الجدار... لصد الخطر القادم من الآخر
حازم صاغية
2019-04-20
من يرفعون الجدران يحمون أنفسهم من أنفسهم قبل أن يحموها من أي تهديد مفترض
طفل مكسيكي ينظر عبر سياج أقامته الولايات المتحدة على حدود بلاده فيما الرئيس ترمب يزور المنطقة من الجهة المقابلة (رويترز)
حازم صاغيّة
الجدار. الحائط. السور... كلمات متشابهة الدلالة تعني الانسداد والعزل والصدّ والحؤول دون التواصل مع الآخر. ذاك أنّ الآخر هذا مصدر خطر باعث على الرعب، أو مصدر مرضٍ مُعدٍ.
السومريّون القدامى، بُناة الحضارة الأولى في التاريخ، كانوا أيضاً بُناة الجدار الأوّل في مواجهة الرُعاة العمّوريين. امتدّ جدارهم على طول يتجاوز المائة ميل ما بين نهري دجلة والفرات. أثينا القديمة أنشأت ما عُرف بـ«الجدران الطويلة» كي تصدّ عنها أخطار البحر وما قد يأتي من البحر. الساسانيّون الفرس أقاموا ما سُمّي «الأفعى الحمراء» وصفاً لحركة الالتواء في ذاك الجدار الممتدّ بطول 120 ميلاً، من الداخل الإيراني حتى الشاطئ الجنوبي لبحر قزوين. بدوره، بنى الإمبراطور الروماني هادريان «حائط هادريان»، الممتدّ على 73 ميلاً، كي يحمي إنجلترا الرومانية من القبائل التي قذف بها الشمال جنوباً. أما البيزنطيون فشيّدوا في عهد ثيودوسيوس جداراً من 15 ميلاً يحيط بمدينة القسطنطينية.
لكن المؤكد أن «سور الصين العظيم» يبقى أهمّ تلك الجدران القديمة وأشدّها حضوراً في التداول الثقافي على مرّ الأجيال. لقد وُصف بـ«أضخم كائن ينتجه البشر في زمن إنشائه»، وبه نُعتت حضارة الصين فقيل إنها «حضارة السور». الهدف كان حماية سلالة مينغ من بدو الشمال، وابتغاءً للحماية بُني ذاك الجدار مرّتين، مرّة في القرن الثالث قبل الميلاد، ومرّة حين أعيد إنشاؤه في القرن السادس عشر، ممتداً على 1875 ميلاً.
الحاكم كان الحامي، والحماية كانت تتمّ على هذا النحو: نُغلق أنفسنا عن الخارج، ونُغلق الخارج عن أنفسنا. لكنّ تلك الجدران لم تَحمِ طالبي الحماية. الغزاة كانوا يقتحمونها أو يلتفّون عليها، ولا يتركون منها للأجيال اللاحقة غير أطلالها وبعض التذكارات السياحيّة.
في تلك العصور السحيقة كان الظنّ بأنّ الأسوار تقي السكّان شرّ «البرابرة» أمراً مفهوماً. فالاعتقاد بأنّ المصالح المشتركة تقرّب بين البشر المختلفين وتُزيل مخاوف بعضهم من بعضهم الآخر، لم يظهر إلاّ في وقت متأخّر. ومثله تأخّرت وفادة الفكرة القائلة إنّ الأحياء على اختلافهم يجمعهم جذر إنساني واحد. بيد أنّ ظهور تلك المفاهيم في الأزمنة الحديثة لم يؤدّ إلى استئصال عقليّة الجدران التي رفعتها آيديولوجيّات متطرّفة جمعت بين الحداثية التقنية والبدائية الروحية. ذاك أنّ السور ينبثق من موقف ذهني ومن مزاج نفسي قبل أن يتجسّد في شكل ماديّ.
فالنازية الألمانية، بعد احتلالها بولندا، أنشأت غيتّو وارسو ليكون أكبر غيتّو يهودي في أوروبا التي يحكمها الألمان، كما سوّرت سكّانَه البالغين 400 ألف نسمة بجدار تعلوه أسلاك شائكة كثيراً ما أتحفتْنا السينما بمشهدها. أمّا سقوط النازية وانتهاء الحرب العالمية الثانية فلم يكونا كافيين لتخليص البشريّة من جدرانها. ففي 1961 باشرت السلطة الشيوعيّة، فيما كان يُعرف بألمانيا الشرقيّة، بناء جدار يفصل بين شطري برلين. يومذاك كانت الحجّة المعلنة حماية التجربة الاشتراكية في الشرق من تآمر الألمان الغربيين ودسائس حلفائهم الأطلسيين. لكنّ ما يزيد عن مائة شخص كانوا يعيشون في «النعيم الاشتراكي» قُتلوا على مدى ربع قرن فيما كانوا يحاولون الهرب إلى «الجحيم الرأسمالي».
المقارنة بين البرلينين بيّنت لمَن يُجري محاكمة منزّهة عن الهوى الآيديولوجيّ، حقيقة يصعب دحضها: إنّ مَن يرفعون الجدران لاتّقاء خطر أو لاتّقاء عدوى لا بد أنهم، هم ذاتهم، يتحسّسون ضعفاً ما في دواخلهم. إنّهم، بالتالي، يحمون أنفسهم من أنفسهم قبل أن يحموها من أي تهديد مفترض.
بسقوط المعسكر السوفياتي في 1989 - 1990، ظنّ البعض، مُفرطين في تفاؤلهم، أنّ ما لم يتحقّق بانهيار النازية سوف يتحقّق بانهيار الشيوعية. لكنْ لا. ففيما كانت تُقرع طبول الاحتفال بصيرورة العالم «قرية كونيّة واحدة»، إذا بالإسرائيليين يباشرون، في 2000، بناء جدار بطول 440 ميلاً. الخطّ الذي سلكه هذا العازل لم يكتف بمحاذاته «الخطّ الأخضر»، إذ ضرب عميقاً في الأراضي الفلسطينية، فاصلاً الأرض عن الأرض، والسكان عن السكان، ومُضعفاً شروط أي سلام في المستقبل تبعاً لتقطيع الرقعة الجغرافية الفلسطينية.
وفي مقابل حجّة الإرهاب التي رفعتها إسرائيل، رفعت هنغاريا، في وقت لاحق، حجّة الهجرة. ففي ظلّ الشعبوي فيكتور أوروبان، انطلق، في 2015، تشييد حائط يمتدّ على الحدود المشتركة مع صربيا وكرواتيا اللتين يعبر منهما اللاجئون والمهاجرون. بهذا يحال دون وصولهم إلى فردوسـ«نا» القوميّ.
هذه التجارب في معظمها جمع بينها هدف آخر مشترك ومكبوت: إنّه النسيان المفروض للماضي الذاتيّ، أي لتلك الأيّام التي كان فيها الهنغار والألمان واليهود مُضطهَدين تسوّرهم جدران كريهة يسعون إلى الفرار منها. هذا النسيان المفروض يبدو ساطعاً جداً في دونالد ترمب، الألماني الأصل، وفي الجمهرة التي تؤيّده من مواطني بلد طويلاً ما عُرف بـ«بلد المهاجرين». فترمب وعد في حملته الانتخابيّة ببناء جدار مع المكسيك بطول ألفي ميل، وبكلفة 5.7 مليار دولار، ليقول لاحقاً إنّ سوره سوف يغطّي نصف الحدود المشتركة مع الجار الجنوبي، لأنّ الجبال والوديان تتكفّل بالباقي.
والحال أنّ عالمنا، منذ الثورة الصناعية، كان قد هزم الحدود الطبيعية في قدرتها على الفصل والعزل. فالطائرات والسفن، وكذلك القطارات وشقّ القنوات، قصّرت المسافات وأذلّت الطبيعة مبرهنة كم أنّ البشر، مسلّحين بالعلم والتقنيّة، أقوى من الحجر. وفي العقود الأخيرة تعاظمت الهجرة وشهد العالم ثورة الاتصالات التي أعطت المتسرّعين في تفاؤلهم ذريعة جديدة كي يتفاءلوا. لكنّنا ننسى أحياناً أنّ الماضي لا يمضي بسهولة، وأنّ عناده يزداد كلّما اقترب المستقبل من الوصول إلى الحاضر. الجدار، مثل بُناته القوميين والعنصريين، الشيوعيين والشعبويين، مرادف ملموس لذاك العناد الذي يؤمَل ألاّ يرافقنا طويلاً.