لماذا سوريا ليست الجزائر أيضاً؟
عمر قدور
2019-04-27
برحيل بوتفليقة تكون ثورة الجزائريين قد حققت نجاحاً ما، لا نعرف نسبته ومدى تأثيره على بنية النظام ككل، لكن ذلك لا ينفي أهميته على الأقل كمؤشر على نوعية الصراع السابق والمقبل. ورغم ما نراه من أوضاع متعثرة في ليبيا واليمن فمن المؤكد انقضاء زمن القذافي وعلي عبدالله صالح بمقتلهما، كذلك انتهى زمن مبارك في مصر، وإن بتنا نتحدث مجازاً عن “ثورة مضادة” يمثّلها السيسي الذي يؤدي وظيفته كأن مهمته الأسمى دفع المصريين إلى الترحم على أيام مبارك.
وحده بشار الأسد نجا حتى الآن من ذلك المصير، الثمن قد لا يكون مهماً حتى إذا وصل إلى تلقي الإهانات والإذلال المستمرين من حلفائه وخصومه، وحتى إذا كانت الأسدية برمتها تتراوح بين وضعها في غرفة الإنعاش والتنافس على تركتها. لعل لسان حال بشار اليوم هو القول “سوريا ليست الجزائر أيضاً” عطفاً على قوله قبل اندلاع الثورة السورية “سوريا ليست تونس أو مصر”، وذلك ما يردده سوريون بحسرة وهم يرون بوتفليقة يرحل ويعتذر من الجزائريين، بعد أن رأوا تعاملاً إيجابياً من الجيش الجزائري لا يُقارن بالوحشية التي أبدتها قوات الأسد إزاء المظاهرات التي لم تكن تقل سلمية وتحضراً عن نظيرتها الجزائرية.
ثمة قناعة في الداخل والخارج مفادها أن لعنة سوريا في جيشها، البعض يذهب إلى أن أول انقلاب فيها، كان بقيادة حسني الزعيم أذار 1949، ليس فاتحة موجة من الانقلابات السورية فحسب وإنما معلّماً لبقية جيوش المنطقة. مثلاً يشير محمد حسنين هيكل، على ذمته، إلى أن عبدالناصر أصغى إليه باهتمام وهو يتحدث عن تجربة الجيش السوري في الانقلاب، قبل أن ينقلب على حكم الملك فاروق ويصبح هو نفسه رمزاً لحكم العسكر في المنطقة. بعض السوريين يرى مشكلة الجيش قد بدأت مع انقلاب البعثيين آذار 1963، والبعض يذهب بعيداً جداً ليردها إلى تشكيل الجيش أيام الانتداب الفرنسي باسم “جيش الشرق” الذي يأخذ عليه هؤلاء غلبة وجود الأقليات.
استرجاع تاريخ الجيش منذ الاستقلال قد يضيء لنا على الفرق بين سوريا ودول أصابت بعض النجاح في التغيير بناء على موقف الجيش من مطالب الشعب، ولعله أيضاً يبتعد بنا عن الاعتباط الذي يشوب التعميم. فأول انقلاب حدث في سوريا أتى على خلفية حدث خارجي هو ما سمّي نكبة 1948، وحينها كان ثمة سخط شعبي واسع بسبب الهزيمة أدى إلى تقاذف الاتهامات بين السياسيين والعسكر. يُشاع أن الرئيس شكري القوتلي آنذاك كان عازماً على الحزم إزاء فساد المؤسسة العسكرية، فبادر حسني الزعيم إلى الانقلاب ليضع مسؤولية الهزيمة عليه وعلى باقي الطبقة السياسية. الجيش نفسه لم يكن على موجة واحدة، فبعد أقل من خمسة أشهر سيقود سامي الحناوي انقلاباً على حسني الزعيم، ولم يكن الأول يريد البقاء في الحكم فأجريت انتخابات حرة ووضع دستور جديد، قبل أن ينقض انقلاب أديب الشيشكلي على الحياة السياسية مرة أخرى ونسبياً بعد أربعة أشهر من انقلاب الحناوي.
خلال حوالي سنتين كان هناك ما يشبه التعايش بين العسكر بقيادة الشيشكلي والحكم المدني للرئيس هاشم الأتاسي ورئيس الحكومة ناظم القدسي، قبل انقلاب الشيشكلي مجدداً على تلك الصيغة في نهاية تشرين الأول 1951. الشيشكلي حظي بسمعة سوداء لدى ما يُسمى الجبلين، والمقصود بهما جبل الدروز وجبل العلويين، إلا أن نهايته أتت انطلاقاً من حلب التي كان يقود حاميتها العقيد فيصل الأتاسي، مع الانتباه إلى كونه ابن أخ الرئيس المخلوع هاشم الأتاسي وعدم تسريحه لهذا السبب. وكما هو معلوم رحل بلا مقاومة الشيشكلي الذي أمسك بالسلطة لحوالي ثلاث سنوات ونصف “حفاظاً على الدم السوري، ووحدة الجيش السوري، ولمنع دخول البلاد في حرب أهلية” كما جاء في خطاب استقالته.
بدءاً من إقالة الشيشكلي ستشهد الحياة السياسية استقراراً نسبياً حتى قيام الوحدة مع عبدالناصر، وقد فسّر البعض ذهاب الرئيس شكري القوتلي إلى إبرام الوحدة مع مصر برغبته الهروب إلى الأمام والتخلص من زمرة العسكر السوريين. لكن المعطيات السابقة جميعاً تفيدنا بأن العسكر لم يكونوا القوة المستفردة بالبلاد، وفي مرتين أتى الانقلاب من العسكر على رفاقهم من أجل إعادة الحياة الديموقراطية. بعبارة أخرى، كانت هناك مؤسسة عسكرية تملك استقلالية ملحوظة عن المؤسسة السياسية، ولا تخلو من قادة لديهم نزوع للسيطرة يتراوح بين حسني الزعيم الذي كان يطمح أن يكون ملكاً والشيشكلي المناصر للجمهورية مع نزوعه الديكتاتوري، فضلاً عن تنوع الميول السياسية للقادة الآخرين.
استدلالاً بوضعية المؤسسة العسكرية نستطيع فهم التغيرات في العديد من بلدان المنطقة، بن علي مثلاً لم تكن تنقصه الرغبة في القضاء على الثورة، لولا المؤسسة العسكرية التي تتمتع باستقلال نسبي أتاح لها ترجيح رحيله. كذلك كان الأمر مع مبارك الذي بدأ باستخدام العنف ضد المتظاهرين، وينبغي أن نذكر لحظة فارقة عندما عاد رئيس الأركان المصري حينها سامي عنان من واشنطن لتبدأ بعدها خطوات عزل مبارك، مع التنويه بالعلاقة التي تربط الجيش المصري بواشنطن منذ توقيع كامب ديفيد، وربما يكون خطأ الرئيس محمد مرسي الأكبر إقدامه على تهميش القادة العسكريين القدامى الذين ارتضوا التسوية لصالح رجل المخابرات الطامح الذي سينقلب عليه. أيضاً في الجزائر نرى المؤسسة العسكرية حتى الآن تفضّل التسوية على الدخول في حمام دم، مع أن بعض قادتها ربما يتمنون في دواخلهم القضاء على الثورة، فلماذا سوريا ليست الجزائر أو تونس أو مصر؟
نخطئ عندما نستخدم كلمة “الجيش” على وجه العموم، وليس من قبيل الصدفة أن نرى إصرار إعلام الأسد على استخدامها تمويهاً، وكذلك إصرار بعض من يدّعون المعارضة على استخدامها ومحاولة الفصل بين الجيش المزعوم والأسدية. لقد انتهى الجيش السوري عملياً مع انقلاب حافظ الأسد عام 1970، وهو منذ استطاع الاستحواذ على الجيش في مواجهة مجموعة صلاح جديد التي استحوذت على المستوى السياسي والمدني أدرك أهمية القضاء على الجيش بحيث لا يشكل خطراً مستقبلياً عليه. مبكراً أدرك حافظ الأسد حاجته إلى قوة تحميه ولا تهدده، فوجد الحل بالقضاء على المؤسسة العسكرية من خلال التركيز على ميليشيات تنضوي ضمن الجيش شكلياً لكنها تتبع له مباشرة من خلال قادتها الموثوقين.
يذكر السوريون مسميات دموية مثل “سرايا الدفاع” بقيادة رفعت الأسد و”الفرقة الثالثة” بقيادة شفيق فياض و”الوحدات الخاصة” بقيادة علي حيدر، ثم في مرحلة لاحقة “الفرقة الرابعة” بقيادة ماهر الأسد و”الحرس الجمهوري” الذي تأسس بقيادة عدنان مخلوف. هذه الميليشيات، وغيرها أقل شهرة، وجدت كقوات للأسد وهي القوات الوحيدة الفعلية، بينما اشتُهر ما تبقى مما كان يُسمى جيشاً بلقب يحفظه عموم السوريين هو “جيش أبو شحاطة”، في دلالة على الرثاثة التي وُضع فيها على كافة الأصعدة، تسليحاً وغذاء وهنداماً. هذا الحال يدلنا على سبب عدم تأثير عمليات الانشقاق الواسعة بعد انطلاق الثورة، فالمنشقون جميعاً هم من القطعات التي لا يعتمد عليها الأسد لحمايته، ولم نشهد عمليات انشقاق في صفوف الميليشيات المناط بها قمع الثورة مثل الفرقة الرابعة أو الحرس الجمهوري، أو تلك التي أنشئت بعد الثورة خصيصاً لمواجهتها. ربما يصح القول بأن ما يُسمى اعتباطاً بالجيش كان منشقاً ومقسوماً في الأصل، حيث كانت الكتلة الأقوى خارج مفهوم المؤسسة والكتلة الأخرى مقصية عن أن تكون مؤسسة رغم تراتبيتها الهرمية ظاهرياً، من دون أن نغفل العوامل العائلية أو الطائفية التي تحكم تكوين الأولى منهما.
لسنا بحاجة إلى التأكيد على شرور العسكر في عموم المنطقة، إلا أن وجود استقلالية نسبية للمؤسسة العسكرية هو أرحم بالتأكيد من غياب فكرة المؤسسة ككل. ما نستطيع التأكيد عليه أن الأسدية بطبعها، وكما أرساها باكراً الأسد الأب، مضادة لفكرة المؤسسة والنظام، لذا يكون من التجني على مفهوم النظام بأشد حالاته سلبية الحديث عن “نظام الأسد”، وما حدث طوال خمسة عقود هو ربط كافة المؤسسات الحيوية “العسكرية والمدنية” بالزمرة الحاكمة وتفريغها تماماً من مفهوم المؤسسة. سوريا ليست تونس ولا الجزائر ولا حتى مصر، ومع الأسف ليست هي سوريا أيضاً أيام كان يحدث فيها انقلابات وانقلابات مضادة لإعادة الديموقراطية من دون أن تملأ الدماء الشوارع في الحالتين.
للمزيد https://www.enabbaladi.net/archives/292743#ixzz5ljI39TTL