"عطب الذات..سورية..ثورة لم تكتمل".. رياض الترك وآخرون (2-4)
برهان غليون
2019-04-13
يصدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، في بيروت بعد أيام، كتاب المفكر والأكاديمي، وأول رئيس للمجلس الوطني السوري، برهان غليون، "عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل.. سورية 2011 - 2012" في 528 صفحة، ويتضمن إطلالةً على لحظة الثورة السورية، ومقدماتها وجريانها، من خلال شهادة نقدية مباشرة، يطرحها غليون، بشأن الأداء العام لشخصيات وقوى وفاعليات وفصائل، وسياسيين وناشطين ومثقفين في المعارضة السورية.. ينشر "ايصدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، في بيروت بعد أيام، كتاب المفكر والأكاديمي، وأول رئيس للمجلس الوطني السوري، برهان غليون، "عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل.. سورية 2011 - 2012" في 528 صفحة، ويتضمن إطلالةً على لحظة الثورة السورية، ومقدماتها وجريانها، من خلال شهادة نقدية مباشرة، يطرحها غليون، بشأن الأداء العام لشخصيات وقوى وفاعليات وفصائل، وسياسيين وناشطين ومثقفين في المعارضة السورية.. ينشر "العربي الجديد" أجزاء من الكتاب.
على الرغم من كل ما حصل، وكان قاسياً، بشكل خاص، على ناشطي ربيع دمشق، المسجونين والملاحقين، كان يخامرني دائماً الشعور بأننا نجحنا في إشعال شمعة، وثني ذراع النظام، وفرض المعارضة العلنية أمرا واقعا، حتى مع استمرار الاعتقالات. وكنت حريصاً على ألّا أقطع زياراتي لدمشق، وألّا أتخلى عن متابعة النشاط الفكري والسياسي، إلى جانب المعارضة الوليدة، المكوّنة أساساً من مثقفين وأطباء ومهندسين وطلبة متميّزين، ومتحمسين للعمل، ومستعدين للتضحية، كما لم يحصل أن رأيت ذلك من قبل. وكنت لا أوفر فرصةً تسمح لي بالمساهمة في تعزيز حضور المعارضة، وتأكيد وجودها. وفي هذا السياق، قبلت المشاركة في كتاب للحوار الوطني حول راهنية الديمقراطية، حدثني عنه شاب خرج حديثاً من السجن، وأراد أن يبدأ به تأسيس دار نشر جديدة سماها "بترا" (أصبح صاحب دار النشر لؤي حسين، بعد الثورة، رئيساً لفريقٍ وقف بين النظام والمعارضة أطلق عليه اسم "تيار بناء الدولة"). وكي أستفيد من المبادرة، وأوسّع نطاق تأثيرها، اتفقت معه على أن أتوسّع في مساهمتي في الحوار، لتطال موضوعات أشمل، وتصدر في كتاب مستقل. وقد صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام 2003 بعنوان "الاختيار الديمقراطي في سورية". وقد طرحت فيه المسائل الخلافية التي تعوق التوصل إلى تفاهمٍ بين الناشطين السوريين، ومن بينها وضع اليسار والعلمانية والأصولية الإسلامية والطائفية والأقليات والمواطنة والدولة الديمقراطية والعقد الوطني والمصالحة الوطنية والمواطنة.
"رياض الترك قاس لا يرحم مساعديه، ولا منافسيه أبداً، أوتوقراطي نموذجي، ووسواسي مسكون بالظنون، لا يطمئن لأحد، حتى نفسه" كنت أعتقد أن المهمة الرئيسية التي كان علينا، نحن المثقفين، إنجازها في معركة التحرّر والتحول السياسي التي أصبحت حتميةً، تشجيع الأحزاب والقوى السياسية والناشطين على الخروج من السرية، وفرض فكرة وجود معارضة على النظام، ومساعدتهم على تجاوز خلافاتهم، وتذليل العقبات التي تحول دون تشكيل قطبٍ ديمقراطيٍّ، يضم الجميع. وانصب جهدي الرئيسي على التقريب بين أبرز شخصيتين، كان لهما التأثير الأكبر على مصير المعارضة، أو بالأحرى على انقسامها، بعد جمال الأتاسي الذي قاد المعارضة السورية حتى وفاته، في إطار التجمع الوطني الديمقراطي، خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، بينما كان رياض الترك لا يزال نزيل السجون. (كان جمال الأتاسي 1922 - 2000، أبرز شخصيات المعارضة في السبعينيات، من المؤسسين الأوائل، مع ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، لحزب البعث العربي الاشتراكي. تحول إلى الناصرية بعد الوحدة السورية المصرية، وأصبح أحد أهم قادتها. طبيب نفسي ومفكر حاول المشاركة في الجبهة التقدمية التي شكلها الأسد الأب بعد استلامه السلطة، أملاً بتدشين حقبة من التعددية السياسية، لكنه سرعان ما انسحب منها بعد أن رفض الأسد تغيير المادة 8 من الدستور التي تنص على أن حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع، وبقي حتى وفاته زعيماً للمعارضة. وقد حل حسن عبد العظيم محله في قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي الناصري، وكذلك في قيادة التجمع الوطني التقدمي الذي ضم معظم تشكيلات المعارضة اليسارية والليبرالية السورية في ذلك الوقت. واتخذ رياض الترك الموقف ذاته من جبهة الأسد التقدّمية، واضطر نتيجة ذلك إلى الدخول في السرية، إلى أن اعتُقل عام 1981 وبقي في السجن حتى عام 1998، قبل أن يعاد اعتقاله في عهد الأسد الابن عام 2001 ليخرج بعفو خاص أواخر عام 2002).
كان رياض الترك ابن مدينة حمص، وقائد الانشقاق الشهير والجريء في السبعينيات من القرن الماضي داخل الحزب الشيوعي السوري، المقرّب من الاتحاد السوفياتي، ضد زعيمه التاريخي، خالد بكداش، كان صاحب شخصية فريدة، تجمع بين التواضع والبساطة الشعبية والصلابة السياسية إلى حد التصلب. وكان رجل مبادئ، أفنى حياته في سبيل قضيته، وتبنّى، بعد خروجه من السجن الطويل، على الرغم من شيوعيته، قضية الديمقراطية، أو بالأحرى أطروحة إسقاط النظام الطاغية بأي ثمن. وكان، عدا عن ذلك، رجلاً شجاعاً لا يخشى شيئاً، ولا يهاب المغامرة، يعيش جل وقته تحت الأرض، لكنه لا يخاف التحليق في الفضاءات الشاهقة، جاهزاً دائماً للعراك، والسير على حافّة الهاوية. رجل راديكالي في دمه، وعدو لا يضاهى لنظام الأسد الذي أودعه الزنزانة المنفردة سنواتٍ طويلة، من دون محاكمة ولا سؤال. لكنه كان، في الوقت نفسه، وفي العمق، رجلاً قاسياً لا يرحم مساعديه، ولا منافسيه أبداً، أوتوقراطياً نموذجياً، ووسواسياً مسكوناً بالظنون، لا يطمئن لأحد، حتى نفسه. وقد أطلق عليه أنصاره اسم مانديلا سورية، لما تمتع به من صلابة مبدئية، وما قضاه من سنوات طويلة في السجون السورية، وإن كنت أرى في المانديلية القدرة على التسامح والمصالحة التاريخية، والتطلع إلى المستقبل، وقوة الانتصار على الذات، وتجاوز الأحقاد وعذابات الماضي من أجل الآخرين، أكثر من الإشارة إلى صلابة العزم، والقدرة على التماسك في سجون الإذلال والمقاومة الشرسة للظلم العاري.
منذ خروجه من سجنه الطويل عام 2000، رفع رياض الترك سقف المعارضة أعلى ما يمكن، عندما أطلق عبارته الشهيرة: "مات الديكتاتور"، التي وقعت كالهزة الأرضية على نظامٍ اعتاد الناس أن يتحدّثوا عنه بصوت منخفض، حتى عندما لا يريدون انتقاده، خوفاً من التأويل المغرض لكلامهم. كان ذلك التصريح بمثابة شعار المرحلة، وإشارةً إلى إطلاق معركة
"حسن عبد العظيم إصلاحي، يكره العنف والمواجهة، يبحث عن الحلول الوسط و"تحت الوسط"، ويمارس التقية إلى هذا الحد أو ذاك" الحريات العامة. واستكمله بعد التدخل الدولي في العراق، وإسقاط نظام صدام حسين، بتصريح لا يقل جرأة عن الأول، عندما قال إن التدخل وضع العراق على عتبة الصفر، بعد أن كان تحت الصفر. ما فُسِّر من اليساريين والديمقراطيين بأن كل الوسائل مشروعة للتخلص من الاستبداد، بما فيها التدخل الدولي. وهو ما يعادل الكفر في نظر اليسار الماركسي والقومي الذي كان يسيطر على الساحة السياسية. وسوف يجد هذا الموقف صداه في الصراع داخل صفوف المعارضة والمجلس الوطني في نهاية عام 2011.
أما حسن عبد العظيم الذي احتل منصب الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي مكان الراحل جمال الأتاسي، فقد كان عكس سلفه تماماً. من ريف دمشق، مغموس بثقافة الأرض، رجل متأنٍّ بطيء الحركة، حيسوب، يكره المخاطرة، مهما كانت، ويفضل السير بمحاذاة الجدار، ويتجنب المعابر غير المطروقة والشعاب الصعبة. إصلاحي، يكره العنف والمواجهة، يبحث عن الحلول الوسط و"تحت الوسط"، ويمارس التقية إلى هذا الحد أو ذاك، كي يضمن الاستمرار والعمل السياسي، في كل الظروف، ويبرع في تدوير الزوايا إلى حد التواطؤ. لكنه كان، في الوقت نفسه، وفي هذه السمة، يلتقي مع رياض الترك، رجلاً عنيداً ومتمسّكاً بقوة بالسلطة والقيادة، وغير مستعدٍ للتنازل عنها لأحدٍّ بأي ثمن. كان كل ما يتصف به شخصياً يضعه في تناقضٍ قاطعٍ مع منافسه وخصمه رياض الترك.
هكذا بدأت تتبلور، منذ ولاية الأسد الابن عام 2000، معالم حقبة سياسية جديدة، مختلفة تماماً عما سبقها من مواتٍ، اختفى بسببه أيُّ فكرٍ أو عمل سياسي. ومنذ البداية، تخبط الأسد الصغير في تحديد أسلوب مواجهته لحركة المطالب الديمقراطية الصاعدة، وتردّد بين إظهار التجاوب مع مطالب النخبة المثقفة والسياسية، لنيل قبولها والتحرّر من عباءة الوراثة العائلية، أو القمع الوحشي لردع الناشطين، قبل أن تتنامى أوهامُهم وأحلامهم بالتغيير، ويصبح من الصعب سد الثغرة التي يفتحونها. وفي ثنايا هذا التخبط الاستراتيجي والتردد السياسي، ولدت حركة ربيع دمشق، وما شهدته من إطلاق نشاط سياسي، لم يكن الحكم الجديد ينتظره. لقد بدأت "مملكة الصمت"، أو سورية حافظ الأسد، كما وصفها رياض الترك، في إحدى أكثر تعبيراته إيحاء، تفقد صمتها وتستعيد لغتها.
اصطفّ وراء رياض الترك الرديكاليون والناقمون والباحثون عن التميز في تحدي السلطة القائمة، والاحتجاج عليها، بصرف النظر عن توجهاتهم الأيديولوجية، بل ربما كان أكثرُهم أقرب إلى الاتجاهات اليمينية الإسلامية والليبرالية. ووقف وراء عبد العظيم ذاك الطيف المتردّد الذي يهاب المواجهة والمغامرة، من أصحاب التوجهات القومية أو اليسارية أو الإسلامية، الذي يعتقد أن جميع الخيارات المطروحة سيئة، فالارتماء في معركة انتزاع الحريات الديمقراطية يمكن أن يتحوّل إلى تضحياتٍ مجانيةٍ لمصلحة منافسيهم، بينما لا يعني الاستمرار في الصمت، مع اليأس المطلق من إمكانية إصلاح النظام، سوى التسليم بالأمر الواقع والانتحار السياسي.
"كان رياض الترك يشعر أن الإسلاميين أقرب إليه سياسياً من اليساريين الآخرين، قوميين كانوا أو ماركسيين" والمدهش أن رياض الشيوعي، على الأقل في الأصل والتكوين الفكري والنفسي والتربية السياسية، يبدو كأنه طلّق اليسار، من أجل التحالف مع الليبراليين، بل والإخوان المسلمين، بروحٍ براغماتية صرف. أما الثاني الذي مثّل دائماً القوى القومية الشعبوية ذات التوجهات الإسلامية والمحافظة، فقد أصبح أكثر جاذبيةً لأصحاب التوجه اليساري، وضم تحت جناحه، في تجمعه الوطني الديمقراطي، منظمات وشخصيات ماركسية عديدة، أظهرت تشككاً وتردّداً في الانخراط في الحركة الشعبية، خوفاً من أن تساهم في "مساعدة" التيارات الإسلاموية على نيل الشرعية.
كان هذان الرجلان قطبي المعارضة السياسية ومشكلتها في الوقت نفسه. وهي ليست، كما هو واضح، مشكلة طبائع شخصية متنافرة فحسب، وإنما، بالتوازي معها، مشكلة تباين عميق في المناهج، واستراتيجيات العمل السياسي، لا يقلّل من أثرها انتماؤهما إلى محيط الفكر اليساري والقومي الديمقراطي ذاته، فقد كان اجتماعهما صعباً، وتفاهمهما مشكلاً، وبدا في النهاية مستحيلاً. يتهم رياض الترك دائماً حسن عبد العظيم بالتعامل مع المخابرات، بل بالعمل معها، بينما يشكو عبد العظيم من تهجم رياض الترك وعدوانيته، ويرفض الحوار معه. والواقع أن المعارضة السورية فقدت برحيل جمال الأتاسي شخصيةً توافقية استثنائية، ورجلَ ثقةٍ شكّل عنصر توازنٍ لا يعوض في صفوف معارضة منقسمة بين الراديكالية والانتهازية؛ فقد كان الأتاسي توليفةً ناجحةً من الشخصيتين، رجلاً يتسم برجاحة العقل والاتزان، وفي الوقت نفسه، بالمرونة والشجاعة اللازمتين للتقدّم والتراجع عند الحاجة معاً.
أجزاء من الكتاب.
على الرغم من كل ما حصل، وكان قاسياً، بشكل خاص، على ناشطي ربيع دمشق، المسجونين والملاحقين، كان يخامرني دائماً الشعور بأننا نجحنا في إشعال شمعة، وثني ذراع النظام، وفرض المعارضة العلنية أمرا واقعا، حتى مع استمرار الاعتقالات. وكنت حريصاً على ألّا أقطع زياراتي لدمشق، وألّا أتخلى عن متابعة النشاط الفكري والسياسي، إلى جانب المعارضة الوليدة، المكوّنة أساساً من مثقفين وأطباء ومهندسين وطلبة متميّزين، ومتحمسين للعمل، ومستعدين للتضحية، كما لم يحصل أن رأيت ذلك من قبل. وكنت لا أوفر فرصةً تسمح لي بالمساهمة في تعزيز حضور المعارضة، وتأكيد وجودها. وفي هذا السياق، قبلت المشاركة في كتاب للحوار الوطني حول راهنية الديمقراطية، حدثني عنه شاب خرج حديثاً من السجن، وأراد أن يبدأ به تأسيس دار نشر جديدة سماها "بترا" (أصبح صاحب دار النشر لؤي حسين، بعد الثورة، رئيساً لفريقٍ وقف بين النظام والمعارضة أطلق عليه اسم "تيار بناء الدولة"). وكي أستفيد من المبادرة، وأوسّع نطاق تأثيرها، اتفقت معه على أن أتوسّع في مساهمتي في الحوار، لتطال موضوعات أشمل، وتصدر في كتاب مستقل. وقد صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام 2003 بعنوان "الاختيار الديمقراطي في سورية". وقد طرحت فيه المسائل الخلافية التي تعوق التوصل إلى تفاهمٍ بين الناشطين السوريين، ومن بينها وضع اليسار والعلمانية والأصولية الإسلامية والطائفية والأقليات والمواطنة والدولة الديمقراطية والعقد الوطني والمصالحة الوطنية والمواطنة.
"رياض الترك قاس لا يرحم مساعديه، ولا منافسيه أبداً، أوتوقراطي نموذجي، ووسواسي مسكون بالظنون، لا يطمئن لأحد، حتى نفسه" كنت أعتقد أن المهمة الرئيسية التي كان علينا، نحن المثقفين، إنجازها في معركة التحرّر والتحول السياسي التي أصبحت حتميةً، تشجيع الأحزاب والقوى السياسية والناشطين على الخروج من السرية، وفرض فكرة وجود معارضة على النظام، ومساعدتهم على تجاوز خلافاتهم، وتذليل العقبات التي تحول دون تشكيل قطبٍ ديمقراطيٍّ، يضم الجميع. وانصب جهدي الرئيسي على التقريب بين أبرز شخصيتين، كان لهما التأثير الأكبر على مصير المعارضة، أو بالأحرى على انقسامها، بعد جمال الأتاسي الذي قاد المعارضة السورية حتى وفاته، في إطار التجمع الوطني الديمقراطي، خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، بينما كان رياض الترك لا يزال نزيل السجون. (كان جمال الأتاسي 1922 - 2000، أبرز شخصيات المعارضة في السبعينيات، من المؤسسين الأوائل، مع ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، لحزب البعث العربي الاشتراكي. تحول إلى الناصرية بعد الوحدة السورية المصرية، وأصبح أحد أهم قادتها. طبيب نفسي ومفكر حاول المشاركة في الجبهة التقدمية التي شكلها الأسد الأب بعد استلامه السلطة، أملاً بتدشين حقبة من التعددية السياسية، لكنه سرعان ما انسحب منها بعد أن رفض الأسد تغيير المادة 8 من الدستور التي تنص على أن حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع، وبقي حتى وفاته زعيماً للمعارضة. وقد حل حسن عبد العظيم محله في قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي الناصري، وكذلك في قيادة التجمع الوطني التقدمي الذي ضم معظم تشكيلات المعارضة اليسارية والليبرالية السورية في ذلك الوقت. واتخذ رياض الترك الموقف ذاته من جبهة الأسد التقدّمية، واضطر نتيجة ذلك إلى الدخول في السرية، إلى أن اعتُقل عام 1981 وبقي في السجن حتى عام 1998، قبل أن يعاد اعتقاله في عهد الأسد الابن عام 2001 ليخرج بعفو خاص أواخر عام 2002).
كان رياض الترك ابن مدينة حمص، وقائد الانشقاق الشهير والجريء في السبعينيات من القرن الماضي داخل الحزب الشيوعي السوري، المقرّب من الاتحاد السوفياتي، ضد زعيمه التاريخي، خالد بكداش، كان صاحب شخصية فريدة، تجمع بين التواضع والبساطة الشعبية والصلابة السياسية إلى حد التصلب. وكان رجل مبادئ، أفنى حياته في سبيل قضيته، وتبنّى، بعد خروجه من السجن الطويل، على الرغم من شيوعيته، قضية الديمقراطية، أو بالأحرى أطروحة إسقاط النظام الطاغية بأي ثمن. وكان، عدا عن ذلك، رجلاً شجاعاً لا يخشى شيئاً، ولا يهاب المغامرة، يعيش جل وقته تحت الأرض، لكنه لا يخاف التحليق في الفضاءات الشاهقة، جاهزاً دائماً للعراك، والسير على حافّة الهاوية. رجل راديكالي في دمه، وعدو لا يضاهى لنظام الأسد الذي أودعه الزنزانة المنفردة سنواتٍ طويلة، من دون محاكمة ولا سؤال. لكنه كان، في الوقت نفسه، وفي العمق، رجلاً قاسياً لا يرحم مساعديه، ولا منافسيه أبداً، أوتوقراطياً نموذجياً، ووسواسياً مسكوناً بالظنون، لا يطمئن لأحد، حتى نفسه. وقد أطلق عليه أنصاره اسم مانديلا سورية، لما تمتع به من صلابة مبدئية، وما قضاه من سنوات طويلة في السجون السورية، وإن كنت أرى في المانديلية القدرة على التسامح والمصالحة التاريخية، والتطلع إلى المستقبل، وقوة الانتصار على الذات، وتجاوز الأحقاد وعذابات الماضي من أجل الآخرين، أكثر من الإشارة إلى صلابة العزم، والقدرة على التماسك في سجون الإذلال والمقاومة الشرسة للظلم العاري.
منذ خروجه من سجنه الطويل عام 2000، رفع رياض الترك سقف المعارضة أعلى ما يمكن، عندما أطلق عبارته الشهيرة: "مات الديكتاتور"، التي وقعت كالهزة الأرضية على نظامٍ اعتاد الناس أن يتحدّثوا عنه بصوت منخفض، حتى عندما لا يريدون انتقاده، خوفاً من التأويل المغرض لكلامهم. كان ذلك التصريح بمثابة شعار المرحلة، وإشارةً إلى إطلاق معركة
"حسن عبد العظيم إصلاحي، يكره العنف والمواجهة، يبحث عن الحلول الوسط و"تحت الوسط"، ويمارس التقية إلى هذا الحد أو ذاك" الحريات العامة. واستكمله بعد التدخل الدولي في العراق، وإسقاط نظام صدام حسين، بتصريح لا يقل جرأة عن الأول، عندما قال إن التدخل وضع العراق على عتبة الصفر، بعد أن كان تحت الصفر. ما فُسِّر من اليساريين والديمقراطيين بأن كل الوسائل مشروعة للتخلص من الاستبداد، بما فيها التدخل الدولي. وهو ما يعادل الكفر في نظر اليسار الماركسي والقومي الذي كان يسيطر على الساحة السياسية. وسوف يجد هذا الموقف صداه في الصراع داخل صفوف المعارضة والمجلس الوطني في نهاية عام 2011.
أما حسن عبد العظيم الذي احتل منصب الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي مكان الراحل جمال الأتاسي، فقد كان عكس سلفه تماماً. من ريف دمشق، مغموس بثقافة الأرض، رجل متأنٍّ بطيء الحركة، حيسوب، يكره المخاطرة، مهما كانت، ويفضل السير بمحاذاة الجدار، ويتجنب المعابر غير المطروقة والشعاب الصعبة. إصلاحي، يكره العنف والمواجهة، يبحث عن الحلول الوسط و"تحت الوسط"، ويمارس التقية إلى هذا الحد أو ذاك، كي يضمن الاستمرار والعمل السياسي، في كل الظروف، ويبرع في تدوير الزوايا إلى حد التواطؤ. لكنه كان، في الوقت نفسه، وفي هذه السمة، يلتقي مع رياض الترك، رجلاً عنيداً ومتمسّكاً بقوة بالسلطة والقيادة، وغير مستعدٍ للتنازل عنها لأحدٍّ بأي ثمن. كان كل ما يتصف به شخصياً يضعه في تناقضٍ قاطعٍ مع منافسه وخصمه رياض الترك.
هكذا بدأت تتبلور، منذ ولاية الأسد الابن عام 2000، معالم حقبة سياسية جديدة، مختلفة تماماً عما سبقها من مواتٍ، اختفى بسببه أيُّ فكرٍ أو عمل سياسي. ومنذ البداية، تخبط الأسد الصغير في تحديد أسلوب مواجهته لحركة المطالب الديمقراطية الصاعدة، وتردّد بين إظهار التجاوب مع مطالب النخبة المثقفة والسياسية، لنيل قبولها والتحرّر من عباءة الوراثة العائلية، أو القمع الوحشي لردع الناشطين، قبل أن تتنامى أوهامُهم وأحلامهم بالتغيير، ويصبح من الصعب سد الثغرة التي يفتحونها. وفي ثنايا هذا التخبط الاستراتيجي والتردد السياسي، ولدت حركة ربيع دمشق، وما شهدته من إطلاق نشاط سياسي، لم يكن الحكم الجديد ينتظره. لقد بدأت "مملكة الصمت"، أو سورية حافظ الأسد، كما وصفها رياض الترك، في إحدى أكثر تعبيراته إيحاء، تفقد صمتها وتستعيد لغتها.
اصطفّ وراء رياض الترك الرديكاليون والناقمون والباحثون عن التميز في تحدي السلطة القائمة، والاحتجاج عليها، بصرف النظر عن توجهاتهم الأيديولوجية، بل ربما كان أكثرُهم أقرب إلى الاتجاهات اليمينية الإسلامية والليبرالية. ووقف وراء عبد العظيم ذاك الطيف المتردّد الذي يهاب المواجهة والمغامرة، من أصحاب التوجهات القومية أو اليسارية أو الإسلامية، الذي يعتقد أن جميع الخيارات المطروحة سيئة، فالارتماء في معركة انتزاع الحريات الديمقراطية يمكن أن يتحوّل إلى تضحياتٍ مجانيةٍ لمصلحة منافسيهم، بينما لا يعني الاستمرار في الصمت، مع اليأس المطلق من إمكانية إصلاح النظام، سوى التسليم بالأمر الواقع والانتحار السياسي.
"كان رياض الترك يشعر أن الإسلاميين أقرب إليه سياسياً من اليساريين الآخرين، قوميين كانوا أو ماركسيين" والمدهش أن رياض الشيوعي، على الأقل في الأصل والتكوين الفكري والنفسي والتربية السياسية، يبدو كأنه طلّق اليسار، من أجل التحالف مع الليبراليين، بل والإخوان المسلمين، بروحٍ براغماتية صرف. أما الثاني الذي مثّل دائماً القوى القومية الشعبوية ذات التوجهات الإسلامية والمحافظة، فقد أصبح أكثر جاذبيةً لأصحاب التوجه اليساري، وضم تحت جناحه، في تجمعه الوطني الديمقراطي، منظمات وشخصيات ماركسية عديدة، أظهرت تشككاً وتردّداً في الانخراط في الحركة الشعبية، خوفاً من أن تساهم في "مساعدة" التيارات الإسلاموية على نيل الشرعية.
كان هذان الرجلان قطبي المعارضة السياسية ومشكلتها في الوقت نفسه. وهي ليست، كما هو واضح، مشكلة طبائع شخصية متنافرة فحسب، وإنما، بالتوازي معها، مشكلة تباين عميق في المناهج، واستراتيجيات العمل السياسي، لا يقلّل من أثرها انتماؤهما إلى محيط الفكر اليساري والقومي الديمقراطي ذاته، فقد كان اجتماعهما صعباً، وتفاهمهما مشكلاً، وبدا في النهاية مستحيلاً. يتهم رياض الترك دائماً حسن عبد العظيم بالتعامل مع المخابرات، بل بالعمل معها، بينما يشكو عبد العظيم من تهجم رياض الترك وعدوانيته، ويرفض الحوار معه. والواقع أن المعارضة السورية فقدت برحيل جمال الأتاسي شخصيةً توافقية استثنائية، ورجلَ ثقةٍ شكّل عنصر توازنٍ لا يعوض في صفوف معارضة منقسمة بين الراديكالية والانتهازية؛ فقد كان الأتاسي توليفةً ناجحةً من الشخصيتين، رجلاً يتسم برجاحة العقل والاتزان، وفي الوقت نفسه، بالمرونة والشجاعة اللازمتين للتقدّم والتراجع عند الحاجة معاً.