كفر ناحوم – واقع يترنح بين النبوءة و المصير
نزار غالب فليحان
خاص ألف
2019-03-09
على ساحل طبريا ، في "كفر ناحوم" ، حيث قضى يسوع إحدى مراحل دعوته العلنية ، لم يستطع أن يُدخل الإيمان إلى قلوب أهلها ، فتنبأ بخرابها :
"وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ! سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى الْيَوْمِ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكِ" (متى 11: 21-24 )
و "سَدوم" أرض – وفق الموروث الديني - خسفها الله لأن أهلها ارتكبوا كل المحرمات و فسدوا و لم يخفوا معاصيهم ، ليبشر يسوعُ بأن "كفر ناحوم" التي يُسِّرَ لها ما لو يُسِّرَ لـ "سدوم" لنجتْ ، سوف تزول و تفنى ، فزالت "كفرناحوم" و لم يبق منها سوى خرائبها .
تقول "نادين لبكي" مخرجة الفيلم ، إنها عنت في "كفر ناحوم" أرض الجحيم ، المعنى الذي ربما بُني على زوال "كفر ناحوم" وفق ما تنبأ به يسوع في الموروث الديني ، لكن "لبكي" لم تذهب عميقاً في هذا المعنى بل ألقت على عاتق المتلقي – عن عمد أو دون قصد – مهمة البحث عن أسباب زوال "كفرناحوم" البلدة التي لم تتعظ و إسقاط ذلك الموروث على حالة بلدها لبنان ، تماماً كما تركت للمشاهد في "كفرناحوم" الفيلم مهمة البحث عن أسباب ضياع الطفولة .
نحو قاع لبنان ، و إلى بيوته الضيقة و زقاقاته الموحلة ، حيث يفتك الجوع و يتمكن المرض و يسود التشرد و يبدو البؤس سمة يرضخ لها و يتصالح معها البائسون صاغرين غير قادرين على تغيير واقعهم المؤلم حَدَّ الفجيعة ، نحو قاع المجتمع اللبناني ، حيث يُنسى الفقير "ككنيسة مهجورة" و حيث لا تطأ قدم رئيس أو نائب أو وزير أو ابن عائلة ورث زعامة طائفة أو رجل دين أو حتى فاعل خير ، و ربما لا تطأ قدم عابر سبيل أرصفتها المتكسرة أو زواياها المتعفنة ، إلى هناك حملت "نادين لبكي" و فريق عملها معدات و كوادر ليفتحوا معاً هذا الجرح المتقيح في جسد لبنان ، لبنان الذي يبدو لمن يراه من بعيد ناصعاً قشيباً كجنة تجري من تحتها الأنهار ، هناك سلطت الضوء على عائلة لبنانية منسية ، و نسجت حكاية "كفرناحوم" من لحم حي ينتظر الموت و دم حار يغلي على نار الإهمال و عدم الاكتراث .
في ذات القاع التقت "لبكي"و فريق عملها "زين" ، الفتى السوري الهارب من الجحيم إلى الجحيم ، لم يكن مشهداً تمثيلياً دفاعه المستميت عن الفتاة الفقيرة التي عنفها شخص في الشارع ، ما جعل فريق العمل يقتنع بأن الفتى "زين" هو ضالتهم ، و ما جعله يؤدي دور طفل لبناني بإتقان يبشر بولادة ممثل من الطراز الرفيع .
تحاول "لبكي" توسيع بقعة الضوء التي تسلطها على القاع البائس عبر عرض حالة "راحيل" العاملة الأثيوبية و ابنها "يوناس" ، و حالة اللجوء السوري عبر الطفلة "ميسون" بائعة الورد ، لتشكل هوية عابرة للعرق و الجنسية و الدين و اللون نحو هوية واحدة عنوانها البؤس الإنساني .
رمت "نادين لبكي" حجراً في بركة ساكنة ، بركة آسنة ، بدأت دوائرها تتسع لكنها ستتلاشى أو تلاشت على ضفة الصمت عن الفضيحة ، و السكوت عن الوجع ، بركة لا تعني لأصحاب القرار شيئاً ، لأن أبناءها بلا قيد ، لا يمكنهم أن يبيعوا أصواتهم لقاء قتل الجوع ، بركة لا يتمايز أبناؤها طائفياً لتُصْطادَ إراداتهم ، فهم جميعاً ينتمون إلى طائفة الفقر ، التي لا يتشرف أي من أصحاب ربطات العنق الزاهية بالاقتراب منهم ، و هم جميعاً سكان الأماكن العشوائية على هوامش المدن ، أنباء البيوت الضيقة حَدَّ الاختناق ، و نزلاء السجن القبر .
ثمة جرأة في الاقتراب من هذا المسكوت عنه و فضحه ، لكن الصورة لم تكتمل ، لأن من صفق لنجاح الفيلم غير معني إلا في الحالة الفنية و الإبداعية ، و لن يتخذ خطوة نحو انتشال هؤلاء من قاعهم الموحل ، و لأن المؤسسات المعنية التي بدت كأنها بريئة من هذا الجرح حين ألقى الفيلم على لسان "زين" التبعة على عدم توقف الفقراء عن الإنجاب ، لا بل فاعلة و مؤثرة حين بدا الإعلام مواكباً للحدث .
"كفر ناحوم" "صرخة في وادٍ" ذهبت اليوم مع الريح ، فهل ستذهب غداً بالأوتاد ؟
يبقى المصير حائراً بين نبوءة يسوع و نبوءة عبد الرحمن الكواكبي .
نزار غالب فليحان
على ساحل طبريا ، في "كفر ناحوم" ، حيث قضى يسوع إحدى مراحل دعوته العلنية ، لم يستطع أن يُدخل الإيمان إلى قلوب أهلها ، فتنبأ بخرابها :
"وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ! سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى الْيَوْمِ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكِ" (متى 11: 21-24 )
و "سَدوم" أرض – وفق الموروث الديني - خسفها الله لأن أهلها ارتكبوا كل المحرمات و فسدوا و لم يخفوا معاصيهم ، ليبشر يسوعُ بأن "كفر ناحوم" التي يُسِّرَ لها ما لو يُسِّرَ لـ "سدوم" لنجتْ ، سوف تزول و تفنى ، فزالت "كفرناحوم" و لم يبق منها سوى خرائبها .
تقول "نادين لبكي" مخرجة الفيلم ، إنها عنت في "كفر ناحوم" أرض الجحيم ، المعنى الذي ربما بُني على زوال "كفر ناحوم" وفق ما تنبأ به يسوع في الموروث الديني ، لكن "لبكي" لم تذهب عميقاً في هذا المعنى بل ألقت على عاتق المتلقي – عن عمد أو دون قصد – مهمة البحث عن أسباب زوال "كفرناحوم" البلدة التي لم تتعظ و إسقاط ذلك الموروث على حالة بلدها لبنان ، تماماً كما تركت للمشاهد في "كفرناحوم" الفيلم مهمة البحث عن أسباب ضياع الطفولة .
نحو قاع لبنان ، و إلى بيوته الضيقة و زقاقاته الموحلة ، حيث يفتك الجوع و يتمكن المرض و يسود التشرد و يبدو البؤس سمة يرضخ لها و يتصالح معها البائسون صاغرين غير قادرين على تغيير واقعهم المؤلم حَدَّ الفجيعة ، نحو قاع المجتمع اللبناني ، حيث يُنسى الفقير "ككنيسة مهجورة" و حيث لا تطأ قدم رئيس أو نائب أو وزير أو ابن عائلة ورث زعامة طائفة أو رجل دين أو حتى فاعل خير ، و ربما لا تطأ قدم عابر سبيل أرصفتها المتكسرة أو زواياها المتعفنة ، إلى هناك حملت "نادين لبكي" و فريق عملها معدات و كوادر ليفتحوا معاً هذا الجرح المتقيح في جسد لبنان ، لبنان الذي يبدو لمن يراه من بعيد ناصعاً قشيباً كجنة تجري من تحتها الأنهار ، هناك سلطت الضوء على عائلة لبنانية منسية ، و نسجت حكاية "كفرناحوم" من لحم حي ينتظر الموت و دم حار يغلي على نار الإهمال و عدم الاكتراث .
في ذات القاع التقت "لبكي"و فريق عملها "زين" ، الفتى السوري الهارب من الجحيم إلى الجحيم ، لم يكن مشهداً تمثيلياً دفاعه المستميت عن الفتاة الفقيرة التي عنفها شخص في الشارع ، ما جعل فريق العمل يقتنع بأن الفتى "زين" هو ضالتهم ، و ما جعله يؤدي دور طفل لبناني بإتقان يبشر بولادة ممثل من الطراز الرفيع .
تحاول "لبكي" توسيع بقعة الضوء التي تسلطها على القاع البائس عبر عرض حالة "راحيل" العاملة الأثيوبية و ابنها "يوناس" ، و حالة اللجوء السوري عبر الطفلة "ميسون" بائعة الورد ، لتشكل هوية عابرة للعرق و الجنسية و الدين و اللون نحو هوية واحدة عنوانها البؤس الإنساني .
رمت "نادين لبكي" حجراً في بركة ساكنة ، بركة آسنة ، بدأت دوائرها تتسع لكنها ستتلاشى أو تلاشت على ضفة الصمت عن الفضيحة ، و السكوت عن الوجع ، بركة لا تعني لأصحاب القرار شيئاً ، لأن أبناءها بلا قيد ، لا يمكنهم أن يبيعوا أصواتهم لقاء قتل الجوع ، بركة لا يتمايز أبناؤها طائفياً لتُصْطادَ إراداتهم ، فهم جميعاً ينتمون إلى طائفة الفقر ، التي لا يتشرف أي من أصحاب ربطات العنق الزاهية بالاقتراب منهم ، و هم جميعاً سكان الأماكن العشوائية على هوامش المدن ، أنباء البيوت الضيقة حَدَّ الاختناق ، و نزلاء السجن القبر .
ثمة جرأة في الاقتراب من هذا المسكوت عنه و فضحه ، لكن الصورة لم تكتمل ، لأن من صفق لنجاح الفيلم غير معني إلا في الحالة الفنية و الإبداعية ، و لن يتخذ خطوة نحو انتشال هؤلاء من قاعهم الموحل ، و لأن المؤسسات المعنية التي بدت كأنها بريئة من هذا الجرح حين ألقى الفيلم على لسان "زين" التبعة على عدم توقف الفقراء عن الإنجاب ، لا بل فاعلة و مؤثرة حين بدا الإعلام مواكباً للحدث .
"كفر ناحوم" "صرخة في وادٍ" ذهبت اليوم مع الريح ، فهل ستذهب غداً بالأوتاد ؟
يبقى المصير حائراً بين نبوءة يسوع و نبوءة عبد الرحمن الكواكبي .
نزار غالب فليحان