مع استقرار الاسلام السياسي والثقافي بدءامن القرن الثاني الهجري وحتى القرن الرابع الهجري أي العصر الذي ظهرت فيه المذاهب الاسلامية الكبرى من سنية وشيعية وظاهرية وباطنية, في ذلك الزمن الكريم تعاظم الاستخدام السياسي للدين, ضد الأمويين في البدء حين كثرت الأحاديث التي تؤكد أن صاحب الحق الوحيد في خلافة رسول الله هو حفيده الحسين بن فاطمة وعلي بن أبي طالب قافزين فوق الابن البكر الحسن بن علي وأبنائه الكثيرين, وفوق أبناء علي من زوجاته الأخريات كمحمد بن المرأة من بني حنيفة, وأبنائه الآخرين عمر, وأبي بكر, وعثمان, فيرد عليهم الأمويون بالحديث النبوي الكريم: نحن الأنبياء لانورث ما تركناه صدقة, نافين حق أحفاد النبي بالوراثة وخاصة أبناء البنت حسب قانون الوراثة الاسلامي, ثم ياخذ كل من الحزبين باستدعاء أنصاره ليضعوا لهم الأحاديث المؤيدة لحقهم المطلق بالحكم, حتى إذا ما سقط الحكم الأموي, وجاء العباسيون تحول الصراع مابين الأمويين والهاشميين إلى الصراع مابين الفرعين الهاشميين, العباسي والشيعي من الجعفريين الاثني عشريين, ولما وصل الصراع إلى الاغتيال والمطاردة والقتل أخذ كل من المتصارعين العباسي والعلوي في تقوية مركزه بوضع الأحاديث المؤيدة له في الصراع على العرش القادم.
هذا الاستخدام المكثف للدين لخدمة السياسة, أي للوصول إلى الحكم من جهة, وللتفاخر بين الحزبين الأكبر بين العرب, وأعني القيسية واليمنية جعل الكثيرين يعمدون إلى الاستفادة من معرفتهم باللهجات والأعرابية منها لوضع الأحاديث النبوية, والأشعار المؤيدة للقيسية أو لليمنية سياسيا, وللعلوية أو العباسية مذهبيا, وكانوا قبل سقوط الأمويين والمذابح المهولة التي وقعت عليهم يضعون لهم الأشعاروالأحاديث المؤيدة لهم ولحقهم في الخلافة, وكان يمكن لهذا التخليط أن يستمر طويلا لولا أن ظهر جيل لم يستطع احتمال كل هذه الإساءات للدين الإسلامي, فقرروا أن يضعوا حدا لكل هذا الخلط, فأعلنوا أن كل ما لم يقله الله جل وعلا, وأنزله على نبيه في النص الصريح" القرآن" هو نص اجتهادي يحق للمرء قبوله ورفضه دون ان يخرج عن الملة, وأن الميزان الحقيقي للقبول والرفض هو العقل, والعقل فقط, وهكذا ظهر المذهب العقلاني الذي سنعرفه تحت اسم الاعتزال.
المذهب الاعتزالي, والذي يقول الكثيرون ممن كتبوا عن المذاهب الاسلامية أن أول من بدأ عرضه على الدارسين, فالتصق المذهب باسمه كان واصل بن عطاء الغزال والذي سمى رؤيته الفكرية هذه بأهل العدل والتوحيد, ولكن حلقة الدارسين التي فارقها في المسجد, والذين رأوه يعتزلهم مع مجموعته التي بدأت تميل للفكر الجديد الذي يتطارحونه ويسمونه بمرجعية العقل, وهذا ما أزعج شيخ الحلقة الحسن البصري حين رآه يعتزلهم في المسجد, فقال:كلمته التي ستلتصق بالمجموعة : اعتزلنا واصل, فصارت رؤيته الفكرية الجديدة تدعى مذ ذاك بالمذهب المعتزل, وكان من أهم من تبنى رؤية واصل العقلية للدين الاسلامي الكاتب والمفكر الكبيرالجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر, ثم القاضي عبد الجبار, ومعاصرونا ممن ما يزالون يعادون المعتزلة والاعتزال كما كان الأشاعرة والحنابلة يفعلون, ما يزالون يسمون كل من يدعو إلى العقلانية وتحكيم العقل في أمور الدين بما لا يتعارض مع النص القرآني من أمثال الشيخ محمد عبده ,وقاسم أمين, وطه حسين, وزكي نجيب محمود مما يشير إلى أن الاعتزال ما يزال نضرا لم تذهب الأيام جدته ونضرته.
كان الاعتزال مذهبا لابد له من الظهور مع استقرار الدولة الاسلامية وتمثلها للأفكار السابقة على الأديان الإبراهيمية, وإسلام الكثيرين من أصحاب الأديان السابقة والأفكار الفلسفية التي سادت العالم القديم قبل الاسلام , وبعض تلك الأفكارالفلسفية التي تغلب العقل ولاتقبل سيدا غير العقل " ارسطو" ,و.....الباطنية أوالإشراقية التي تميل إلى أن العقل لم يعد كافيا للإجابة عن الأسئلة الكبرى التي تواجه الإنسان يوميا من ظلم أكبر من قدرة البشر على الاحتمال"افلوطين"ولا بد للإنسان إذن من العودة للقلب واستخارته والاتجاه للسماء لتتنزل المعرفة اللدنية عطية إلهية من السماء,وهكذا ظهر الاعتزال وكانه الإحياء الجديد للعقل , وسارعت الفرق الاسلامية الأخرى إلى استحياء الأفكار الإشراقية ما قبل الاسلامية و إلى صبغها وتلوينها بالصبغة والألوان الإسلامية كالفرق الباطنية الإسلامية.
انطلق واصل من أن العقل هو الفيصل لذلك لم يكن لديه قبول إلا للنص القرآني المخلو ق بإرادة الله والذي نجّمه على محمد عبر ما يزيد على العشرين عاما, وقد أدار المعتزلة ظهورهم لكل الشروح والتفسيرات والأحاديث المنسوبة للنبي الكريم التي ظهرت على أيدي علماء المسلمين وأئمتهم وصانعي مذاهبهم من سنة وشيعة, فالنص القرآني كما يرون هو النص الوحيد الذي كان الوصلة ما بين السماء والأرض, وأما ماعداه فهو مساهمة بشرية خاضعة للخطأ والصواب, أماالعقل فهو ما يصوب ما يراه العقل العام صوابا, ويخطئ ما يراه خطأ, والكل يعرف عن الصراع المرير الذي نشب بين مفكري المعتزلة الذين جعلوا من العقل قائدا ومرشدا وهاديا لهم, و...الأشاعرة المتشددين في الخضوع للشروح والتفسيرات, ومنجزات الآباء من قراءات للمنجز الإسلامي خلال فترة انتشاره, والذين أصروا على أن القرآن قديم قدم الذات الإلهية, موجود منذ ما قبل آدم وما قبل بداية الخلق.
كانت اليهودية التلمودية وخاصة في المنفى البابلي "العراقي"قد تضخمت فيهاسلطة الحاخامات حتى تجاوزت سلطة التوراة, وكانت المقولة الشهيرة : إذا تكلم الحاخامات والتساديكيم , فعلى الله أن يصغي! ثم يوردون الحكاية عن مجموعة من الحاخاما ت والتساديكيم" الصديقين".ومفردها تساديك أو صدّيق مثل يوسف الصدّيق أنهم كانوا يعبرون البحر في سفينة حين ثارت الريح حتى قاربت السفينة الغرق, فدعا كبير الحاخامات إلى اجتماع عاجل تناقشوا فيه في إمكانية الغرق ووجوب الحيلولة دون هذا الغرق الذي سيتسبب بأذى كبير للملة ومستقبل اليهودية واليهود, ثم خرج كبير الحاخامات إلى سطح السفينة وخاطب يهوه في السماء قائلا: اسمع يا ألله. لقد اجتمع مجلس الحاخامات, ورأى أن ما تفعله بتسليط هذه العاصفة على التساديكيم " الصديقين"لايجوز, ولذا فهو"المجلس" يطلب إيقاف العاصفة فوراًحفاظاٌ على حياة الحاخامات والتساديكيم, فتوقفت العاصفة فورا!!
· في اورشليم" القدس" ظهر التلمود الأورشليمي في مقابل التلمود البابلي في المنفى, وكلا التلمودين كان تضخيما وتعظيما لدور الحاخامات على حساب التوراة والنبي موسى, فأخذوا يتدخلون في الحياة اليومية, بل حتى الليلية لليهود, كيف يأكلون, وكيف يشربون وينامون مع نسائهم, ومتى تطهر المرأة وكيف, من النفاس, ومن الحيض, ومتى يحرم لمسها للعجين زمن الحيض حتى لايفسد, وعن تحريم لمسها لابنها, أووليدها الجديد حتى لاينجس إلخ حتى أنهم كانوا يبعدون الحائض إلى غرفة معزولة في الحديقة, ويرمون لها الطعام عن بعد حتى لايتنجسوابلمسها, أما إذا كان الطعام سائلا فكانوا يضعونه في إناء ثم يدفعونه بعصا طويلة حتى لايتماس حامل الطعام معها, فيتنجس, وعند تنجسه كان لايطهر إلا بعملية طويلة ومعقدة .
· وصل التلمود في فتاواه الكثيرة إلى آلاف الصفحات التي تنظم كل صغيرة وكبيرة في حياة اليهود, وكان العدد الكبير لصفحاته مانعا لرجل الشارع التقي من دراسة كل هذا الكم الهائل من الصفحات, فقام بعض الحاخامات بتبسيط هذا التعقيد واختصاره في كتاب أصغر سموه ب "المشناه "الذي احتوى على الأحكام الأشهر والأهم في حياة اليهودي, ثم وجد بعض الحاخامات أن هذا التلخيص قد جعل الكتاب جافا ومعقدا على اليهودي العادي, فصنعوا للمشناه شرحا سموه ب "الجمارا"!
· حين تسيد الفكر الاعتزالي ساحة الفكر والمفكرين المسلمين حتى صار الاعتزال سمة الشبان الحداثيين"على الموضة", وصار الشباب المتمرد حين يدخل ساحة الجدال يقول في تبجح: لاسيد إلا العقل, والإسلام هو دين العقل, لاالرواية ولاالتفاسير! هذه المقولة وصلت إلى الشبان اليهود المثقلين بالتلمود والمشناه والجمارا, وبهدوء اكتشفوا أن الحاخامات قد استعبدوهم بفتاواهم التي لم تعد على الموضة, فقرر بعض شباب المفكرين منهم هجر الشروح وإعمال العقل فقط معتمدين على نص التوراة المتفق عليها فقط, وإغفال كل ما عدا التوراة, وهكذا ولد مذهب يهودي جديد هو المذهب القرائي, وأتباعه الذين لايدينون لكتاب إلا للتوراة, طبعا حاربهم أتباع الحاخامات المسمون بالتلموديين والحاخاميين, فانشق القراؤون عن المذاهب الرسمية مشكلين مذهبا جديدا انتشر من العراق إلى مصروآسيا الوسطى وحتى شبه جزيرة القرم.
· كان هذا المختصر إشارة سريعة إلى العلاقة بين الإسلام واليهودية من ناحية تأثر اليهودية بالإسلام عبر المذهب القرائي, وأما عن تأثر الإسلام باليهودية عبر تأثر التصوف الإسلامي بالتصوف اليهودي " القبالاه" فله حديث آخر.
[email protected]