مُقارَبة تحليليّة في أقذع بيت هجاء عربيّ
خاص ألف
2019-06-29
_ قالَ الأخطل:
" قومٌ إذا استنبَحَ الأضيافُ كلبهُمُ
قالوا لأُمِّهُمُ: بُولي على النّارِ ".
يُقال إنَّ هذا البيت هو أقذع بيت هجاء قالته العرب، وفعلاً هو يُصنَّف مع بيت آخَر (وهو البيت الذي قاله الحطيئة في الزّبرقان بن بدر: " دعِ المَكارِمَ لا ترحلْ لبُغيتها/ واقعدْ فإنكَ أنتَ الطّاعمُ الكاسي ")، على أنَّهُما أشدُّ الأبيات هجاءً في تاريخ الشِّعريّة العربيّة الكلاسيكيّة.
في هذا البيت يهجو الأخطل جريراً وقومَهُ (بنو تميم)، ويُنسَبُ لجرير في بعض المَصادِر، ولبني تميم في مَصادِرَ أخرى، القولُ تعليقاً على هذا البيت: " ما هُجينا بشيءٍ هوَ أشدُّ علينا من هذا البيت.".
لكنْ، بعيداً عن الحدَث المُحيط بقول هذا البيت، أحببتُ أنْ أُشارككُم قراءتي لمَا ينطوي عليهِ من طاقةٍ تكثيفيّة تخلقُ ببراعةٍ نادرة الدَّلالة الجَماليّة فيه، وعلى الرَّغم من تحفُّظي على صفة " عبقريّة " لأسباب تخصُّ مفهوم الذّات في تفكيري وتوجُّهاتي النَّقديّة والفلسفيّة، ولا سيما في نقدي للدَّلالة المَركزيّة لها، وكذلكَ على الرَّغم من حذري من صفة " الإعجاز "، وما تُحيل إليه من مُبالَغات (تقديسيّة) أحياناً، لكنَّني أقولُ إنَّ هذا البيت يحوز شيئاً من القُدرة العبقريّة الإعجازيّة النّاهِضة على حَوامِلَ اللُّغة والنَّحو والبلاغة، وهيَ الأُمور التي يُحيلُ إليها السِّياق النَّظميّ حسب " نظريّة النَّظم " لعبد القاهر الجرجانيّ، وما سبَقَها وما تلاها في التُّراث النَّقديّ العربيّ/ الإسلاميّ، أو حسب مَفاهيم " الانزياح " الحديثة بدءاً بجاكبسون، ومُروراً بجان كوهن، وانتهاءً بكمال أبو ديب.
_ البيت المَدروس من جديد:
" قومٌ إذا استنبَحَ الأضيافُ كلبهُمُ
قالوا لأُمِّهُمُ: بولي على النّارِ ".
_ التَّحليل، وتفتيق الجَماليّات:
ينهَضُ هذا البيت على (ثمانية) أُسُسٍ لُغويّة ونحويّة وبلاغيّة تبثُّ الطّاقة الدَّلاليّة الجَماليّة المُكثَّفة جدّاً إلى حدٍّ استثنائيٍّ قلَّما ينطوي عليه بيت شِعر واحد، وهذِهِ الأُسُس (الثَّمانية) هيَ:
1_ يبداُ الأخطل البيت بخبر لمبتدأ مَحذوف (قومٌ: التَّقدير هُم قومٌ)، وهو هُنا يستهلُّ البيت بنكرة (شكليّاً)، والتَّنكير في هذا السِّياق هو انتقاص من قيمة هؤلاء (القوم)، فهُم (قومٌ) نكرة لا قيمةَ لهُم، وهذا الانتقاص الذكيّ مُرتبط بسياق البيت، لأنَّهُ علينا أنْ نأخذ بعين النَّظَر أنَّ (قومٌ) هيَ خبر لمبتدأ محذوف كما قلتُ، وقد تدلُّ في سياق بيت آخَر على المديح والتَّعظيم، لا على الاستخفاف والاستهزاء والسُّخريّة كما هو الحال في هذا السِّياق.
2_ أداة الشَّرط (إذا): هيَ أداة شرط غير جازمة، في ظرفٍ للزّمان المُستقبَل، وجملة الجواب بعدها لا محلَّ لها من الإعراب، وهذِهِ الأداة وحدها تنطوي على دلالات عدّة مُتراكبة، أوَّلُها الإشارة الضِّمنيّة إلى ضعف احتمال قُدوم الضُّيوف (إذا حضروا)؛ أي إنَّهُم قلَّما يأتون إلى هؤلاء القوم، وهوَ انتقاصٌ من قيمة هؤلاء القوم، ومن المَعروف أنَّ صفة (الكرم) من أعمدة القيَم عند العرب، وفرضيّة حضور الضّيوف أتتْ هُنا مُستقبليّة، لأنَّ هؤلاء القوم مُجرَّبون ببخلِهِم ماضياً وحاضِراً، ولذلكَ لا محلَّ لجُملة جواب الشَّرط (إذا) المُستقبليّة من الإعراب، لأنَّ فرضيّة مجيء الضُّيوف مشكوكٌ فيها: (إذا جاؤوا).. ؟!!.
3_ الأضياف: جمع قلّة على وزن (أفعال) الذي هو جمع للأسماء الثُّلاثيّة (أضياف جمع قلّة لضيف)، لذلكَ لم يقُل الأخطل (ضيوف)، بل استخدمَ جمع القلّة (أضياف)؛ أي (إذا) جاءَهُم ضيوفٌ، فهُم قليلو العدد ورُبَّما قليلو القيمة، لمَعرفتِهِم ببخل هؤلاء القوم.
4_ (إذا استنبَحَ الأضيافُ كلبهُمُ): من المعروف أنَّ الكلاب تنبحُ حينما يقترب الغرباء من البيت أو المَضارِب، لكنْ لشدَّة بُخل هؤلاء القوم، يبخلُ حتّى كلبهُم بالنُّباح، كأنَّهُ غير مُرحِّب بالضّيوف، لا بل أكثر من ذلكَ: لابُدَّ من استثارتِهِ بشدّة كي ينبحَ، لذلكَ قالَ الأخطل (إذا استنبَحَ)، واستنبَحَ على وزن (اسْتَفْعَلَ)، وهي صيغة الفعل الثلاثيّ المزيد بثلاثة أحرف هم الألف والسّين والتّاء في أوَّله، وتُفيد هذِهِ الصِّيغة من الفعل مَعنى (الطَّلَب)؛ أي إنَّ الضُّيوف أنفسهُم مضطَّرون أنْ يستثيروا الكلبَ (استنبحَ الأضيافُ كلبَهُمُ)، وأنْ يحثّوهُ (طالبينَ) منهُ أنْ ينبحَ لشدّة تماهيهِ مع بُخل قومِهِ، ولذلكَ يُشكِّلُ الفعل (استنبَحَ) بما ينطوي عليه من دلالة (الطَّلب) قرينةً حاسِمة لإلغاء القول إنَّ الكلاب لا تنبَحُ إذا اعتادت على قدوم الضُّيوف أو الغُرباء..؟!!.
5_ قالوا لأُمِّهُمُ: (بُولي على النّارِ): من الكبائِر عند العرب إهانة الأمّ، إذ إنَّ هؤلاء القوم يتنحَّونَ عن استقبال الضُّيوف، وأكثر من ذلكَ، يأمرونَ أُمَّهُمُ بالكشف عن مهبلِها، وإطفاء النّار، وهيَ كبيرةٌ من كبائِر الإخلال بمَنظومة القيَم عن العرب.
6_ هؤلاء القوم يُريدونَ إطفاء النّار التي هيَ عند العرب (دليلٌ مادِّيٌّ) للعابرين والمُسافرين والضُّيوف إلى مَضارب القبائِل كي يهتدوا إليها ويلوذوا بها، وتنطوي (النّار) في الوقت نفسِهِ أيضاً على (دلالة مَعنويّة) تُشير إلى التَّرحاب بالضُّيوف والكرم وحُسن الاستقبال.
7_ هؤلاء القوم لشدَّةِ بخلِهِم، يبخلونَ بِـ (الماء) أيضاً، فلا يستخدمونَهُ في إطفاء النّار، بل يستخدمونَ البولَ بدلاً منه، فأيُّ بخلٍ عارمٍ هذا..؟!!.
8_ الدَّلالة الجماليّة الأخيرة هيَ أنَّ نارَهُم صغيرة جدّاً لشدّة بخلِهِم، كأنَّها غير موجودة، وإلاّ فما هذِهِ النّار التي يُطفِئُها بولُ امرأة..؟!!.
نعم: هوَ بيتٌ واحدٌ، وفي الهجاء، وقد يرى البعض أنَّهُ لا ينطوي على صورة بلاغيّة آسِرة، لكنَّهُ ينطوي على طاقات دلاليّة جَماليّة استثنائيّة ونادِرة قلَّما يستطيعُ بيت شِعر واحد أنْ يجمَعَها على هذا النَّحو من التَّكثيف (الإعجازيّ) لُغةً ونحْواً وبلاغةً، وتبقى هذِهِ مُقارَبةٌ أوَّليّة تهدف إلى تعميق إحياء قراءة الشِّعر بالطُّرُق التَّقليديّة، وبالطُّرُق الحديثة متى استطعنا إلى ذلكَ سبيلاً، مع التَّأكيد أنَّ الوجود التَّفسيريّ والتَّأويليّ في عالَم الشِّعر وجودٌ توليديّ مُتنامٍ وغير قابلٍ للاستنفاد أمامَ تعدُّد القراءات واختلاف العُصور.
مصطفى قرشي
2019-08-13
رائع
البحري المصطفى
2021-09-16
الألياف لضرورة الوزن إذ إن ضيوف يتكسر الوزن والظاهر أن التأويل المقترح لم يدر بخلد الأخطل وهو يهجو غريمه جرير
08-أيار-2021
15-أيار-2021 | |
30-كانون الثاني-2021 | |
31-تشرين الأول-2020 | |
19-أيلول-2020 | |
29-آب-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |