لا يوجد كائن عاقل في هذا العالم يوافق على ما قاله بشار الأسد بأن “سورية عام 2019 أفضل مما كانت عام 2011″، إلا ما يسمى علماء الدين المحتشدين أمامه، بمناسبة افتتاح “مركز الشام الإسلامي لمواجهة الإرهاب والتطرف”، التابع لوزارة الأوقاف، وبعض المعتوهين سياسيًا، استنادًا إلى مجموعة من الحقائق العلمية التي سردها الأسد أمامهم، فهو “رجل علم يعتمد لغة الأرقام، ويرفض لغة الإنشاء”، على حد قوله.
بداية، لا بدّ من التأكيد أن علمية، أو عدم علمية، هذه النتيجة التي توصّل إليها الأسد تعود إلى المنظور السياسي، الذي ينظر إلى سورية، بمعنى: هل المقصود بسورية الدولة السورية الجامعة للسوريين كافة، كدولة ومجتمع، أم سورية النظام السياسي الأسدي (سورية الأسد).
استنادًا إلى المنظور السياسي الذي يرى أن سورية هي (سورية الأسد)؛ تأتي النتائج التي توصل إليها بشار الأسد منطقية وعلمية، بالنسبة إليه، حيث رأى هذا المنظور السياسي منذ ثورة 2011 أن الدفاع عن النظام الأسدي هو دفاع عن دولة سورية، وما شعار “سورية الأسد” و”الأسد أو نحرق البلد” و”نحن الدولة ولاك” إلا تجسيد معاش لهذا الفهم السياسي للدولة، بما فيه كلام الأسد. بمعنى آخر: الدولة السورية تختزل باستمرار الأسد على كرسي الرئاسة، أي لا فرق بين الدولة ومؤسساتها وبين النظام السياسي الأسدي.
أما المنظور السياسي، الذي يرى ويتطلع إلى بناء سورية كدولة ومجتمع، أي أن يكون هناك إقليم جغرافي له سكان (الشعب)، ونظام سياسي اجتماعي يتمثل بالمؤسسات السياسية والاجتماعية المنبثقة عن توافق أغلبية المواطنين، إضافة إلى الحكومة المتمثلة بالمؤسسات التنفيذية التي وظيفتها إدارة شؤون المواطنين وتقديم الخدمات الرئيسية لهم، إضافة إلى المؤسسات التشريعية والقضائية التي حاول السوريون، في الأشهر الأولى للثورة السورية 2011، استرجاعها من “سورية الأسد”، من خلال شعار “سورية لنا وليست لبيت الأسد”؛ فهو تجسيد لمفهوم سورية الدولة والمجتمع.
أي أن الهدف الرئيسي لثورة 2011 هو العمل من أجل بناء سورية الدولة التي تتوفر فيها الديمقراطية، العدالة، تداول السلطات الحكومية والرئاسية، الحريات السياسية كافة، احترام حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، واستقلال المؤسسات الدينية عن السياسية… إلخ، تلك هي دولة القانون والمواطنة في العصر الحديث.
لا شك في أن سورية كدولة معاصرة تبلورت في مرحلة ما بين الاستقلال 1946 إلى عام 1958، من خلال وجود دستور وأحزاب سياسية متنوعة، ومؤسسات مجتمع مدني وتداول للسلطة، وتنحية العنصر الديني المذهبي والطائفي عن المشهد السياسي نسبيًا، إلى أن جاء انقلاب البعث 1963، الذي قام بهدم كل ما يتعلق بالمقومات المؤسساتية للدولة السورية الناشئة عن الانتداب الفرنسي، وبنى على أنقاضها كيانًا استبداديًا، خاصة في عهد الأسد الأب، الذي عمد إلى تحويل الدولة الديمقراطية الهشة، من حيث الاندماج المجتمعي، إلى كيان أمني منتشر ومتغلغل في الأنساق الاجتماعية السورية كافة، من خلال تفكيك مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، لصالح مؤسسات سياسية ونقابية تقودها أجهزة مخابرات، مثل حزب البعث والمنظمات الشعبية والنقابية وأحزاب الجبهة التقدمية الرديفة، والاعتماد على مؤسسة الجيش كجيش عقائدي بصبغة طائفية علوية غير معلنة، وعلى المؤسسات الأمنية، مع إعادة الروح لبعض الأنساق الاجتماعية التقليدية، الدينية المذهبية، العشائرية والطائفية، للاتكاء عليها في المناسبات التي يجد أنه يحتاج إليها، سياسيًا وأمنيًا، من خلال إعطائها بعض الأدوار السلطوية الهامشية، من أجل استمرار سلطته التي استمرت إلى عهد الأسد الابن.
أما ما سهّل على الأسد الأب تفكيك هذه الدولة الناشئة ديمقراطيًا، فهو أنها تكوّنت قانونيًا بقرار من سايكس بيكو، قبل أن تتكون مجتمعيًا ووطنيًا، إذ لم يكن هناك قبل عام 1918 دولة، مجتمعيًا وقانونيًا، إنما ولايات معزولة عن بعضها البعض (حلب، دمشق، حمص، حماة، إدلب… الخ) تتبع السلطة المركزية الخاصة بالدولة الإسلامية العثمانية، وفي حالة غياب الاندماج الاجتماعي الكافي على نمط الدول الأوروبية المتمثل بدولة مؤسسات المواطنة والمشاركة. إضافة إلى غياب الهوية السورية الجامعة للمواطنين كافة، استنادًا إلى رفض معظم التيارات السياسية (البعثي، الشيوعي، الإسلامي، القومي العربي، القومي الاجتماعي) لهذه الدولة، باعتبارها دولة سايكس بيكو، والجميع تطلع إلى الانطلاق منها، كدولة مؤقتة لبناء الدولة العربية الموحدة، الدولة الاشتراكية المندمجة مع المعسكر الاشتراكي السوفيتي سابقًا، أو إعادة الأمجاد التاريخية، من خلال بناء دولة (الخلافة) الإسلامية… الخ.
أظهرت الحرب في سورية، في إثر ثورة 2011، أن لا وجود لشعب سوري واحد، وإنما هناك عرب، أكراد، تركمان، شركس مسلمون، مسيحيون، سنة، علوية، دروز، إسماعيلية… إلخ، ومع ذلك لم تنهَر ما يسمى الدولة السورية، كما يدعي المنظور السياسي الأسدي بما فيهم بشار الأسد، على الرغم من كل الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية، وتدمير معظم البنى المجتمعية حتى البنى القيمية الأخلاقية والثقافية، حيث عشرات المجازر التي حصلت على خلفية طائفية، أما الجواب عن ذلك فبسيط، ويمكن تكثيفه بعدم وجود دولة، بالمفهوم المعاصر بالأساس، وإنما هناك مؤسسات أمنية وعسكرية تدور في فلك الأسد هي التي اعتبرت الدولة، وهي التي لم تنهَر في الواقع، ومن هنا يحضر كلام الأسد: “سورية 2019 أفضل من سورية 2011″، كون هذه المؤسسات الأمنية لم تنهر، وبالتالي استمر في الحكم من خلالها، بغض النظر عن غياب أهم مقومات الدولة المعاصرة كافة وحدة الإقليم الجغرافي، حيث سورية موزعة بين خمسة احتلالات خارجية، فضلًا عن الميليشيات العسكرية الطائفية، حيث لا سلطة حتى للمؤسسات الأسدية عليها.
لذلك كان هناك قبول طبيعي من معظم السوريين بالتدخل الخارجي، بداية من النظام الأسدي ومواليه بتقبل التدخل الروسي والإيراني والميليشيات الشيعية، بهدف الحفاظ على النظام الأسدي (سورية الأسد) وكذلك الأمر بالنسبة إلى بعض القوى السياسية المعارضة التي طالبت بالتدخل الخارجي خاصة من قبل الولايات المتحدة الأميركية وبعض الأوروبيين وتركيا، واهمين بإمكانية مساعدتهم بالخلاص من النظام الأسدي الاستبدادي، وليس من أجل سورية كدولة ومجتمع.
إذا نظرنا إلى ما جاء في خطاب الأسد، من منظور الدولة ومؤسساتها؛ فسيكفي عرض ما جاء في نتائج العديد من الأبحاث والدراسات الموضوعية التي أنجزت خلال أعوام 2013 – 2015 من قبل مراكز بحثية مستقلة سياسيًا، أكدت بإيجاز أن سورية تحتاج إلى عشرين عامًا للعودة إلى عام 2011، بشرط وقف الحرب فورًا أي عام 2014، وإيجاد حل سياسي شامل يتوافق عليه السوريين كافة والدول الإقليمية والدولية التي لها علاقة بالشأن السوري، أي توافق سوري وإقليمي ودولي على الحل السياسي من أجل إعادة الإعمار وبالتالي إعادة سورية إلى مستوى 2011 على الصعيد المادي، أما على الصعيد الاجتماعي والثقافي أي موضوع الاندماج المجتمعي السوري، فهذا يحتاج ربما إلى مدة زمنية طويلة جدًا تقدر بأضعاف سنوات الإعمار المادي، حيث تحولت سورية إلى أكبر كارثة إنسانية في العصر الحديث، فقد جمعت مآسي الصومال وأفغانستان والعراق… الخ. من التشظي المجتمعي الطائفي الذي وصلت إليه سورية والمرتبط بشكل أساسي بالنظام الأسدي الذي يعد المصدر الرئيس له، فهو الذي قام على تأجيج النزعات الطائفية والمذهبية، من خلال الجيش والمؤسسات الأمنية بالدرجة الأولى التي تهيمن عليهما الطائفة العلوية بالدرجة الأولى، وخاصة في الصف القيادي الأول، وهذا ما خلق عدم ثقة بين الطوائف السورية بشكل عام، وبخاصة في المناطق التي حدثت فيها مجازر وتهجير قسري وتغيير ديموغرافي ذو صبغة مذهبية وطائفية، وجروح اجتماعية عميقة لا تندمل بالمدى المنظور، حتى بعد انتهاء الحرب، على طريقة استمرار النظام الأسدي في الحكم أو في الاتجاه الآخر بعد إسقاطه وتغيّره.
أما من يقول، بعد كل هذه الكوارث، بأن الدولة في سورية 2019 أفضل مما كانت قبل تسع سنوات من الحرب، فهو غير مدرك لأبسط مفاهيم الدولة، وهي غياب مؤسسات الدولة المعاصرة مطلقًا في سورية، ولو أننا افترضنا وجودها، وإن كان على نمط مؤسسات الدولة التونسية؛ لسقط النظام السياسي في سورية من الأسابيع الأولى للثورة عام 2011، أو بالأحرى لما كان هناك ضرورة للثورة ولهذه التضحيات؛ ذلك أن الثورة قامت من أجل بناء دولة المؤسسات القانونية. ومن هنا، فإن نقطة البداية لعودة سورية، كدولة ومجتمع، هي بناء المؤسسات الدستورية.