فيلم "عن الآباء والأبناء": طلال ديركي يُهمّش المتن
ألف
2019-03-23
ب عساف العساف على صفحته ما يلي: "في فيلم (عن الآباء والأبناء) ترد لقطة تكاد تكون غير ملحوظة لسرعتها لأبي أسامة، الشخصية المحورية في الفيلم، وهو ينشد أناشيد جهادية وفي لحظة كأنه نسي نفسه فيها يغني جملة من أغنية سعدون جابر المدهشة:
البارحة صوتك اسمعا يعتّب من بعيد..
أين المتن وأين الهامش هنا؟ أغاني الجهاد، أم أغنية البارحة؟".
إن الصراع بين المتن والهامش يشبه إلى حد ما الصراع بين المُعلن والمسكوت عنه. ففي لعبة المواقف الإيديولوجية والمواقف السياسية عموماً يتراجع المتن ليتصدر الهامش المشهد ويتراجع المسكوت عنه لصالح المعلن. والمعلن في الفيلم أن رجلاً جهادياً له من الأبناء ثمانية يربيهم لهدف وحيد فقط وهو متابعة الجهاد إلى أن تتمكن دولة الخلافة الإسلامية من بسط سيطرتها على بلاد الشام وتنتصر في المعركة التي بشّر فيها الدين قبل 1400 سنة من الآن. يدربهم على الذبح، يدربهم على الجهاد، يبعدهم عن المدرسة، يزج بهم في المعهد الشرعي، يحلل ويحرم، يبدي رأيه في السياسة، كان معتقلاً وأفرج عنه النظام. أما المسكوت عنه فكل ما عدا ذلك، فلقد أضحى هذا الرجل هو المتن في مقاطعة إدلب، وكل ما عدا ذلك مجرد هامش. وفي مقابلته التلفزيونية يعلن طلال ديركي أن "القاعدة" في إدلب تعيش عصرها الذهبي، ومن خلال هذا العصر وعبر مساحة المحافظة الشاسعة اختار المخرج أن يكون فيلمه في قرية صغير من قرى ريف معرة النعمان (خان السبل) ليجعل من الهامش متناً معلناً يسهل من خلاله طي صفحة المسكوت عنه.
في مضمون الفيلم
يتناول الفيلم أسرة واحدة لأب سلفي خبير ألغام وصانع متفجرات، ويكشف عن سطحية تفكيره وسذاجة آرائه اليقينية بقيام دولة الخلافة، يُخرج أبناءه من المدرسة، ويرسل كبيرهم إلى المعهد الشرعي ليستكمل إعداده الذهني شرعياً وإعداده الجسدي ليصبح مقاتلاً في دروب الموت. لم تخرج الكاميرا خارج حدود شخصيات الأسرة ولم تلتقط أي كادر خارج هذه الأسرة باستثناء لقطة واحدة يقوم بها الأبناء بشتم وضرب طالبات المدرسة بالحجارة، ليبرز موقف "جبهة النصرة" من التعليم عموماً ومن تعليم الإناث خصوصاً. وفي لقطة ثانية نرى أفراد "النصرة" وهم يجمعون أسرى من جيش بشار يخطب فيهم أحد الشرعيين موجهاً كلامه لأهالي الأسرى
"من أهم هذه الحقائق التي قفز عليها ديركي وتجاهلها: إفراج المالكي عن سجناء "داعش" في سجن أبو غريب وإرسالهم إلى سورية. وإفراج الأسد عن سجناء "القاعدة" في سجونه ليشكلوا مجموعة فصائل جهادية مسلحة"
(السنّة) الذين يرسلون أبناءهم للموت. فيما عدا ذلك يحاول المخرج أن يقنع المتلقي بأن العنف الإرهابي ينتقل بالوراثة بين الآباء والأبناء، ويقوم الآباء بدور المحفز والدافع الأهم لاستمرار هذه الدورة العنفية. وإذا كان المتلقي السوري على دراية بكل هذه التفاصيل وأكثر من ذلك على دراية تامة بالدور المشبوه لهذه الفصائل الإسلامية فهو يعيشها بشكل يومي وقد خرجت المظاهرات المنددة بهذا الفصيل وبغيره في معظم مناطق سيطرة هذه الفصائل بدءاً بالغوطة وليس انتهاء بالمعرة التي يحتضن ريفها وقائع هذا الفيلم، فلمن يتوجه الفيلم بخطابه؟ هل يريد إقناع المشاهد الغربي بأن "مقاطعة إدلب" كلها إرهابيون وبالتالي لا ضير في تدميرها كما حصل في الموصل والرقة؟ خاصة وأن المخرج يعيش في ألمانيا ويعرف تماماً قوة تأثير الميديا بالغرب وتشكيل رؤيتهم عن ثورتنا من خلال ما يُعرض عليهم.
لقد تعمّد المخرج تجاهل الكثير من الحقائق بحجة أن الفيلم تربوي مع أن الفيلم وثائقي وحصل على جائزته الغربية ضمن هذا التصنيف. ولأنه وثائقي فلنا أن نطالب الفيلم بتقصي الحقائق التي أجبرت بعض المقاتلين على الانخراط مع "النصرة"، ونطالب الفيلم بتقصي الحقائق التي جعلت بعض الناس في الشمال السوري يؤيدون "النصرة" في بداية انطلاقتها، ولأنه وثائقي فلنا أن نطالب الفيلم بتسليط الكاميرا على المسبب الأول لكل هذا العنف والإرهاب، لا ضير مطلقاً في ذكر إرهاب الفصائل الإسلامية لكن غض النظر عن إرهاب بشار المولّد لكل هذا العنف والإرهاب هو موقف محدد مسبقاً ويثير تساؤلات كثيرة. ولأن الفيلم وثائقي فلنا أن نطالبه بعرض الصورة كاملة دونما انتقاص، فأبناء محافظة إدلب ليسوا ملائكة لكنهم أيضاً ليسوا إرهابيين أصحاب تفكير ساذج.
من أهم هذه الحقائق التي قفز عليها وتجاهلها: إفراج المالكي عن سجناء "داعش" في سجن أبو غريب وإرسالهم إلى سورية. وإفراج الأسد عن سجناء "القاعدة" في سجونه ليشكلوا مجموعة فصائل جهادية مسلحة. كذلك التدمير الممنهج لفصائل الجيش الحر من قبل "جبهة النصرة" و"داعش". وأيضاً خنق أي حالة وطنية مدنية وعدم السماح لها بالنمو. وربط الجميع بالداعم غير السوري. وربط المواطن السوري في المناطق المحررة بالسلة الغذائية وعدم دعم أي مشروع من مشاريع التنمية المستدامة من قبل المنظمات الإغاثية. فإذا أضفنا لكل ذلك التجاهل التام لمدنية الحراك ووطنيته وتجاهل كل صرخات الاحتجاج التي أطلقها السوريون في وجه قنوات الإعلام العربية والغربية التي لم تر على الأرض السورية غير "جبهة النصرة" و"داعش"، فإننا نخرج بنتيجة أن هذه الحقائق تفسر الواقع المعاش بدقة وبالتالي تتطلب مخرجاً يتمتع ليس فقط بمعرفة وافرة ثقافياً وتقنياً بل وأيضاً بموقف مبدئي ثابت تجاه الحق والعدل.
في ظل هذه الحقائق على المخرج أن يتوقع المآلات التي سيفرزها هكذا واقع، والتي قد تبدأ باضطرار الإنسان البسيط إلى التوجه لرواتب "جبهة النصرة" التي تعيله وتعيل أسرته ولن تنتهي عند تفكك البنية المجتمعية وتفشي الفقر والجهل والجريمة المنفلتة، والطائفية، والتعصب.
بعد إيديولوجي وموقف غير أخلاقي
لا شك في أن غياب تلك الحقائق عن وعي المبدع يشكل علامة استفهام كبيرة وكبيرة جداً. وكذلك يشكل تجاهل تلك الحقائق من قبل أي مبدع إشارة واضحة إلى بعد إيديولوجي أو إلى موقف غير أخلاقي مطلقاً. والقول بأن تلك الحقائق غير موجودة إلا في أذهان من يعتقد بنظرية المؤامرة هو مؤامرة بحد ذاته. وإلا ماذا نسمي هذا التواطؤ العالمي أمام كل تلك الجرائم التي ارتكبت خلال ثمانية أعوام وما تزال مستمرة؟
لقد غيّب طلال ديركي تلك الحقائق متعمداً فهو مخرج أكاديمي محترف خرّيج «معهد ستافراكوس العالي لفنون السينما والتلفزيون» 2003 في أثينا، حقق المرتبة الأولى على دفعته، وهو أوّل أجنبي يحقق ذلك منذ تأسيس المعهد قبل نحو نصف قرن. ونال فيلمه "عن الآباء والأبناء" جائزة لجنة التحكيم الكبرى لأفضل وثائقي أجنبي في "مهرجان صندانس السينمائي" 2018.
في أحد تصريحاته اللاحقة عن الفيلم أعلن المخرج أن فيلمه تربوي غير سياسي، يرصد توارث مفاهيم العنف في المجتمع وانتقال هذه المفاهيم من الآباء إلى الأبناء، ليبرر صمته وعدم ذكره لكلمة ثورة، ويبرر عدم ذكره لجرائم النظام، مع أنه اختار بيئة مكانية في الشمال
"تجاهل الفيلم مدنية الحراك ووطنيته. وتجاهل صرخات الاحتجاج التي أطلقها السوريون في وجه قنوات الإعلام العربية والغربية التي لم تر على الأرض السورية غير "جبهة النصرة" و"داعش""
السوري مستبدلاً تسمية "محافظة إدلب" بتسمية اختارها السلفيون "مقاطعة إدلب". وإذا أردنا تحليل العنوان فقط نجد أنه جاء بصيغة الجمع مضافاً إليها "أل العهدية" لتشمل كل الآباء وكل الأبناء في هذه المقاطعة، فهو لم يقصد أباً واحداً أو آباء محددين وإنما الكل بإطلاق وهذا أول تعميم ظالم يقع فيه صانع الفيلم، ولا نستطيع القول إنه غير مقصود لأننا بذلك نحط من قيمة المخرج ثقافياً وفكرياً، فهو على درجة من الوعي والمعرفة تمكنه من فهم الانزياحات الدلالية للعنوان. وهو على درجة من المتابعة تمكنه من تذكر الصورة الشهيرة لأبناء سراقب والتي كتبوا فيها لافتات تجمع كل المذاهب والطوائف والإثنيات السورية في لوحة واحدة (أنا سنّي – أنا علوي – أنا كردي – أنا مسيحي... إلخ).
في محافظة إدلب اليوم ما يقرب من ستة ملايين سوري بين نازح أو مهجر أو مقيم يعيشون واقعاً مأساوياً جديراً بالبحث والدراسة بطريقة علمية للوصول إلى نتائج من شأنها أن تساعد هؤلاء الناس للخروج من هذا الواقع، أما أن نسلط الضوء على شخص واحد وننمذجه ونجعله صورة عامة (لمقاطعة) فهذا لا يستقيم ضمن أي منظور أخلاقي بغض النظر عن فكر ويقينيات هذا الشخص. فلماذا تعمد صانع الفيلم تجاهل كل هذه الحقائق إن لم يكن يضمر موقفاً يعرف تماماً أنه بعيد عن الموضوعية؟ في نهاية المطاف يشكل أي عمل فني موقفاً ولا يمكن لهذا الفيلم ضمن خطه الدرامي هذا إلا أن يتماهى بشكل واضح مع موقف الغرب المتواطئ مع بشار مؤسس العنف والإرهاب في سورية الحديثة، وبالتالي لا يمكن لهذا الفيلم ضمن هذا الطرح إلا أن يخدم وجهة نظر الطاغية المستبد ويقدم له كل الدعم والمساندة في حربه المزعومة ضد الإرهاب. إنه يقدم محافظة إدلب إلى الغرب بالصورة التي يريدها الغرب وليس بصورتها الحقيقية، كما ظهرت في لافتات كفرنبل أو حيطان سراقب، إنه يريد أن يظهر الوجه الجهادي لأبي أسامة (الهامش) دون أن يفسر لنا الوجه السابق (المتن) لأبي أسامة الذي يغني لسعدون جابر.
همسة أخيرة: من حقك يا طلال أن تصنع مجدك الشخصي، لكن ليس على حساب أبناء وطنك.