم حكام مستقلون رغم بقائهم خاضعين من الناحية الاسمية للملك. ومنذ عام 475 ق.م دخلت البلاد في فترة الدويلات المتحاربة التي كان خلالها أمراء المقاطعات يتحاربون من أجل توسيع أملاكهم على حساب بعضهم بعضاً، أو سيادة مقاطعة على أخرى. واستمر الحال على هذا المنوال حتى عام 221 ق.م عندما قامت أسرة تشن/Chin بالقضاء على حكم أسرة تشو، فوحدت البلاد تحت سلطةٍ مركزية قوية، وألغت النظام الإقطاعي، وصادرت الأملاك الإقطاعية التي راح يتولى إدارتها موظفون حكوميون يديرن شؤون المقاطعات التي اُعيد تنظيمها، يساعدهم في ذلك هيئةٌ من المستشارين والموظفين المدنيين.
على أن هذه الفترة التي اتسمت بالاضطراب السياسي كانت أخصب فترات التطور الفكري في الصين القديمة، وشهدت تشـكّل المدارس الفلسفية المتنافسة على يد معلمين كانوا ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية ولكنهم فقدوا أملاكهم لأسبابٍ متعددة (منها حروب تلك الأيام)، أو من كبار الموظفين الذين يمتلكون معارف شتى وفقدوا منصبهم للأسباب نفسها. وقد توزع هؤلاء في أنحاء البلاد وراحوا يكسبون معيشتهم من خلال التعليم. ومن نشاط هؤلاء تشـكّلت المدارس العديدة التي أطلق عليها المؤرخون الصينيون اسم المئة مدرسة لكثرتها، وهذه بالطبع تسمية مجازية، ونحن بالفعل لا نستطيع أن نتلمس سوى وجود عشرة، ستة منها كانت الأكثر فعالية في الثقافة الصينية وهي:
مدرسة اليانغ – ين التي استمدت اسمها من كتاب التغيرات الذي يقول بوجود قوتين هما قوة اليانغ وقوة الين، الأولى موجبة والثانية سالبة، ومن تفاعل هاتين القوتين تنشأ الآلاف المؤلفة من مظاهر الكون والطبيعة. وقد اهتم معلمو هذه المدرسة بنظرية نشوء الكون، وعلم الفلك، ومراقبة حركات الأجرام السماوية، ودورة الفصول، وتقسيم الزمن، وما إلى ذلك. كما مارسوا العرافة والسحر.
مدرسة المثقفين، أو المفكرين. ومعلمو هذه المدرسة كانوا يعلمون الطقوس وكل ما يتعلق بقواعد السلوك الاجتماعي، والموسيقى، والكتب الكلاسيكية الستة المتوارثة عن القدماء وهي: 1- كتاب التغيرات/إي تشينغ، 2- كتاب القصائد (أو الأغاني)، 3- كتاب التاريخ، 4- كتاب الطقوس (وقواعد الأدب والمعاملات)، 5- كتاب الموسيقى، 6- حوليات الربيع والخريف، وهو كتابٌ في تاريخ مملكة لو وضعه كونفوشيوس. وكان كونفوشيوس هو المعلم الأبرز في هذه المدرسة.
المدرسة الموهية نسبة إلى معلمها مو تزو، وكانت ذات تنظيم شبه عسكري صارم ومنضبط، وتتخذ من معبد الأسلاف مقراً لها حيث يمارس أفرادها التدريب العسكري، ويقدمون القرابين للأسلاف. وكان مو تزو أبرز نقاد كونفوشيوس وبنى تعاليمه انطلاقاً من نقده هذا.
مدرسة الأسماء (أو المجادلين). ومعلمو هذه المدرسة ركزوا على العلاقة بين الأسماء وحقيقتها. وقد كان هؤلاء بارعون في الجدل وفنون الكلام، ويشبهون في كثيرٍ من النواحي السفسطائيين في الفلسفة اليونانية.
مدرسة التاو تي، أي التاو وقوته. ويرى معلمو هذه المدرسة أن كل ما حولنا متبدلٌ ومتغير، إلا أن القوانين الكامنة وراء التغير تبقى ثابتة وغير متغيرة، وما على الإنسان لكي يعيش في سعادة سوى فهم هذه القوانين والتوافق معها في سلوكه. وكان لاو تسو مؤلف كتاب التاو تي تشينغ أبرز هؤلاء المعلمين.
المدرسة الشرائعية. ومعلمو هذه المدرسة لا يثقون بالمنظومات الأخلاقية، ويرون أن نظام الدولة والمجتمع ينبغي أن يستند إلى منظومةٍ صارمة من الشرائع والقوانين التي ترعى الدولة تطبيقها، وتضع الروادع والمكافآت التي تدفع المواطنين إلى الالتزام بها.
بعد وفاة كونفوشيوس عام 479 ق.م ولعدة قرون تالية، بقيت أربع مدارسٍ من هذه الستة، وهي مدرسة المثقفين، والموهيين، والشرائعيين، والتاويين، تتنافس على اكتساب المريدين وقلوب الحكام، إلى أن سيطرت الكونفوشية بشكلٍ كامل على عموم الصين في القرن الأول الميلادي.