فظائع سورية الأخيرة | سامر داغر
ألف
خاص ألف
2019-06-07
أشار الربيع العربي إلى تحول سياسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ووفقًا لجيمس بارنز “كانت أبرز سماته هشاشة الاستبداد نفسه”([1]). في حين أن هذا الأمر قد يكون صحيحًا في ما يخص نظام بن علي في تونس أو نظام حسني مبارك في مصر، لكنه ليس كذلك في سورية. وهنا، حافظ نظام الأسد على قوته طوال الصراع الذي امتد لست سنوات والذي أودى بحياة نصف مليون سوري([2])، ويواصل تعزيز موقفه. وفي التحليل المعاصر، تعزى قدرته على الصمود إلى الدعم الذي حصل عليه من حلفائه الدوليين، كروسيا وإيران وحزب الله، والشقاق والتطرف في صفوف المعارضة، إضافة إلى محاولته الناجحة بتقديم نفسه على أنه الإمكانية الوحيدة لحكومة سورية مستقرة وعلمانية.
وتقدم هذه العوامل، على اعتبارها عالية الأهمية لفهم استمرار النظام، فهمًا تاريخيًا محدودًا لصموده. وعلاوة على ذلك، يبقى هناك افتراض بأن الصراع طائفي بشكل كامل في طبيعته مع نظام الأقلية العلوية الذي يقاتل الأغلبية السنية، الراديكالية منها أو المعتدلة. وسوف يقال إن هناك حاجة إلى وجهة نظر تاريخية أوسع لتجنب الاختزال الطائفي والتعميمات حول البعد الديني للحرب. وتأخذ المقاربة التاريخية في الحسبان قدرة النظام على تعبئة شرائح مؤثرة من السكان والتي، وبغض النظر عن انتمائها الطائفي، تحتفظ بمصالحها في بقاء النظام. عبر شرح كيفية قيام النظام ببناء شركات تاريخية داخل النخب التجارية والنخب من رجال الدين، ستقترح هذه الدراسة تفسيرات بديلة لبقاء النظام.
Anchorفهم طول الاستبداد
يختلف العلماء في فهمهم لبقاء النظام. ويقترح أوغوستوس نورتون أن المجتمع المدني لا يزال محفزًا غير فعال لإضفاء الطابع الديمقراطي([3]). ومع اتحادات النقابات العمالية المسيطر عليها سياسيًا، ومؤسسات الأعمال غير المستقلة، ثمة ندرة في المساحة الاجتماعية لتطوير قوة ديمقراطية داخل المجتمع([4]). كما كانت سيطرة الحكومة على المجتمع المدني في سورية مهمة في الحفاظ على مرونتها، وكانت المنظمات غير الدولية خاضعة لسيطرة مسؤولين حكوميين، بينما كان المجتمع المدني يقتصر على القضايا الخيرية والدينية، أو “المجتمع الأهلي”([5]).
ثانيًا، تبقى الدولة المؤسسة هي الرئيسة في الاقتصادات الإقليمية. وعلى الرغم من محدودية التحرر، يشكل القطاع العام نسبة غير متجانسة مع العمالة والناتج القومي الإجمالي([6]). وسيتم البحث في الطرق التي قامت بها الدولة السورية لتعديل أنظمة الرقابة الاقتصادية في القسم الأول من هذه الدراسة. ولم يُفهم إلا القليل عن الطرق التي قام بها النظام بتطويع الاقتصاد إبان النزاع عبر الاستقطاب الاقتصادي المستمر.
وبإمكان السياسيات الدولية للاستبداد، كما أشارت مي درويش، حماية وتشجيع المستبدين([7]). ويركز التحليل المعاصر لقدرة النظام السوري على الصمود على الدعم الدولي، مع استفادة النظام من الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي من روسيا وإيران. لكن هذا وحده غير كافٍ لفهم أسباب حظوة النظام بدعم جزء كبير من الشعب السوري. وستحاول هذه الدراسة تحديد العوامل المحلية لهذا البقاء.
تقول إيفا بيلين إن التحولات الديمقراطية لا تنجح إلا عندما تفتقر الأجهزة القمعية في الدولة إلى “الرغبة أو القدرة على سحقها”. وقد أثبتت السلطة الاستبدادية قوة استثنائية لأن جهازها القمعي كان على استعداد تام لسحق الإصلاح منذ البداية([8]). وفي مراجعات بيلين في عقب الانتفاضات العربية في عام 2012، تؤكد أن “سلوك الجهاز القمعي محوري لتحديد متانة النظام الاستبدادي”([9]). وقام ستيفن هيدمان بتطوير هذا النقاش، مقترحًا أنه تماشيًا مع الإرادة في استخدام القوة “لجأ الحكام المحاصرون إلى الطائفية العرقية وإلى استراتيجيات إقصائية في التعبئة الشعبية من أجل الحصول على دعم داخل المجتمعات المنقسمة”([10]).
وفي سورية، كانت الاستجابة القمعية للتظاهرات شديدة الأهمية في الحفاظ على قوة النظام. لكن الطرق التي بُنيت بها هذه الهياكل القمعية من خلال التكامل الاقتصادي والتعددية وسياسات الانتشار تُعد بأهمية الحملة العسكرية.
ومع ذلك، فإن هذه المؤشرات غير كافية لفهم بقاء بشار الأسد على سدة الحكم بعد سنوات من الصراع. وفي حين أن الكتابات التي تناقش بناء السلطة في سورية وفيرة، إلا أن محاولات قليلة فقط ربطت السياق التاريخي ببقاء النظام السوري في زمن الحرب. وسوف تتناول الدراسة هذا النقص عبر تحليل الطرق التي قام بها النظام باستقطاب النخب الاقتصادية والدينية على نحو فعال.
تُعرّف ماريا جوشوا الاستقطاب بأنه “قدرة النخبة الحاكمة على ربط عوامل استراتيجية بالنظام”([11])، وتشير إلى أهمية “الآليات غير الرسمية (الحكم الوطني) والآليات الرسمية (حكم الحزب) والتي تعد عوامل استراتيجية ترتبط بنخبة النظام”([12]). يعد النظام في سورية قائمًا على المحسوبية، إذ أنه يسعى إلى توفير قاعدة اقتصادية مستقرة لحكمه([13]). وفي حين أن سورية ليست دولة ريعية تقليدية، فتكون الطرق التي يستقطب بها النظام القطاعات الاقتصادية الرئيسة ذات أهمية حيوية([14]). وسيقوم هذا البحث بدراسة السبل التي عزز فيها الاستقطاب الاقتصادي والديني سلطة النظام.
كما يعتمد هذا البحث على مفهوم التحديث الاستبدادي. ويقدم كل من هيدمان وهينبوش نموذجًا هيكليًا للمرونة الاستبدادية، ويشيران إلى أن الأنظمة تبني مرونتها من خلال التكيفات المؤتلفة: كإنشاء منظمات غير حكومية تقودها الدولة كمظهر خادع للمجتمع المدني، واستقطاب جماعات محددة من المجتمع المدني والمؤسسات الدينية، والاستفادة من تنوع الاستراتيجيات القمعية([15]). لذلك، ومن أجل فهم طبيعة الحكم الاستبدادي، يكون من المهم دراسة المؤسسات، والتحالفات النخبوية وتكوينات السلطة مع الأنظمة الاستبدادية([16]). وفي حين أن هذا التحليل مقنع ويسلط الضوء على ديناميات قدرة النظام على البقاء في فترة ما قبل الحرب، فإن القليل مفهوم حول كيفية استخدام النظام للتغييرات الدينية والاقتصادية أثناء الصراع.
Anchorالبعثيون، والأعمال التجارية والأسس الاقتصادية للصمود
غالبًا ما يعد التحرر الاقتصادي وما يترتب عليه من توترات اجتماعية عاملًا للانتفاضة([17]). وفي حين أن الإصلاحات الاقتصادية عزلت قطاعًا كبيرًا من المجتمع السوري، إلا أن الروابط التي أصلحت العلاقات بين النظام وشركائه التجاريين مهمة لفهم إطالة عمر النظام في الصراع القائم. فهم لا يلعبون دورًا في دعم النظام عسكريًا فحسب، بل يقومون بتمويله أيضًا للحفاظ على مسؤوليات الدولة في المناطق الخاضعة لسيطرة كل من النظام والجماعات المعارضة.
عندما استولى حافظ الأسد على السلطة، اعتبرت الأغلبية السنية أن طائفته العلوية متخلفة دينيًا، كما اعتبرت فكر البعثيين في النظام لا يتفق ونظرتها إلى العالم، وأنه تهديد كبير لمصالحها الاقتصادية([18]). وعلى الرغم من تلك الشكوك، استطاع النظام توسيع الدعم داخل المجتمعات التي همشها سياسيًا، ولا سيما التجار الأثرياء والطبقات الصناعية والتجارية في كل من حلب ودمشق، مع تعزيز مصالح العلويين والأقليات الأخرى([19]). وقد أدى هذا إلى تعزيز قاعدة مؤثرة من رجال الأعمال ذوي الحصة المكتسبة في إطالة عمر النظام([20]) ، وتحقق عبر إصلاح زراعي وتحرر اقتصادي محدود من خلال النمو الاقتصادي الذي تقوده الدولة([21]).
وقد ترسخت العلاقات التجارية للنظام بعد تولي بشار الأسد الرئاسة في عام 2000. وقام النظام، بالاشتراك مع النخبة الاقتصادية، بالتخفيف من حدة الانكماش الاقتصادي عبر السعي للتحرر الاقتصادي، وخصخصة المصالح المالية للنخب القائمة، ما أتاح لها سيطرة واسعة على الأصول العامة([22]). وإلى جانب تخفيض المساعدات الحكومية، سُمح بإنشاء مصارف خاصة لأول مرة منذ أربعين عامًا، وعُرضت خطط لإنشاء سوق للأوراق المالية([23]). وأدى الإعلان عن “اقتصاد السوق الاجتماعي” في عام 2005 إلى توحيد هذه الإصلاحات، والجمع بين توجيهات الدولة واقتصادات السوق([24]). وفشلت الخطط في تأمين مؤسسات مستقرة ومسؤولة، وأدت إلى إضعاف مصالح الشركات الصغيرة وحرمان عدد كبير من السوريين، خاصة في المناطق الريفية بسبب تخفيض دعم الوقود والأسمدة وسلع أخرى. لكنها حققت الهدف السياسي للنظام المتمثل بتعزيز التحالفات مع النخبة التي تغطي الانقسامات العرقية والدينية، وخلقت العمود الفقري للنخب من الطبقتين المدنية والوسطى والتي استفادت من علاقاتها الوثيقة مع سلطة النظام.
كما أدت الإصلاحات الاقتصادية إلى تكوين طبقة ريادية قوية ومتزايدة، استفادت من الاقتصاد الاستهلاكي الذي جرى تطويره حديثًا، في مشاريع بمشاركة العديد من الشركات الأوروبية، مثل كارفور وأديداس وبينيتون([25]). وبالنسبة إلى النظام، خلق التحرر الاقتصادي مصادر جديدة للإيرادات، الأمر الذي سمح للنظام بزيادة حجم الموارد الاقتصادية عند التخلص من النظم. وسمح لإدارة الفرص الجديدة هذه بطرق تعزز ولاء من يعتمد عليهم النظام، وخاصة في قوات الأمن، ويعزز قدرة النظام على الصمود([26]). وسمح انسحاب القوات السورية من لبنان في عام 2006 بمجموعة من الفرص للتنمية التجارية. وتمكن العديد من السوريين من الوصول إلى تكنولوجيا الاتصالات التي لم تكن متاحة لهم من قبل، كما أُسست الجامعات الخاصة في أنحاء البلاد وبدأت مراكز التسوق ذات النمط الغربي بالتكاثر. وبهذا المعنى، أصبحت الحياة اليومية في سورية أكثر راحة، وحصل النظام على الثناء ممن استفادوا([27]). إن قدرة النظام هذه على التكيف اقتصاديًا، وخلق مصادر جديدة للإيجار وتبني شبكات من المحسوبيات، كما يقول دوناتي، “محور صمود النظام”([28]).
كما جرى توحيد هذه الصلات، التي تطورت في ضوء التكيف الاقتصادي، عبر التزاوج بين الطوائف. إذ تزوج أعضاء من عائلة الأسد من بنات رجال أعمال وضباط عسكريين من السنة، لتوسيع شبكات المحسوبية في جميع الأعمال، والنخب الأمنية. كما تزوج بشار الأسد نفسه من أسماء الأخرس، ابنة دبلوماسي سني بارز([29]). وتخطّت هذه النخب الانقسامات الدينية والعرقية وتوحدت في ولائها للنظام([30]). ويقترح حنا بطاطو أن هيمنة العلويين على الاقتصاد والجهاز الأمني هو نتيجة لترسيخ حافظ الأسد للسلطة حول جماعة محددة من مطلقي الولاء، وحّدتهم القبيلة والقرابة أكثر من الهوية الطائفية([31]). في بداية الثورة في عام 2011، “قام مجتمع الأعمال الذي أنشأه نظام الأسد وفقًا لتصوره الخاص بتحويل سورية من دولة شبه اشتراكية إلى دولة رأسمالية قائمة على المحسوبيات بامتياز([32]).
وظهرت نتائج الإصلاح وبناء نخبة من عموم الأعراق في طبقات مجتمع الأعمال التجارية([33]). وتقترح سمر عبود أن مجتمع الأعمال التجارية تألف من ثلاثة قطاعات بحلول عام 2011: كتلة المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ونخبة رجال الأعمال “المتحدة”، والتي تشكل جزءًا أساسيًا من النظام من خلال المحسوبيات، ونخبة رجال الأعمال “المستقلة”، والتي تدين بثرواتها وقوتها إلى صلاتها مع النظام، لكنها غير متصلة من خلال الروابط العائلية أو الاجتماعية. كما أن هنالك نخبة من رجال الأعمال المؤثرين “خارجيًا”([34]). ولا تزال الطرق التي استجابت بها النخبة للصراع، فضلًا عن سياسات التكيف الاستبدادي، مهمة جدًا لفهم صمود النظام([35]).
Anchorالاستقطاب والصراع: تكيّف اقتصاد سورية
مع اندلاع الصراع في عام 2011، وضع النظام أساليب لمواصلة استقطاب داعمي الأعمال. وقد أدت العقوبات التي فُرضت عام 2011 دورًا مهمًا في تحديد ولاء مجتمع الأعمال([36]). وكانت العقوبات من أجل الضغط على رجال الأعمال الكبار بالتخلي عن النظام، لكنها، ومن خلال بنية معقدة وصعوبة في التحايل، أدت إلى نتائج عكسية([37]). ومع عدم وجود انشقاقات في صفوف الشركات الكبرى والنخب المتحدة والنخب المستقلة، لم تؤدّ العقوبات إلا إلى ترسيخ الترابط بين النخب من رجال الأعمال والنظام نفسه([38]). وسمحت العقوبات بظهور نخب جديدة “مستقلة سياسيًا عن النظام ولديها مصلحة اقتصادية في استمرار الصراع لأنها صنعت ثروات منه([39]).
والآمال التي عُقدت على تحول الشركات الكبيرة لدعم المعارضة، وشل الاقتصاد وتقويض النظام، كانت كلها في غير محلها. في حين كانت هناك محاولات من قبل رجال أعمال مهمشين، مثل علي ووسيم سنقر (تاجرا سيارات في دمشق “أحرِق” متجرهما بالتوصية من ابن عمة بشار، رامي مخلوف)، وقد انحاز بشكل رئيس رجال أعمال مغتربين إلى قوات المعارضة([40]). كما يشير بسام حداد، كان من الصعب على النظام الصمود في دمشق وحلب إذا كانت المصالح التجارية قد انحازت إلى المعارضة([41]).
وكانت النخب المتحدة والمستقلة حاسمة في تمويل تجمعات النظام وقدرتها على مواصلة تمويل جهده الحربي. كما مولت هذه النخب حملات دعائية وتجمعات، لكي تدعم النظام على الملأ، متوقعة أن النظام سيقوم بحماية مصالحها في أي اتفاق سلام مستقبلي([42]). وعلاوة على ذلك، ومع تحول الأزمة إلى حرب أهلية، خفض النظام الإنفاق العسكري، معتمدًا على مجموعة رئيسة من النخب لتمويل كتائب “الشبّيحة” التابعة للميليشيات. وقد قام كبار رجال النظام كرامي مخلوف وأيمن جابر، وهما مستثمران في شركة شام كابيتال، والتي نتجت عن التحرر الاقتصادي، وقامت بتنظيم تمويل المليشيات وتأسيسها، والتي تزايد اعتماد النظام عليها للحفاظ على حملاته العسكرية([43]).
وقد حافظ النظام جزئيًا على دعم الأعمال التجارية من خلال التكيف مع اقتصاد الحرب. والحفاظ على كل من الدولة والنخب المتحدة والمستقلة التي لا تزال تعتمد على سلطة النظام([44]). فالنظام، ذو الإمدادات المحدودة من الطعام والوقود والسلع الحيوية الأخرى، كان قد سمح لرجال الأعمال بإجراء صفقات مربحة بين خطوط المعارك. وقد شارك رجال الأعمال الحكوميون في صفقات مع تنظيم الدولة وجماعات متمردة أخرى من أجل الحفاظ على خزائنهم([45]). وعلاوة على ذلك، فإن خصخصة النفط، خاصة بعد أن وفرت إيران مبلغ 3.6 مليار دولار لشرائه، أثبتت جدواها، ووفرت مصدر إيرادات مهم([46]). ولعبت هذه التجارة غير المشروعة، إلى جانب الدعم المالي من إيران وروسيا، دورًا حاسمًا في الحفاظ على دعم قطاع الأعمال والمجتمع السوري الأوسع.
ومنذ عام 2015، قام النظام بجذب نخبة رجال الأعمال من خلال ما أسماه جهاد يازجي “جنون في القوانين الجديدة لجذب الاستثمار”([47]). وتشمل هذه القوانين العفو عن الشركات المتأخرة عن تسديد الضرائب، وتأسيس مشاريع تجارية صغيرة ومتوسطة، ودعم الإنتاج المحلي، وتشريع مبادرات الأعمال التجارية الخاصة لتقديم أرباح لرجال الأعمال من المشاريع الحكومية، وإنشاء “مجلس الحديد والصلب” تحسبًا لمرحلة الازدهار في إعادة الإعمار في فترة ما بعد الحرب([48]). وقد أدت هذه التكيفات إلى ربط اهتمامات هذه النخب من رجال الأعمال الموالية بمصير النظام، والحفاظ على سيطرة النظام على الديناميات الاجتماعية الاقتصادية للبلاد([49]).
كان أحد العوامل، الذي لم يُعطَ أهمية كافية، وراء صمود النظام، هو قدرة النظام على ادعائه بأنه لا يمكن الاستغناء عنه بصفته مزودًا للخدمات العامة الأساسية والأمن الاقتصادي، حتى بالنسبة إلى السوريين الذين يعيشون في مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة([50]). فمؤسسات النظام تؤمن جزءًا كبيرًا من الحياة العامة السورية، وتبقى الهيكليات الوحيدة التي بإمكانها إصدار وثائق سفر، وحقوق الملكية والمعاشات التقاعدية وتسجيل المواليد الجدد([51]). وعلاوة على ذلك، توفر المدارس والجامعات والمستشفيات العامة رفاهية لا يمكن تعويضها، حيث تستوعب الجامعات 650 ألف طالب في جميع أنحاء البلاد([52]). ويبقى النظام المشغل الأساسي، حيث بلغ عدد الموظفين في القطاع العام 1.4 مليون موظف بين عامي 2011-2012([53]). كما أن سيطرة النظام على توزيع المساعدات الإنسانية والغذاء والماء والكهرباء مكنته من عرض نفسه على أنه “ملاذ آمن” من المعاناة التي عاشتها المناطق الخاضعة لسيطرة المتمردين([54]). وقد شجع ذلك النازحين على الانتقال إلى هذه المناطق، الأمر الذي يعزز رواية النظام التي تقول إنه المؤسسة الوحيدة القادرة على توفير الأمن([55]).
ولكي يتمكن النظام من تأمين الخدمات الحيوية، جرى تدعيم جهاز الدولة المنتشر في بقاع البلاد في مناطق مدنية للدفاع عنها تحت مظلة دفاع القوى الموالية، التي تلقت الرعاية والتمويل من نخب رجال الأعمال. وبجانب هذه المليشيات التابعة للدولة، قام النظام بتسليح المدنيين وتنظيمهم في (لجان شعبية)، وفي حين أن هذه الجماعات ربما كانت متحفزة برغبتها في حماية أحيائها وعوائلها بدلًا من أي انتماء سياسي للنظام، إلا أنها ساهمت في صمود النظام([56]).
ومن خلال الاستقطاب التاريخي لنخبة ضيقة من رجال الأعمال تمكن النظام من الصمود طوال فترة الدمار الاقتصادي الذي جلبته الحرب إلى سورية.
Anchorالنظام والدين في سورية: الطائفية أم التعددية؟
تشكل التركيبة العرقية والدينية في سورية موضوعًا متكررًا في التحليلات المعاصرة. وكما أشار جوشوا لينديس، فإن “النظام البعثي وهيكلياته الراسخة في السيطرة غالبًا ما يتم تعريفها عبر ديناميات ثنائية أقلية وأغلبية في السلطة”([57]). ويجسد الوصف السائد للنظام بأنه “نظام علوي، يتصرف ظاهريًا بهوية وجدول أعمال علويين”، هذا التصور([58]). لكن “هذا التصور يشوه تعقيد الحال الاستبدادية في سورية”([59]). فهو يبسّط آليات السلطة، ومراكز السلطة ومصادر دعم النظام. في حين أنه لا يوجد شك في أن العلويين يسيطرون على المؤسسات العسكرية والسياسية، لكنه من المهم أن نضع في الحسبان مصادر الدعم الأوسع إذا أردنا فهم الصراع وصوغ طرق لإيقافه.
فالطرق التي طور النظام بها “استراتيجية قوية لتشكيل واستقطاب مختلف المؤسسات الدينية، وخاصة علماء السنة السوريين” تُعد في غاية الأهمية لفهم إطالة عمره([60]). ونظرًا إلى عدم توفر الوسائل السياسية لتأسيس رجال دين من السنة البعثيين، حافظ النظام على السلطات الدينية القائمة، ولكنه اقتصر على العناصر التخريبية([61]). ولكن بعد انتفاضة مدينة حماة في عام 1982، اختار النظام عدم الاعتماد على رجال دين تقليديين، بل على مؤسسات وأفراد جرى اختيارهم لولائهم. وقد برز من بين هؤلاء العالم الإسلامي سعيد رمضان البوطي والذي أصبح، في ظل حكم الأسد، “الأكثر شهرة على التلفزيون السوري”([62]). وقد حافظت سياسة الرعاية الدينية الانتقائية هذه على علاقة الدولة بعلماء الدين، ما سمح للنظام بإظهار نفسه على أنه حامي المجتمع الديني المعتدل في سورية.
وفي الآونة الأخيرة، جرى تزويد العناصر المختلفة من رجال الدين السوريين الذين تدعمهم الدولة بوسائل وأدوات من شبكات الأعمال والسياسة للدولة، والتي تدعم المؤسسات الدينية في البلاد من أجل تأمين الدعم السني للنظام. لم يغير هذا اقتصاد الدين في سورية فحسب، لكنه غير موقف رجال الدين في الهيكلية السياسية لسورية([63]). وهكذا لم يعد لدى السُنّة حوافز للتخلي عن النظام، وخاصة بعد التحرر الاقتصادي. فبالنسبة إليهم، كان انفتاح اقتصاد البلاد، وخاصة تأسيس المصارف الإسلامية وشركات التأمين، ذا قيمة خاصة، لأنه سمح بتوظيف العلماء المسلمين في مجالس الشريعة لهذه المؤسسات المنشأة([64]). ويسلّط كتيّب نُشر في عام 2007 لرجل الدين السني، ياسر العيطي، الضوء على الصلات الوثيقة هذه.
“يعتقد الشيخ أنه من خلال التحالف مع مسؤول الدولة، يحمي جماعته، وأنه من خلال الانضمام إلى التاجر، يحمي موارده المالية. ويظن مسؤول الدولة أنه من خلال تحالفه مع الشيخ، يبقي الوضع تحت السيطرة، وأنه من خلال تحالفه مع التاجر يأخذ حصة من الأرباح. كما يظن التاجر أن بتحالفه مع مسؤول الدولة يضمن دعمه بانتهاكاته للقانون، وأنه بتحالفه مع الشيخ، يضمن مكانه في الآخرة”([65]).
يسلط هذا الكتيب الضوء على الطرق التي تضمن بها هذه العلاقات بقاء النخب الدينية والسياسية والتجارية للنظام. ووفقًا لتوماس بيريت، هذا هو “السبب الرئيس للصمود المدهش للنظام”([66]).
تكيف بشار الأسد تجاه نمو الجماعات الإسلامية بتطبيق سياسة أبيه في الاستقطاب. سعى بشار لتعزيز شرعية النظام مع الشعب من السنة بعد ربيع دمشق في عام 2004، والذي شهد ظهور جماعات علمانية معارضة بعد أن جرى قمعها في عهد أبيه. وللقيام بذلك، حشد تأييد ودعم الأغلبية الدينية السنية والتي، خوفًا من العلمانية، استجابت إلى تجديد الدعم للجماعات الإسلامية المعتدلة([67]). وجرى إنشاء عمود فقري للدعم السني المعتدل للنظام، ما مكّن بشار الأسد من وضع نفسه على أنه البديل الوحيد للتطرف.
وكان هذا بشكل جزئي ممارسة بلاغية. فبدلًا من العلمانية المتشددة للفكر البعثي، روّج لأفكار “تكريس الأخلاق ونشر ثقافة التسامح وإيصال الرسالة الحقيقية للإسلام”([68]). كان الهدف إنشاء وحدة وطنية، وتعزيز الاعتدال الديني لمواجهة التطرف الإسلامي([69]).
كما دُعم المشروع أيضًا بسياسات وُضعت لإرضاء السُنّة. فألغي حظر الحجاب في المدارس كخطوة أولى. وعلى الرغم من أن القانون لم يطبق منذ عام 1982، لكن إلغاءه كان رمزًا كبيرًا([70]). وعلاوة على ذلك، أصدر النظام قرارًا بالإفراج عن 800 من أعضاء حزب الإخوان السوري والسماح لهم إلى العودة من المنفى، وبالتحديد القائد الأعلى أبو الفاتح البينوني([71]). وعين النظام أيضًا رجال دين مستقلين ومحترمين على نطاق واسع في مناصب في السلطة. وفي عام 2006، عُين رجل الدين الحلبي، إبراهيم السلقيني، مفتيًا، وسُمح بالاحتفالات العامة للمناسبات الدينية إلى جانب عرض الأيقونات الدينية في الشوارع([72]). ومن خلال الإجراءات الرمزية هذه، تفوق النظام على الأعداء السابقين للنظام، كقيادة جماعة الزيد، إحدى الحركات التعليمية المتورطة في انتفاضة حماة([73]). وأثبتت هذه السياسات فعاليتها في وقت أصبحت فيه القوى الديمقراطية أكثر تعبيرًا عن آرائها. وقام العديد من العلماء المسلمين بدعم النظام، وكانت الأولوية قتال الأعداء الخارجيين، وهي أداة بلاغية انتشرت بشكل مستمر أثناء الصراع القائم([74]).
وبدأ النظام أيضًا في دمج الدين في مؤسساته. وفي شهر شباط/ فبراير من عام 2004، افتتحت الحكومة أول مؤتمر ديني ودعت رجال الدين لإلقاء محاضرات للطلاب في أكاديمياته العسكرية، وهي المؤسسات المشهورة بفكرها العلماني. ويرمز هذا إلى احتضان النظام المتزايد لخطاب ديني علني، ويمثل تغييرًا كبيرًا عن عقيدة حافظ الأسد([75]). إضافة إلى ذلك، يلاحظ بيريت وسيلفيك عددًا متزايدًا من الشخصيات السنية البارزة تترشح لانتخابات مجلس الشعب. ففي الانتخابات التشريعية لعام 2007، حصل كل من محمد حمشو وعبد السلام راجح، كلاهما سُنّي وتجمعهما علاقات سياسية وعشائرية وثيقة بالنظام، على أكثر من 80 ألف صوت([76]). وبالتالي أدى تسامح الدولة مع القيادة السنية إلى دعم أوسع للنظام.
لكن هذا لا يعني أن النخبة الدينية أصبحت مسيّسة. كان هناك إدراك بأن استمرار مشروعهم الإسلامي سيكون مشروطًا “بفك الارتباط العلني والأساسي عن عالم السياسة”، ما سيخنق المعارضة المعتدلة ذات القاعدة الدينية مع الحفاظ على الدعم السني للنظام([77]). لكن الفترة ما بين عامي 2007 و2011 شهدت علمانية الدولة. فقد وضع النظام سياسات تنميط في المؤسسات الشرعية، وحظر بعض الاحتفالات الدينية وسجن شخصيات دينية محافظة بعد هجوم واسع بالقنابل في عام 2008([78]). ولكن جرى وضع ذلك في إطار خطاب متحفظ متناقض. واعتمد وزير الأوقاف بشكل كبير على محمد سعيد رمضان البوطي، والذي خفف جدول أعماله المحافظ من وطء سياساته التي لا تحظى بشعبية كبيرة في الأوساط الدينية، محافظًا على شرعيته والنظام في أوساط المجتمع السني([79]).
كما أن رد النظام على غزو العراق في 2003 فعل الكثير لتعزيز العلاقة مع الأغلبية السنية. “سلوك بشار خلال الحرب أعطاه مكاسب سياسية فورية في سورية” وضمن لنظامه صدقيته القومية([80]). أولًا، وضع بشار الأسد نفسه في مقدمة المعارضة العربية للحرب منتقدًا بعدائية التصرفات الأميركية. وعلاوة على ذلك، سمح النظام بتهريب الأسلحة وسهّل تدفق المتطوعين الجهاديين([81]). وقد شجعت الحكومة السورية الدعوة إلى الجهاد بشكل علني، وأصدر المفتي العام في سورية، وهو شخصية محبوبة لدى النظام، فتوى تشرّع الهجمات الانتحارية ضد القوات الأميركية في البلاد([82]). وقد عززت هذه الخطوات الدعم المحلي من خلال تخصيص واستغلال النزعات الإسلامية التي بدأت تبرز داخل المجتمع السوري، وزيادة دعم الدولة للشؤون الدينية التي قادت بشار الأسد للوصول إلى الجماعات الدينية التي تم تهميشها من قبل أبيه([83]). وقد اتخذ هذا شكل تعزيز الدعم داخل المجتمعات الإسلامية الخيرية، متبنيًا مواقف مقبولة أكثر تجاه الإسلاميين في المجال العام، ومواءمة نفسه مع الجماعات الإسلامية المعتدلة([84]). أظهرت سياسات التكيف هذه أن بشار الأسد “قريب من قلب رجل الشارع العربي، ومستعد لتلبية متطلباته”([85])، بحفظه “لوحدة الائتلاف الحاكم وضمانه لبقاء الأنظمة قبل وقت طويل من بدء سقوط المنطقة في صراع طائفي”([86]).
من خلال استقطاب انتقائي لنخب دينية مختارة في سورية، فضلًا عن تكيف السياسة الخارجية دعمًا للرأي العام المحلي، حافظ النظام على عنصر كبير من الدعم بين السُنّة من السوريين. وكنتيجة لذلك، لم يتفاعل السكان من السنة في سورية مع ثورة 2011 كحركة موحدة([87]). والهدوء الذي أظهره علماء الدين السوريون منذ اندلاع الثورة “يدل على نجاح تدابير الاستقطاب للنظام”([88]).
Anchorالسنة السوريون: مدى الدعم زمن الحرب
على الرغم من الكثير الذي كُتب عن حجم المعارضة السنية الكبير، لكن القليل من الكتابات مفهومة عن أولئك السنة الذين توجب عليهم أن يبقوا موالين للنظام. وكما هي الحال في كثير من الأحيان عندما يجري تحليل الدعم داخل الدولة الاستبدادية، فمن الصعب تقييم الدعم السني لنظام الأسد. والبيانات قليلة، وما هو متاح غالبًا مسيّس بشكل كبير. ومع ذلك، هناك بعض الأدلة المتاحة التي بواسطتها يمكننا تقييم الدليل على التعددية الدينية في بنية الجيش العربي السوري. وبينما يقترح بيلين وجوشوا أن الأنظمة المحاصرة تلجأ إلى التدابير القمعية العرقية الطائفية، لعل الحال في سورية أكثر تعقيدًا. يناقش هذا القسم مدى سوء فهم الرواية الطائفية للنزاع.
في مواجهة الثورة، عكس الأسد سياساته في إعادة تطبيق العلمانية، وأعيدت المدرسات المحجبات إلى مناصبهن، كما أعيد الموظفون الحكوميون الإسلاميون إلى مناصبهم، وعُكست العلامات الخارجية للعلمانية العامة، مثل الكازينو الذي جرى افتتاحه مؤخرًا في دمشق([89]). كما أنشأ النظام مؤسسات دينية جديدة مثل قناة “نور الشام” التلفزيونية، ومدارس دينية. وسمح النظام لهذه المدارس بإصدار شهادات معترف بها، تلبية لطلب طويل الأمد من رجال دين سنيين محافظين([90]). ومن خلال معالجة مخاوف النخبة الدينية في سورية، تمكن النظام من ضمان ولاء حلفائه الدينيين التقليديين والشخصيات السنية الشعبية، مثل البوطي، الذي انتقد بشدة التمرد على أنه مؤامرة خارجية ضد البلاد. وقد سمح هذا أيضًا للنظام بقمع المزيد من الشخصيات الدينية المتمردة، في خطوة أدت إلى ردة فعل ضئيلة من الطبقتين الوسطى والعليا من السُنّة. وكانت هذه السلبية “أقل صلة بالدين، من حقيقة أن الكثيرين من السوريين في مناطق متمدنة غير متحمسين في الغالب تجاه طبقة الفلاحين والكادحين، والانتفاضة التي تزداد تطرفًا([91]).
على الرغم من اعتداءات النظام بشكل واسع على مناطق سنية، إلا أن جزءًا كبيرًا من السنة وغيرهم ممن يخفون مخاوف حقيقية من النظام يشعرون بالتهديد من ظهور عناصر متطرفة في المعارضة المسلحة([92]). وتظهر هذه المخاوف على ما يبدو بين الطبقتين الوسطى والعليا من السنة المتمدنين، ولا سيما المصالح التجارية التي رعاها النظام للعديد من السنوات. إن إدراك أن المعارضة ذات قاعدة ريفية بقيادة قرويين محافظين دينيًا وغير مثقفين، نفّرت المتمدنين من السنة الذين لا يظهرون سوى قليل من التعاطف مع فقراء الريف وما يتعرضون له من مظالم، والذين تربطهم بهم القليل من القواسم المشتركة اجتماعيًا([93]). لقد كانت قدرة النظام على متابعة خطابه عن الاعتدال والتعددية الدينية أمرًا حيويًا في الحفاظ على الدعم السني، على الرغم من الكسور الطائفية الواضحة التي زورها الصراع. ومع ظهور جماعات متطرفة كتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وضع النظام نفسه “أقل الشرّين”، بحمايته للدولة العربية السورية، والأقليات، والسُنّة المعتدلين([94]). وهذا لم يحمِ النظام من انتفاضات الأقليات والسنة فحسب، بل زاد من تعقيد الحجج الداعمة للتدخل في الصراع أيضًا.
وقامت المعارضة بلفت الانتباه إلى دور رجال الأعمال البارزين من السنة في دعم القوى البعثية، بما في ذلك تنظيم وتمويل وتسليح المليشيات غير النظامية. وقد شكّل محمد جابر، وهو رجل أعمال سني بارز وجنرال سابق في الجيش السوري، إحدى أكثر الوحدات فعالية للنظام، “صقور صحراء سورية”، وإن كانت لا تدين بالولاء لهيكل قيادة الجيش وجرى تشكيلها من أجل حماية مصالحها المهمة في حقول الشاعر للغاز([95]).
إضافة إلى القوات غير النظامية، لم يغفل المعلقون دور السنة في الجيش السوري والأجهزة الأمنية. في حين أن العديد من المستويات العليا من مناصب القيادة وتشكيلات النخبة يهيمن عليها العلويون بعلاقات وثيقة مع النظام كما تصوّر بيلين، فإن السنة يشكلون الأغلبية في صفوف الجيش المتوسطة والدنيا وبعض المناصب المؤثرة. فوزير الدفاع الحالي هو فهد الفريج، وهو سني بارز من مدينة حماة. وعلاوة على ذلك، فإن اثنين من ضباط الاستخبارات البارزين، علي مملوك ومحمد ديب زيتون، ينحدران من عائلات سنية بارزة. حتى قائد اللواء الخامس الذي يحمي مدينة اللاذقية، مسقط رأس الأسد، العميد جهاد محمد سلطان، عميد سني رفيع المستوى([96]). من حيث الرتبة، تشير التقديرات إلى أن السنة يشكلون نحو 60 إلى 65 في المئة من الجيش العربي السوري، وعلى الرغم من الانشقاقات الجماعية في صفوف المجندين الشباب، والمستويات العالية من الاستنزاف ومشكلات التجنيد، يواصل السنة لعب أدوار رئيسة في الحملة العسكرية على أعلى مستويات نظام المعركة([97]). وهذا يشير إلى أن الروايات الطائفية تقلل من شأن تعقيد الصراع وقوة شبكات الاستقطاب في إطار دعم النظام.
Anchorخاتمة
لذلك، وفي حين أن التحليل المعاصر والدراسة العلمية محقين بشكل جزئي في اقتراح أن النظام في سورية حافظ على شرعيته من خلال الدعم الدولي، وقوته العسكرية والقمع، إضافة إلى الانقسامات والتطرف في صفوف المعارضة، إلا أن النظام السوري اختبر أطر أعمالنا كافة لفهم القدرة على الصمود. فالطرق التي استقطب النظام فيها النخب الاقتصادية والدينية بينما تكيّف مع التغييرات في المحلية والدولية كانت حاسمة في مواصلة صموده في أثناء الحرب في سورية. ومن خلال بناء شبكات رعاية داخل نخبة رجال الأعمال في سورية، ضمن النظام الحفاظ على الموارد الاقتصادية اللازمة للحفاظ على الحملات العسكرية الشرسة، وحماية المناطق الخاضعة لسيطرته، والاستمرار في توفير وظائف الدولة الحيوية للحفاظ على مكانته مع السوريين الخاضعين لسيطرته. إن الاستقطابات الاقتصادية، أثناء حرب ما، تسمح للنظام بالحفاظ على الموارد مثل النفط وموارد أخرى تحت سيطرة المعارضة أو العقوبات الدولية. لقد كانت وظائف الدولة حاسمة للنظام بالحفاظ على شرعية زائفة، وبعرض نفسه على أنه الفاعل الوحيد في سورية القادر على توفير الضروريات اليومية، وحماية واستقرار الشعب السوري. وكما أشار خضر خضور، “إن سيطرة الأسد على المؤسسات العامة في سورية، وتوفير الخدمات الأساسية يجب أن تُكسر من أجل حل الأزمة السورية”([98]).
وعلاوة على ذلك، إن الروايات الطائفية التي عادة ما تُعرض في الدراسة والتحليل السياسي كهيئة دافعة للصراع السوري تحجب عنصرًا مهمًا من عناصر الصمود. لأن الطرق التي استقطب فيها النظام السلطات الدينية وعدّل سياساته تجاه الدين تبقى مهمة لفهم صمود النظام. ومن خلال استقطاب حذر لنخبة دينية مخلصة قبلت الهدوء السياسي لإصلاحات محدودة للسياسة الدينية العامة، قام النظام ببناء قاعدة متينة من دعم السنة والأقليات سواء في الجيش أو في المؤسسات العامة.
إن سياسات الاستقطاب الديني وتكييف السياسات، خاصة ردًا على غزو العراق وظهور العنف المتطرف في المنطقة، سمح للنظام بالحفاظ على دعم السُنّة، مع التخفيف من النداءات المتزايدة من أجل إرساء الديمقراطية في السنوات التي قادت إلى الصراع. وقد مكّن هذا الاستقطاب النظام من وضع نفسه على أنه نظام ديني تعددي معقل العلمانية في مواجهة المعارضة السنية المتطرفة، وهي معارضة صورها النظام بأنها تهدد المناخ الديني المعتدل في سورية، إضافة إلى تهديدها للعديد من الأقليات. ومن ثمّ، فإن قدرة النظام على الصمود، بدلًا من أن تأتي من خلال تعبئة قمعية عرقية طائفية التي اقترحها بيلين، تنبع من محاولات لعولمة تعددية قومية تجند قوات من مختلف الانقسامات الطائفية في سورية.
ويشير هذا التحليل إلى أن الأطر المعاصرة غير كافية لفهم مقاومة النظام السوري إبان الحرب الأهلية. وقد أتاحت الطرق التي بنى فيها النظام شبكات طويلة الأمد من الاستقطاب، وتعديل سياساته بما يتلاءم وبيئته، للنظام مواجهة موجات الصراع التي دمرت البلاد. إذا كان صانعو السياسات سيصيغون سياسات بشكل فعال لإنهاء الأعمال العدائية في سورية، فإن هذه العناصر تتطلب اهتمامًا أكبر من الناحية العلمية والسياسية.