تتنافس المقاطع المصورة القصيرة على غزو شاشات وسائل التواصل الاجتماعية، ساعية لجذب العدد الأكبر من المشاهدين، لدرجة إيصالهم إلى حالة من إدمان “المقطع” دون الكل. أي أن ذائقة العين كما الأذن من جهة، والاستيعاب الفكري أو الجمالي من جهة أخرى، ستبقى محصورة بمشهد أو حدث أو استعراض قصير لصور محدودة العدد. حتى سينمائيًا أو تلفزيًا، فإن القائمين على هذه “الحداثة” البصرية، والناشطين في تقاسم هذه اللقطات الانتقائية، باتوا على قناعة تكاد تصبح واسعة القبول، تقول بأن عرض مقطع أو أكثر، من عمل مرئي ما، مهما كانت درجة أهميته الجمالية والفكرية، سيُغني عن إكمال المتابعة ومشاهدة كاملة للمنتج الإبداعي. وينجم عن ذلك، انتفاء الحاجة إلى مشاهدة فيلم سينمائي من بدايته إلى نهايته، أو قراءة رواية أو كتاب فكري، فالمقطع المصور أو السردي أو الروائي، يُفترَض به أن يكفي ليعطي الإنسان المتلقي ما يلزمه من زاد فكري وجمالي. أو هكذا هم يحسبون، فيتحول العمل الإبداعي -فنًا أو فكرًا- إلى منتج “فاست صورة” يبحث عن الإثارة العاطفية أو الجنسية أو السياسية.. إلخ، بعيدًا من أي شكل من أشكال الإلمام بالمادة في مجملها، وهو ما يؤثّر -حتمًا- في درجة نمو الوعي لدى المتلقي.
مع التحوّلات العربية أخيرًا، من ثورات وثورات مضادة، ومن احتجاجات أو ركود أو سلبية؛ تمكّنت بعض وسائل الإعلام، في دول تحررت -نظريًا أو فعليًا- من سطوة الرقابة الرسمية، أو أنها تدعي ذلك، أو أنها انتقلت من رقابة إلى رقابة مختلفة، من حيث القائمين عليها، تمكنت هذه الوسائل من استنساخ ما تتابعه من برامج على أقنية عالمية، ترتبط ثقافيًا بماضيها الاستعماري معها. فنرى الكثير من الأقنية المغاربية واللبنانية تستنسخ حرفيًا برامج حوارية اجتماعية أو فنية أو سياسية، من فرنسا والعالم الفرنكفوني.
استنساخ مترافق مع افتقاد شبه كامل، لأي درجة من التكوين ومن الخبرة، في إعداد وتقديم مثل هذه الحوارات. وبالتالي، فهذا النقص البنيوي سيجعل من المجدي، في ذهنية القائمين على هذه النوعية من البرامج، التركيز على الإثارة والإثارة، ثم الإثارة. فليس المطلوب من الحوار السياسي أن يجذب المتابع، من حيث حمولته الخبرية أو التحليلية أو التوعوية أو التوجيهية/ الإملائية، إنما يجب أن يبحث المُنَشِّط -وأن ينجح في سعيه- عن إثارة الضيوف لتتعالى الأصوات، وربما الأحذية، ويحصل ما يجذب ملايين المشاهدات على مواقع التواصل، لتلك الفقرة الساخنة.
في بعض التلفزات، وأخص التونسية لاهتمامي البحثي في متابعتها، صار من شبه المطلوب في دفتر الشروط لأي برنامج “حواري” أن يكون صراع ديكة أو حلبة صراخ. وكأنّ في العقد بندًا يفرض على كل حلقة أن تُنتِجَ مشهدًا واحدًا على الأقل لكي تتداوله وسائل التواصل، كحدثٍ مرئيٍ فضائحيٍ. وفي آخر الحوارات “الجادة”، ظهر مُهرّجٌ يرغي ويزبد تعليقًا على مقطع مصور للسفير الفرنسي الذي يرقص الفولكلور التونسي، تحببًا أو تقربًا أو تزلفًا، فنعته بما حفلت به الخزينة السوقية من تعبيرات واتهامات، طالت حياته الجنسية واستعماريته المُبطّنة، وكاد السيد المثقف المحاور أن يوجد رابطًا سياسيًا بين هذا المقطع الترفيهي لسفير يرقص، وانتهاكات “إسرائيل” لحقوق الشعب الفلسطيني، لم لا؟ وبالتأكيد، فقد ضحكت المذيعة “الجادة” طبعًا، وصفق جمهور الأستوديو بالأسلوب الأوتوماتيكي المعتاد، وتم تداول هذا المقطع آلاف المرات، ليقوم المئات بالثناء تعليقًا على “وطنية وقومية” هذا الشتّام وطرافته. من جهته، فمن شبه الأكيد أن المنتِج قد فرح بهذا الإنجاز، الذي يفترض حتمًا -ويسعى لترسيخ فرضيته- أن المتلقي غبي بالفطرة، يبحث عن الإثارة وعن الفضيحة، بعيدًا من أي قيود. فإن واجهته بسوقية مستوى الطرح، فسرعان ما سيجيبك، بالفم الملآن، بأنها “حرية الرأي والتعبير” يا هذا.
الرائي الغربي يحتوي على مثل هذه الحوارات بالطبع، ولكنه أيضًا يُقدم خيارات متنوعة أخرى ذات مستوى عال من العمق والمعرفة والجدية، وعلى المتلقي أن يختار، والتحجج بالقول إن هذا النوع قد غزانا من الشمال “الاستعماري” عبر النافذة التلفزيونية، بعد أن غادرنا من باب حرب التحرير والاستقلال، هو حقٌ جزئي يراد به باطلٌ كاملٌ.
منذ زمن ليس ببعيد، كان أخي السينمائي يُصرّ على أن مشاهدة أي عمل تفترض حتمًا منا أن نتابعه من “الغلاف إلى الغلاف”. وكان لا يترك مقعده إلا عند إطفاء الشاشة وإنارة القاعة السينمائية، ولطالما اعتبر أن مشاهدة “التيترات” وأسماء العاملين هي جزء من طقس المشاهدة السينمائية بالنسبة إليه. وبالطبع، كان يعيب فعل من يغادر المكان قبل انتهاء اللقطة الأخيرة، معتبرًا أنه غير متذوّق للعمل الفني. من حسن حظه اليوم أنه غير مُلمّ بوسائل التواصل، ولا يتابع “لقطاتها” التي من المؤكد ستصيبه بالغثيان، سينمائيًا على الأقل، كما تصيب الكثيرين، وأنا منهم، بالغثيان سياسيًا وفكريًا وحضاريًا.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...