عطب الذات.. سورية.. ثورة لم تكتمل".. سنونو ربيع دمشق (1-4)
برهان غليون
2019-04-06
يصدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، في بيروت بعد أيام، كتاب المفكر والأكاديمي، وأول رئيس للمجلس الوطني السوري، برهان غليون، "عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل.. سورية 2011 - 2012" في 528 صفحة، ويتضمن إطلالةً على لحظة الثورة السورية، ومقدماتها وجريانها، من خلال شهادة نقدية مباشرة، يطرحها غليون، بشأن الأداء العام لشخصيات وقوى وفاعليات وفصائل، وسياسيين وناشطين ومثقفين في المعارضة السورية.. ينشر "العربي الجديد" أجزاء من الكتاب.
أطلق السوريون ربيع دمشق على ذلك الفصل الجميل الذي أعقب صدور بيان 99، والذي تميّز بانتشار روح أصيلة وحرّة، عند نخبةٍ شعرت بأن ضعف شرعية السلطة الجديدة التي جاءت بانقلابٍ على الدستور المفروض بالقوة أصلاً، يقدّم لها فرصةً نادرةً للضغط على النظام، وإجباره على تعديل سياساته، وتغيير علاقته مع شعبه. واتخذ التعبير عن إرادة التحرّر، والخروج من عباءة النظام الأبوي والأوتوقراطي، القاسي والخانق معاً، صورة الانتشار السريع للمنتديات الفكرية والندوات والمحاضرات واللقاءات بين مثقفي وجمهور المعارضة الذي حوّله العنف إلى ظله، بعد عقودٍ طويلةٍ من الإعدام السياسي في سجونٍ هي أقرب، وأحياناً أسوأ من القبور. وقد اشتعلت أذهان المثقفين ذكاءً، وأظهروا حيويةً نادرة، واستعادت الخطابة التي غابت عن الساحة تماماً مكانها. لقد تحوّلت سورية بأكملها إلى ساحة عامة للنقاش والمداولة وبلورة الأفكار والمقترحات والمطالب والتعبير الحر والجريء والصافي عنها. لم تبقَ بلدة، ولا حي، من دون أن يتنادى مثقفوه لإنشاء منتدى، ودعوة المثقفين إلى إحياء النقاش السياسي فيه. كانت تلك، من دون شك، لحظة ولادة السياسة بعد موتها الطويل في سورية الجديدة، سورية ما بعد الأسد، على الرغم من أنها لا تزال بين براثنه وقيوده. سورية الجديدة كانت مجموعةً من
"تعرّفت، بمناسبة ربيع دمشق، على جيل جديد من ناشطي السياسة والمثقفين أيضاً، وشاركت في لقاءاتٍ، وأحييت نقاشات في مدن سورية عديدة، وحاورت سوريين نهمين للفهم والمعرفة والحرية"
الناشطين المستعدّين للتضحية بأنفسهم، من أجل أن يستعيدوا إنسانيتهم، ويعيدوا معنى الإنسانية لمجتمعهم الذي حرم من الحرية ومعنى القانون والحقوق الإنسانية عقوداً طويلة، تارّة باسم الاشتراكية، وأخرى باسم النضال ضد الامبريالية والصهيونية، وثالثة باسم حماية الشعب من التطرّف والإرهاب.
كانت هذه بالنسبة إليّ فرصة لعودتي إلى سورية بالفعل، وليس بالفكر فحسب، على الرغم من أنني بقيت أتابع دروسي في الجامعة في باريس. أصبحت أعيش بوتيرة الحركة التحرّرية السورية، وأنبض بقلبها. وقد تعرّفت، بمناسبة ربيع دمشق، على جيل جديد من ناشطي السياسة والمثقفين أيضاً، وشاركت في لقاءاتٍ، وأحييت نقاشات في مدن سورية عديدة، وحاورت سوريين نهمين للفهم والمعرفة والحرية والمشاركة بعد موت طويل. لقد أصبحت سورية خلية نقاشٍ سياسيّ واحدة، كما لو أن المجتمع السوري قد وُلد من جديد، أو اكتشف ذاته كمجتمع سياسي، فور موت الأسد الأب الذي أسدل على البلاد غلالة سوداء من اليأس والموت والاستسلام والتسليم بالقدر والقنوط من التغيير.
لم يقتصر ربيع دمشق على المنتديات والندوات الفكرية والسياسية، ولكنه كان مناسبةً لاكتشاف السوريين ثقافة حقوق الإنسان والمجتمع المدني، وتكوين الجمعيات ومشاريع الأحزاب، وكسر جدران العزلة الأبدية التي نجح الأسد الأب في فرضها على المجتمع، والنظر خارج الأسوار، وملاقاة العالم الحديث، والتفاعل معه فكرياً وإنسانياً.
وما كان يمكن لمثل هذا الإحياء السياسي السوري أن يمرّ بوجود نظامٍ قام على تأطير الأفراد في كل مناحي وجودهم الفكري والمهني والاجتماعي، وإحصاء أنفاسهم عليهم، نظامٍ فصاميٍّ، يخشى من خياله، ويشك في أي تجمّع، حتى لو تعلق الأمر بجنازةٍ لتشييع ميتٍ إلى قبره. فأعلن، في أقل من شهرين من انطلاقها، وقف جميع النشاطات الفكرية، وإغلاق جميع المنتديات. وكان نائب رئيس الجمهورية، عبد الحليم خدام، قد ألقى، في 25 شباط/ فبراير 2001، من على مدرج جامعة دمشق، محاضرة شنّ فيها هجوماً عنيفاً على ربيع دمشق والديمقراطية، وهدّد فيها بأن النظام لن يسمح بجزأرة سورية، واتهم المنادين بإعادة الحرّيات واحترام القانون، وإزالة المادة الثامنة من الدستور التي تنصّ على أن حزب البعث الحاكم هو القائد للدولة والمجتمع، وهو المسؤول عن إنشاء طبقةٍ من الانتهازيين الذين يتنافسون على إرضاء الحاكم الفرد والسلطة الأمنية، ويزحفون بين أقدامها لقاء منافع وامتيازات عيْنية، اتهمهم بأنهم إما أغبياء أو عملاء لإسرائيل والاستعمار الجديد. وبالفعل تم إغلاق جميع المنتديات، باستثناء منتدى جمال الأتاسي الذي كانت تشرف عليه سهير الأتاسي، والمحسوب على تكتل التجمع الوطني الديمقراطي. وكان ذلك، على الأغلب، مكافأةً لرئيس التكتل حسن عبد العظيم الذي عُرِف بموقفه المتردّد تجاه النظام، وتمسكه بوسائل الحوار وحده.
في صيف عام 2001، عدت إلى سورية لقضاء العطلة الصيفية، وتداولت مع العديد من ناشطي ربيع دمشق في ما حصل. ومن بين ما قلته لرياض سيف، رئيس منتدى الحوار الوطني: لقد جبنتُم، وأخطأتم بانصياعكم لقرار النظام إغلاق المنتديات، وكأنه أمر شرعي ومفروغ منه، كان عليكم أن تقاوموا. قال: كانوا سيغلقونها بالقوة على أية حال، ثم إن عبد الحليم خدام وعدني بأنهم في صدد مناقشة قانونٍ جديدٍ، يسمح بترخيص المنتديات. قلت: هل فعلوا؟ قال: لا. قلت: إذاً خدعوكم، لو كنت مكانكم لما نفّذت القرار، وتركتهم يأتون بأنفسهم لإغلاقها، وختمها بالشمع الأحمر، إذا أرادوا، وكلما سنحت الفرصة نعيد افتتاحها لنظهر
"كنت مصرّاً على أن لا أخذل الناشطين، ولا أنقطع عن زياراتي لسورية، للمشاركة في إحياء بعض هذه الندوات التي كانت الدعوة إليها تتم بالإخطار المباشر والشخصي، وقبل وقت قصير من انعقادها"
إصرارنا على تحقيق أهدافنا، وإلا لن نتقدّم أبداً. لم يفكّر كثيراً، وسألني، كما لو كان ينتظر هذه الفرصة بفارغ الصبر لتصحيح خطئه: أنا مستعدٌّ للمخاطرة بإعادة فتح المنتدى، إذا قبلت بأن تلقي أنت أول محاضرة فيه. قلت: أنا مستعد، لكنني سأضطر إلى العودة إلى باريس لاستقبال الطلبة، وتعريفهم بالبرنامج الدراسي في الأسبوع الأول، وأعود في بداية أيلول/ سبتمبر. وهذا ما حصل.
كان المنتدى قد أعلن عن المحاضرة في 5 أيلول/ سبتمبر في الساعة السادسة. مررتُ على رياض في مكتبه القريب من فندق سميراميس، وذهبنا معاً إلى المنتدى الذي كان يعقد جلساته في منزله في ضاحية صحنايا. وصلنا حوالي الساعة السابعة، وكان الجمهور في كل مكان، في الحديقة الخارجية، وعلى الدرج، وفي القاعة الرئيسية وشرفاتها، كما في خلية نحل. شققنا طريقنا بصعوبة، لنصل إلى المنصّة داخل القاعة الكبيرة، وقلت لرياض: أعتقد أن بإمكاننا أن نبدأ منذ الآن، ولا حاجة لانتظار نصف ساعة إضافية. وعلى كل حال لم يعد هناك أماكن للقادمين الجدد. قدّمني رياض، ثم أخذت الكلمة. وقبل أن أبدأ، خرج من بين جمهور الحاضرين شابٌّ أشار إلى حقيبة صغيرة يحملها، قائلاً: تكلم كما تشاء دكتور، ولا تخشَ شيئاً، لقد أتينا إلى هنا، ومعنا ثياب السجن.
كانت هذه المداخلة السريعة كافيةً لإشعال حماس المشاركين الكثر، بمقدار ما عكست الروح المعنوية، وإرادة العمل والكفاح التي بدأت تنتشر في أوساط النخبة الشابة المعارضة الجديدة. وكان الحضور يعرفون أن إعادة فتح منتدى الحوار الوطني تشكّل، بحد ذاتها، تحدّياً فعلياً للنظام، ويعرفون ثمن ذلك التحدّي، وعلى استعدادٍ لدفعه عند اللزوم. وربما كانت تلك الندوة أحد إرهاصات الثورة القادمة لما شهدته من توتّر عالٍ، وما عكسته من صراعٍ عنيفٍ متنامٍ بين رجال السلطة، ممثلين بعناصر أجهزة الأمن الذين حشدوا كل قوتهم لتفجير اللقاء، والناشطين المتحمسّين الذين بدوا كأنهم اكتشفوا طريقهم، طريق الخروج من الصمت، ورفض الاستكانة، وقبول التحدّي والمقاومة. كان اللقاء تجسيداً لإحدى لحظات الحقيقة التي يتجلى فيها الصراع عارياً، ومن دون أي مجالٍ للتسوية أو المساومة من طرفٍ أو آخر.
كان رجال الأمن الذين احتلوا مسبقاً الصفوف الأمامية، وأعتقد أن عددهم لم يقل عن خمسين نفراً، لا يتركون فرصةً لتوتير الجو، والدفع نحو العنف إلّا انتهزوها، لتبرير إغلاق المنتدى الذي يعني نجاح كسر إرادة الحظر التي فرضها النظام. وكما كانت تقتضيه من هدوءٍ وصبر ومصانعة مراوغة وحشٍ بدائي، وجدت نفسي، في إحدى اللحظات العصيبة، أتوجه إليهم قائلاً: لا تثوروا جميعكم دفعة واحدة أمام أي فكرةٍ لا تروقكم، لأنكم تكشفون في ذلك للناس عن هويتكم، وتظهرون كما لو كنتم فعلاً تابعين للأجهزة الأمنية. من مصلحتكم أن تتدخلوا فرداً فرداً. زعزعت هذه الجملة استقرارَهم، بمقدار ما عرّت خطتهم، فليس لحضورهم وظيفة أخرى سوى تخريب اللقاء، وليس لدى أي فردٍ منهم ما يمكن أن يقدّمه للتدخل في النقاش. ومع ذلك، كاد الاقتتال يندلع أكثر من مرة بين رجال الأمن، المحتشدين في الصفوف الأمامية من حول مائدة النقاش، وبعض الناشطين المتحمسين الذين لم يوفروا عليهم استفزازهم. وكان علي أنا شخصياً أن أبذل جهوداً كبيرة مستمرة، إلى جانب قيادة النقاش، لضبط الوضع والتهدئة، ساعدني عليه فرادة اللحظة والاحترام والنفوذ المعنوي الذي فرضه موقفي على الجميع.
"منذ عام 2002، أصبحت تحت المراقبة الأمنية المستمرة والمباشرة. وكان ملفي قد أحيل إلى جهاز فرع فلسطين الذي عُرِف بأنه الأكثر دمويةً من أي فرع مخابرات آخر"
كان عنوان محاضرتي "مستقبل الإصلاح والتغيير الديمقراطي في سورية، نحو عقد وطني جديد"، والتي جاءت في ما يشبه محاولةً لبلورة أجندةٍ للعمل الديمقراطي السوري للسنوات القادمة (النص الكامل للمحاضرة في موقعي الرسميhttp://burhanghalioun.net) وما إن انتهيت، حتى بدأت المناقشات التي كانت، في معظمها، على شكل مواقف وانتقادات للنظام، وتأكيد التصميم على التحدي والمقاومة. وحاولت، في مداخلتي الختامية، الرد على الاسئلة والتساؤلات حول المستقبل، وبلورة خلاصات ومنهج العمل لمتابعة المسيرة الديمقراطية. كانت من دون شك ندوةً يؤرَّخ لها، تمثل لحظة قوية، وربما لحظة الذروة في مسار ندوات ربيع دمشق ومحاضراته الفكرية السياسية، وفي الوقت نفسه خاتمتها الدرامية. وقد دام اللقاء خمس ساعاتٍ متواصلة، ولم يخرج الجمهور من القاعة إلا بسبب مواعيد الحافلات وانقطاع المواصلات العمومية التي تتوقف عادةً في مثل هذه الساعة.
رفع الحشد الذي حصل بمناسبة المحاضرة، وقُدّر بأكثر من سبعمئة شخص، من معارضة النظام، معنويات قادة المنتدى والناشطين جميعاً، بشكلٍ لم ترَه البلاد منذ عقود. وقد عبّرت النقاشات التي استمرت بعد الثانية عشرة ليلاً حتى الصباح، على نطاقٍ ضيّقٍ جمع مجلس إدارة المنتدى وبعض الشخصيات المقرّبة، عبّرت عن الحماس الذي أثاره اكتشاف جمهور المعارضة قوته وامتحانه إرادته، والآمال التي انتعشت بمتابعة المسيرة، والتخطيط لخطوات أخرى، لكسب معركة فرض المعارضة الديمقراطية نفسها، والاعتراف بشرعية وجودها. وقد شعرتُ أن من واجبي أن أنبه أولئك الذين أخذهم الحماس، وتناولوا مسؤولين بأسمائهم بكلمات نابية، إلى أن يخفّفوا من غلوائهم، ويضبطوا مفرداتهم، حتى لا يثيروا غضب خصومهم، وحتى يبقى لدينا هامش الاستمرار في بناء حركةٍ ديمقراطيةٍ قويةٍ تدريجيا. وما كان لدي شك أننا كنا تحت تنصّت الأجهزة، وقد وصل إلي، فيما بعد، أن كبار المسؤولين السياسيين كانوا يتابعون نقاشاتنا مباشرة، وأن ما حصل في تلك الليلة ما كان يمكن أن يمر من دون رد فعل قوي من السلطة.
ما كاد المشاركون في الاجتماع الأخير يغادرون ضاحية صحنايا إلى منازلهم، حتى كان رجال الأمن في استقبالهم، فمنذ الصباح الباكر، أُلقي القبض على بعض أعضاء مجلس إدارة المنتدى، ومنهم النائب رياض سيف، وأودعوا السجن. واستُكملت الاعتقالات في اليوم التالي. وأُلحقت بالجميع تهمٌ معهودة وجاهزة حول "وهن نفسية الأمة" و"إثارة الشغب" و"تغيير الدستور بالقوة". وتلقّت الأغلبية منهم أحكاماً بالسجن خمس سنوات، ومُيّز الاقتصادي عارف دليلة بمضاعفة المدة، من دون تفسيرٍ سوى الانتقام منه لأصوله المذهبية. وتوسّعت حملة الاعتقالات، لتشمل ناشطين وشباناً شاركوا في المنتديات، أو في محاولات إنشاء أو إحياء الجمعيات الحقوقية أو المجتمع المدني.
لم تنجح العقوبات القاسية وغير المبرّرة، ولهذا السبب بالذات، في أن تخمد نار المعارضة الناشئة ضد حكم أجهزة القمع التي وصفها أنطون مقدسي عن حقٍّ بأنها "ديكتاتورية من دون ديكتاتور"، لما كان يسم رئيسها من ضعف سياسي، وافتقار إلى الحنكة والصدقية، حتى أطلق السوريون عليه نكتةً تقول إن أفضل هدية يمكن تقديمها له هي المصّاصات الولادية.
لم يثنِ تكشير النظام عن أنيابه، وقمعه ناشطي المنتديات والمجتمع المدني، الجمهورَ السياسي الجديد الذي استعاد حيويته بعد موت طويل عن مشروعه، وتنظيم اللقاءات مع المثقفين، ولكن بصورة أكثر سرّية. وكنت مصرّاً على أن لا أخذل الناشطين، ولا أنقطع عن زياراتي لسورية، للمشاركة في إحياء بعض هذه الندوات التي كانت الدعوة إليها تتم بالإخطار المباشر
"أيّ شجاعةٍ ورباطة جأش تدفع هؤلاء الشباب إلى المغامرة بالمشاركة في ندوة سرّية، يمكن أن تكلفهم سنواتٍ طويلةً في سجن أقسى من سجون الاحتلال"
والشخصي، وقبل وقت قصير من انعقادها. ولا أنسى ذلك اللقاء الذي جمعني، في إحدى زياراتي، في شقة صغيرة في مدينة السلمية في وسط البلاد، حيث رأيت المشاركين يدخلون كالحرامية، واحداً بعد الآخر، حتى لا يُلفتوا نظر الشرطة السرّية المزروعة في كل مكان. ولعلني لا أبالغ إذا قلت إنه ربما كان هناك أكثر من مئة شخص في أقل من أربعين متراً مربعاً موزّعين على ثلاث غرف، يطل منها بعضهم برؤوسهم من فترة إلى أخرى، ليشاهدوا المحاضر، ويسمعوا بشكل أفضل.
أيّ شجاعةٍ ورباطة جأش تدفع هؤلاء الشباب إلى المغامرة بالمشاركة في ندوة سرّية، يمكن أن تكلفهم سنواتٍ طويلةً في سجن أقسى من سجون الاحتلال، أيّ أبطال كانوا. في تلك اللحظات المأساوية الأولى لمسيرة الحرية السورية، تملّكني الحزن والضيق لرؤيتهم يصارعون تنين الطغيان بصدورهم العارية، وشعرت بالألم إزاء هذا المصير البائس الذي يضطر فيه شعبٌ كاملٌ إلى القبول بهذه الشروط القاسية، ليتعرّف على نفسه، ويتداول في مسائل مستقبله الغامض، بينما تظل قاعات المراكز الثقافية، ومدرجات الجامعات، مغلقة، إلا على نخبةٍ بيرقراطيةٍ تحولت إلى جثةٍ هامدة، لم يعد لديها أي خطاب، إنما تقتصر مهمتها على حرمان الآخرين، أي الشعب، منه وتحريمه، وإجبار الجمهور على الصمت والطاعة. ولا أدري إذا كنتُ قد نجحت في إخفاء دمعةٍ تغلبتْ عليَّ، وأنا أَعِدهم بأن هذا لا ينبغي أن يستمر.
حصل الأمر نفسه في حلب، حيث نظّم الشباب لقاءً لم يعلنوا لأحد من المدعوين عن مكانه إلا قبل ساعةٍ من بدئه، حتى لا تخبر به أجهزة الأمن التي اعتادت أن تقطع الطريق على أي مكانٍ تعلم أنه سيشهد لقاءً من أي نوع. اقتادني شبّان إلى هناك، وكان المنزل العربي الواسع حاشداً بالناس، حتى امتلأت الأسطح نفسها بالمشاركين. وقد نجحت المفاجأة بالفعل. وكان هذا الكفاح المرير من أجل تمرير ندوةٍ أو لقاءٍ، على الرغم من إرادة الأجهزة الأمنية، يوّلد شعوراً عميقاً بالإنجاز والقوة وسعادةً لا تقارن. وفي صيفٍ تالٍ، بعد أن بدأت أجهزة الأمن تعرف أن زياراتي للبلاد لا تخلو من مشاريع لقاءاتٍ من النوع نفسه، اتصل بي رئيس فرع المخابرات العسكرية مباشرة، وطلب مني أن أعلّق اللقاء الجديد الذي كان مقرّراً في حلب. قال: أريد أن أعلمك أن هذا اللقاء ممنوع، وينبغي إلغاؤه. قلت: أنا لا أستطيع أن ألغي لقاءً وافقت عليه بمحض إرادتي. قال: سوف نمنعه بالقوة. قلت: في هذه الحالة تحمل مسؤوليتك، والغِ اللقاء بقرار رسمي، ولا تطلب مني إلغاءه. قال: أنا أتحمّل مسؤوليتي، وسوف أُعلم أصحاب الدعوة بالقرار. فكّرت أنني كان من الممكن أن أصر على عقد اللقاء، ولكني وجدت أن إظهار التحدّي لمنظومة أمنية متوحشة سوف يحرمني من العودة إلى البلاد، ومن التواصل مع ناشطي الداخل، ودعم الحركة الديمقراطية التي انطلقت على الرغم من قساوة الاعتقالات وشدة القمع.
كانت علاقة أجهزة الأمن بي، وتعاملها مع زياراتي للبلاد، قد تغيّرت كثيراً بعد محاضرة الخامس من أيلول/ سبتمبر في منتدى الحوار الوطني، فخلال السنوات الخمس التي سبقت ربيع دمشق، وكانت سنوات موت سياسي موازٍ لمرض/ موت الأسد، لم تحاول الأجهزة الأمنية الضغط عليّ، أو إيذائي، سواء أكان ذلك مراعاةً لمكانتي العلمية، أو لموقعي مثقفا عربيا معروفا، أو لإقامتي في أوروبا وعلاقتي مع الوسط العلمي الدولي، أو ربما لاعتقادها بأن أستاذاً يعمل في السوربون لا يمكن إلا أن يكون تحت الحماية الدبلوماسية الفرنسية. وكان هذا يعطيني هامشاً كبيراً من الحرية في الكلام، والجرأة على انتقاد مواقف الأجهزة نفسها، لم تتوفر، على الأغلب، لغيري، وكنت مصرّاً على الاستفادة منها حتى النهاية. لكن الأمر اختلف تماماً بعد لقاء صحنايا في منتدى رياض سيف، وكان أول مظاهر التغيير إسقاط وضعي "خارجيتي"، ومعاملتي على أنني من الداخل، بإصدار قرارٍ يقضي بمنعي من المغادرة إلا بإذنٍ من الأجهزة المختصة.
في أول عودة لي إلى دمشق، بعد محاضرتي عن "مستقبل الإصلاح والتغيير في سورية"، أرسلني مراقب الجوازات إلى "غرفة المحفوظات"، أي مكتب الأمن، وهناك سُلِّمت لي رسالة مختومة كُتِب عليها رقم 253 على ما أذكر، وطُلب مني مراجعة "الفرع". سألت الضابط عن العنوان، قال: اسأل أنت عنه في الخارج. قلت: من؟ قال: أي شخص. قلت: تريدونني أن أراجع فرعاً أمنياً وترفضون إعطائي عنوانه؟ سمعني، والغضب بادٍ على وجهي، ضابطٌ رفيع، فاقترب مني وقال: لا تشغل فكرك، أي سائق تكسي يقودك إلى هناك.
وبالفعل، لم يمضِ يومان على وصولي، حتى ركبت أول سيارة أجرة مرّت بجانبي، وسألت السائق إذا ما كان يعرف عنوان الفرع 253، فقال: تفضل. وصعدت. قلت مازحاً: أتمنى أن تتلقوا ثمناً لسوقكم الناس إلى المخابرات، وأن لا تؤدّوا هذه الخدمة مجاناً على الأقل. جفل في البداية من سؤالي، ولم ينطق بكلمة. طمأنته بأنني زائرٌ أقيم في المهجر، ولست في وارد توريطه. قال: هكذا هي الحياة هنا. لم يسألني من أين أتيت، ولكنه بعد دقائق اطمأن على الأغلب إلى أنني لست من سكان البلاد، لأنه لا أحد يمزح هنا بمثل هذه الأمور. غيّرت الموضوع، وأكملنا حديثنا حول أمور ثانوية. وعندما وصلنا مددت يدي لأنقده حقه، قال: لن آخذ منك قرشاً، اذهب فرّج الله عنك. قلت: كيف؟ قال: لا أريد منك مالاً، اتركه معك ربما تحتاجه. ودعا لي أن يفكّ الله أسري. قلت: أنا لست مهدداً ولا خطر علي. قال: لن آخذ منك قرشاً، فرّج الله عنك. وأصر. ولم أشأ أن أجرح مشاعره وتعاطفه الإنساني النبيل معي، وأقلّل من قيمة لفتته ونبلها، فودّعته وقلت لا تخف سأخرج بإذن الله. كان يعتقد أنني ذاهبٌ إلى حتفي، كعشرات الشباب والرجال الذين اقتادهم إلى الفرع، وربما من أقاربه وأهل بيته، ولم يخرجوا بعدها أبداً.
"منذ عام 2002، أصبحت تحت المراقبة الأمنية المستمرة والمباشرة. وكان ملفي قد أحيل إلى جهاز فرع فلسطين الذي عُرِف بأنه الأكثر دمويةً من أي فرع مخابرات آخر"
منذ عام 2002، أصبحت تحت المراقبة الأمنية المستمرة والمباشرة. وكان ملفي قد أحيل إلى جهاز فرع فلسطين الذي عُرِف بأنه الأكثر دمويةً من أي فرع مخابرات آخر، يملك سجوناً وغرف تعذيبٍ في مقره نفسه. وفرع فلسطين هو فرع الانتقام والتأديب والتغييب النهائي. تخصّص في التنكيل بالمناضلين الفلسطينيين الذين حاول الأسد الأب أن يثير ضدهم نقمة الشارع السوري، ثم حاول أن يجنّدهم وقضيتهم في جيشه وأجهزته، ودخل من أجل ذلك في حربٍ مع ياسر عرفات، لأنه (عرفات) أراد أن يحتفظ باستقلال قراره، ولم يتراجع عن ذلك، فطرده من دمشق، في سابقةٍ لم تحصل في أي مكان في العالم.
هكذا استعدت "سوريّتي"، وصرت مضطراً لمراجعة الأمن العسكري في الدخول إلى سورية والخروج منها، كما هي حال أي سوري، لكن هذا كان يعني، بالنسبة إلي، أنا المقيم خارج البلاد، القبول بالتهديد الدائم بأن أُمنع من الخروج في أي مرةٍ يريدون ابتزازي، والضغط علي. وهذا ما حصل مراتٍ عديدة، عندما كنت أضطر إلى العودة من المطار، في طريقي إلى باريس، لمراجعة المخابرات، والحصول على إذن الخروج (لا مانع من المغادرة)، بعد أن أكون قد فقدت رحلتي، وسمعتُ من ضابط الأمن بعض الشتائم على مسؤول أمن المطار "الذي أساء فهم البرقية، أو ادّعى أنه لم يتلقَّ إذناً بالسماح لي بالخروج". وفي إحدى المرات، بعد أن قدم لي رئيس الفرع كالعادة القهوة، وحدثني عن إنجازات النظام، وأظهر الكثير من الاحترام، طلبت منه رقم برقية أو إذن الخروج، كالعادة أيضاً، قال: قرّر "المعلم" أنه لا يجوز أن تستمر معاملة برهان غليون بهذه الطريقة، وطلب إلغاء أي إجراءٍ ضدك، وبإمكانك منذ الآن الخروج والدخول متى تشاء. قلت: أنا شاكر لك وللمعلم، لكن سأغادر غداً وربما لن يصل القرار الجديد بالسرعة الكافية إلى ضابط أمن المطار، وأرجو أن تعطيني صورة عن القرار أرجع إليه إذا حصل ذلك. قال: لم تعد بحاجة إلى ذلك، وأنا سأُبرق الآن إلى ضابط المطار.في اليوم التالي، قدّمت جواز سفري كالعادة لضابط العبور الذي طلب مني من جديد مراجعة مكتب المحفوظات، لأن علي مراجعة الأمن. قلت إنني راجعتُه، وذكرت له ما حصل بالأمس. قال: من غير الممكن ذلك، لأن برقية منع المغادرة وصلت هذا المساء، في التاسعة. وكانت الساعة حوالي الثانية عشرة. ففهمت أنه فخ. قلت: هل يمكنني مقابلة مسؤول أمن المطار؟ قال: انتظرني هنا. وذهب ثم عاد بعد دقائق، مشيراً إليّ أين علي الذهاب.
دخلت مكتب رئيس أمن المطار، وكنت برفقة ابنتي في السادسة من عمرها، وكانت القاعة مزدحمةً بكبار الضباط الذين يجلسون على كنباتٍ ينتظرون، على الأغلب، دورهم للتدخل والوساطة. سألني المقدّم المسؤول، الذي كان أصغرهم سناً: ما المشكلة؟ ذكرت له ما رويت للتو بالتفصيل، وأعطيته اسم رئيس الفرع الذي أخبرني بالقرار الجديد، ورقم هاتفه، للتأكيد على صحة روايتي. قال: انتظر. وبعد قليل، حاول الاتصال بالفرع المذكور، فلم يجد أي ضابط مناوب هناك. سأل الحارس الذي رد على الهاتف إذا ما كان بإمكانه أن يُخرج ملفي الأصلي في الفرع، ويقرأ له ما جاء فيه. فأجاب بالنفي. صرخ المقدّم بالحارس: كيف لا يوجد أي ضابط مناوب في الفرع؟ وعلق السماعة، ثم نادى مساعده في أرشيف المكتب، وطلب منه أن يأتي له بملفي في أمن المطار. بعد قراءته، طلب مني أن أجلس، وناداني باسم دكتور. ففهمت أنه عرف بعض المعلومات الإضافية عني. بدا حائراً، فخطر لي أن أطمئنه. فتشجعت وقلت له: إنني مغتربٌ مقيم خارج سورية، وأستاذ في الجامعة الفرنسية، وكاتبٌ معروف لدي مؤلفات عديدة، و"يمكنك أن تثق بأنني لم أقتل قتيلاً، ولا سرقت أموال الدولة، وليس علي أي جرم. ربما كتب أحدٌ تقريراً ضدي، كما يحصل كثيراً في بلادنا".
في تلك الأثناء، بدأت ابنتي الصغيرة تجهش بالبكاء، خوفاً من أن لا تستطيع السفر ورؤية أمها، ولم يكن قد بقي لإقلاع الطائرة إلا أقل من ساعة. فكّر المقدم ملياً، ثم نادى مساعده وطلب منه أن يحضر ورقة بيضاء أملى عليه أمام الجميع بصوت عالٍ: أنا المقدّم مسؤول أمن المطار أجزت على مسؤوليتي السماح للمواطن برهان غليون بالخروج، والالتحاق بمقر عمله. ووقّع عليها وسلمني الجواز وقال: تستطيع أن تسافر الآن. كدت لا أصدق عينيَّ، نهضت واقفاً يغلبني الانفعال، وقلت: اسمح لي أن أحييك، وأحيي فيك روح المواطنة الحقّة، أمثالك هم من يُعتمد عليهم لإصلاح البلاد وتقدّمها.
"استعدت "سوريّتي"، وصرت مضطراً لمراجعة الأمن العسكري في الدخول إلى سورية والخروج منها"
كانت هذه من القصص والأحداث التي حفرت في ذاكرتي، لأن ما قام به الضابط كان من الأعمال النادرة، بل المستحيلة في نظام الأسد، لما انطوى عليه من روح النخوة والشهامة معاً، وقد تركت أثراً عميقاً عندي، وبعثت فيَّ الأمل بأنه لا يزال هناك رجالٌ أحرار قادرون، على الرغم من كل شيء، على القيام بعمل بطولي. وكان عملاً بطولياً بالمعني الحرفي للكلمة في معايير النظام الأمني السائدة في ذلك الوقت. وعندما رويت القصة لصديقٍ كان من أنصار النظام قبل أن ينفصل عنه، قال لي: لقد حكم هذا الضابط من دون أن يدري على نفسه بالموت، لن ترَه بعد الآن أبداً.
وكم من مرةٍ أُجبرت على الانتظار في مطار دمشق حتى الفجر، فقط في انتظار أن يتكرّم "مكتب المحفوظات"، ويناولني الرسالة التي تذكّرني بـ"فريضة" التوجه إلى فرع الأمن في دمشق. ولكن مقابل ذلك، كنت أعرف أنني كنت أحظى، بالمقارنة مع جميع المعارضين الآخرين، بمعاملةٍ خاصة؛ فقد كانت التحقيقات معي تأخذ طابعاً ودّياً، حتى لو أنها لا تحيد عن توجيه التهديدات المبطنة والتحذيرات، لكن من دون أي عنفٍ ظاهر، ولا تشبه أبداً التحقيقات المعهودة في فروع الأمن السورية. وكانت جميعُها تجري مع رئيس الفرع، وتتسم بكثير من الاحترام الظاهر. كان من الواضح أنهم لا يريدون اعتقالي، لموقعي الأكاديمي في فرنسا، لكنهم كانوا يريدون وضعي تحت التهديد والضغط الدائم، حتى أكفّ، من تلقاء نفسي، عن زيارة دمشق، عاصمة مملكتهم/ مزرعتهم الخاصة.