الثورة السورية بين أصالة الساروت وزيف بعض المثقفين
نادر جبلي
2019-07-06
توخيت تأخير هذا المقال عن الساروت بضعة أيام، حتى تهدأ قليلًا موجة السجالات وردّات الفعل الهائلة، المشحونة بالعواطف، والتي أطلقها سقوط الثائر الشاب شهيدًا منذ ثلاثة أسابيع تقريبًا، على جبهات القتال في ريف حماة الشمالي، حيث يستعر القتال بين قوات نظام الأسد وحلفائها من جانب، وفصائل (المعارضة) المسلحة من جانب آخر. ومن بين تلك الفصائل، (جيش العزَّة) الذي كان الساروت يقاتل ضمن صفوفه.
لاقى ابن السابعة والعشرين مصيره الذي اختاره بوعي وثبات وشجاعة قلّ نظيرها، بعد أكثر من ثماني سنوات من انخراطه الكامل في ثورة السوريين على نظامهم، كان فيها في المقدمة دائمًا، متظاهرًا ومنشدًا ثم مقاتلًا..
موجة ردات الفعل غير المسبوقة تلك، أظهرت مكانة ذلك الثائر، والأثر الكبير الذي تركه في نفوس الجميع، محبين ومبغضين وما بينهما. فالموالون من جانبهم استنفروا قواهم الإعلامية وجيوشهم الإلكترونية لتشويه سمعة الرجل، والتشويش على كل صوت يشيد به، وهذا مفهوم. أما المعارضون، فيمكننا القول إنه باستثناء النخبة المسيسة و/أو (المثقفة) فالجميع تأثر بموت الساروت، ونعاه بحزن وألم، وأطنب في إبراز بطولاته ووفائه للثورة وصلابته في محاربة النظام.. والجميع توَّجوه بطلًا شعبيًا، ورمزًا من رموزهم الوطنية، وهذا ما لا تخطئه العين. أما من أُسميهم بـ (النخبة) فانقسموا في أمر الساروت، بحسب تقديري، إلى ثلاث فئات رئيسة: فئة ذهبت مذهب غالبية الناس، في اعتباره حالة ثورية أصيلة، ورمزًا من رموز هذه الثورة. وفئة ثانية، بعضها حسن النيَّة وبعضها سيؤها، ذهبت في الاتجاه المعاكس، واعتبرته جزءًا من التنظيمات الإسلامية المسلحة، التي شوهت صورة الثورة وأضرت بها أكثر بكثير مما أفادتها. وفئة ثالثة هي وسط بين الاثنين، رأته ثوريًا مخلصًا في البداية، لكنه انحرف عن المسار الصحيح، وتبنى السلاح وتحوّل نحو السلفية الجهادية، ما خفض كثيرًا من قيمته الثورية.. وحَول موقف هاتين الفئتين، الثانية والثالثة، أخصص أسطري هذه.
تسهيلًا لمناقشة هذه المواقف النُخبوية، أُذكِّر، من دون إسهاب، بأبرز المحطات في حياة ومسيرة الساروت[1].
نشأ الساروت الذي ولد عام 1992، وترعرع في حي فقير مهمَّش ومهمل، هو حيُّ البيَّاضة العشوائي شرق حمص، وسط مجتمع تقليدي متدين محافظ.
ترك المدرسة قبل أن يُكمل الإعدادية، وعمل في مجال البناء ليساعد في إعالة نفسه وأسرته.
برع في مجال الرياضة، وأصبح حارسًا لمنتخب شباب الكرامة، ثم حارسًا لمنتجب شباب سورية، وذاع صيته في حمص.
انخرط في الثورة منذ بدايتها، وسرعان ما برز وعُرف كمنشد للثورة، يتصدر التظاهرات في حمص هاتفًا ومنشدًا، وحظي بسبب ذلك، إضافة إلى كونه حارس شباب الكرامة، بشعبية كبيرة جدًا في أوساط المتظاهرين، ما رشحه بالمقابل ليكون هدفًا مهمًا لأجهزة أمن النظام وشبيحته.
رغم الاستقطاب الطائفي الذي استشرى في حمص بشكل خاص أواخر العام 2011، دان الساروت الطائفية، وشكَّل مع فدوى سليمان العلوية فريقًا منسجما لقيادة التظاهرات.
مع إحكام الحصار على أحياء حمص القديمة، ومنها حي البيَّاضة، تحوّل هَمُّ الساروت ورفاقه إلى كسر الحصار، لكن من دون جدوى، وأصيب في المعارك مرتين، وفقد الكثير من رفاقه، ومن بينهم اثنان من إخوته. ثم اشتد الحصار وأصبح خانقًا، وبدأ الناس يأكلون الحشائش وأوراق الشجر ولحم القطط..
في هذه الفترة، فترة اشتداد الحصار على حمص، ورفض فصائل ريف حمص الشمالي المساعدة في فك الحصار، وفشَل المجتمع الدولي في اتخاذ أي إجراء ضدَّ النظام بسبب ارتكابه مجزرة الكيمياوي في الغوطة.. اتضح للساروت حجم الخذلان الذي تتعرض له الثورة من قبل الجميع، وبدأت ملامح تحولات ذات طابع طائفي وجهادي تظهر بوضوح في أحاديثه وصوره.
رفَضَ الساروت بشدة فكرة المصالحة والخروج من حمص أواخر العام 2013، وأصرَّ مع رفاقه على كسر الحصار عسكريًا، لكنهم أخفقوا ودفعوا ثمنًا باهظًا من أرواحهم، وفقد الساروت في المعركة اثنين آخرين من إخوته.. وبدا بعدها واضحًا -من خلال مقاطع الفيديو التي ظهر فيها- أنه أصبح أكثر قناعة وقربًا من فكر السلفية الجهادية (جبهة النصرة وداعش).
قُبيل خروجه مرغمًا من حمص المحاصرة إلى ريفها الشمالي في أيار/ مايو 2014، بعد أن أُسقط في يده، بدا وكأنه استفاق فجأة، وفهم نيّات وتوجهات (داعش) و(النُصرة)، وبدأ بانتقادهما وإعلان خيبة أمله منهما علنًا. وانتقد بشكل خاص اتهامهما له ولرفاقه بالكفر، ما يدل على أنه لا ينتمي إلى أيّ منهما. لكنه رغم ذلك، بقي يدور في إطار السلفية، والنظرة الطائفية للأمور، ويدعو لوحدة الفصائل الإسلامية، أيًا كانت، لإسقاط النظام.
خلال وجوده في ريف حمص الشمالي، أسَّس مع رفاقه “فيلق حمص” الذي رفع علم الثورة، ورفض أيَّ توجهات إسلامية، ووضع لنفسه هدفًا واحدًا هو تحرير حمص من قوات الأسد. وفي هذه الأثناء دُعي الساروت لمبايعة تنظيم (داعش)، ووافق مبدئيًا مشترطًا حصر المبايعة في مقاتلة قوات النظام فقط، أو ما يسمى لدى الفصائل الإسلاميَّة بـ “بيعة القتال”، وهو ما يشبه تحالفًا عسكريًا لهدف محدد. أي من دون الانضواء تحت جناح التنظيم والعمل بإمرته “بيعة الطاعة”. لكنه سرعان ما عاد عن قراره، ورفض كل أشكال التعاون مع (داعش) ومع أي فصيل يتعاون معهم، بعد أن تبيّن له أن مشروعهم هو حكم الناس، و”قتال الثوار” حسبما قال في لقاء تلفزيوني.
غادر إلى تركيا بعد حملة شنتها (جبهة النصرة) على كتيبته، قُتل فيها عدد من رفاقه. ثم عاد إلى الداخل السوري بعد بضعة أشهر، ليقع بيد (النصرة) ويتمَّ اعتقاله مدة 37 يومًا، ليخرج بعدها بوساطات أهلية.
في أواخر العام 2017، انضم مع رفاقه إلى (جيش العزة) أحد فصائل الجيش الحر، لأن (جيش العزة) لا يهتم إلا بقتال النظام، ولا يريد حكم الناس، بل الدفاع عنهم، بحسب الساروت.
شارك مع (جيش العزة) في المعارك ضد قوات النظام في ريف حماة الشمالي، إلى أن قُتل هناك.
بعد هذا الاستعراض لأبرز محطات الساروت، وقبل متابعة النقاش؛ أطرح بعض الأسئلة:
بأيِّ معايير يمكن أن نحكم على شابٍ بسيط (بمعنى غير معقد) قليل العلم والثقافة، نما وترعرع في بيئة شعبية فقيرة مظلومة مهمَّشة، ومرَّ بما مرَّ به خلال الثورة؟ هل نحكم عليه بنفس المعايير التي نحكم بها على مثقف يعيش في باريس مثلًا؟
هل من العدل تصنيف الساروت في خانة الجهاديين التكفيريين، بسبب اقترابه لفترة مؤقتة من الفكر السلفي الجهادي، في لحظة ضعف وشعور عميق بالخذلان وفقدان الرجاء من الجميع؟! وهل كان ممكنًا لداعشي أو قاعدي أن يشكل هذا الثنائي الجميل مع فدوى سليمان، الثائرة العلوية الانتماء، ويقودا معًا تظاهرات حمص ردحًا من الزمن؟ أو أن يرفض الطائفية في معظم أقواله، باستثناء تلك الفترة؟ أو أن يشارك في تشييع الـ(مسيحي) باسل شحادة في الكنيسة، مُنشدًا تحت قُبّتها “أبانا الذي في السموات.. “، حاملًا لوحة كتب عليها “يا يسوع … يا يسوع، عن ثورتنا ما في رجوع”. أو أن يرفض الانضمام إلى (النصرة) أو مبايعة (داعش)، بعد أن فهم غاياتهما؟ أو أن يهرب منهما إلى تركيا، ثم يُعتقل من قبل إحداهما عند عودته؟
هل كان بإمكان شاب كالساروت، تعرَّض لما تعرَّض له من قسوة ومخاطر وخذلان، وشاهد أهله وناسه يموتون قصفًا أو جوعًا أو قهرًا، وفقد خمسة من أفراد أسرته، أن يختار مسارًا أفضل؟ أن يكتفي بحمل الزهور مثلًا بدل السلاح، أمام عدو همجي لا همّ له إلا قتل وتهجير البشر وتدمير الحجر؟ أم أنَّ انضمامه للفصائل الإسلامية هو المشكلة، حيث فضَّلها عن كل الفصائل الديمقراطية والعلمانية والماركسية والسوربونية التي كانت تملأ المكان؟
وهل موقفنا المبدئي، والصحيح طبعًا من قضية حمل السلاح، وأبعادها ومآلاتها الكارثية، يجب أن يمنعنا من تفهم ظروف وأسباب كلّ من حمل السلاح؟
ثم ما هي حلولنا نحن -المثقفين والسياسيين- لمن يعيش تحت البراميل ويأكل أوراق الشجر؟ الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية مثلًا، وقراءة مقالاتنا العميقة؟!
وما قيمة المثقف إذا كان مفصولًا عن واقعه، لا يستطيع و/أو لا يريد رؤيته كما هو، وفهم شروطه الموضوعية والعوامل التي تحكمه؟
وأخيرًا، هل يمكن تغيير واقع بائس بالتنظير على أبنائه والتعالي عليهم وتلقينهم الدروس؟ أم أن فهم أسبابهم وتقدير ظروفهم واستيعاب مشكلاتهم هو المدخل الأفضل لتغيير واقعهم؟ وهل ثمة قيمة معتبرة لمثقف مفصول عن واقعه، متعالٍ عليه؟
في معتقلي الثاني بأمن الدولة، طيلة النصف الثاني من العام 2012، كان يحلو للمحقق في نهاية كل جلسة أن يذكر أمامي شيئًا مخيفًا عن مصير أولادي، ويوحي لي بأنهم يعانون كثيرًا بسببي، وسأتمنى بعد خروجي، إن خرجت، بأن لا أكون قد خرجت كي لا أعرف ما حلّ بهم… وكان ينجح فعلًا بالنيل مني بهذه الكلمات، وبإدخالي في حالة من الكآبة والبؤس لا يشبهها شيء.. وكانت تتملَّكني بعد كل جلسة، فكرة واحدة وحيدة، هي أنني سأحمل السلاح حتمًا، إذا وجدتُ أولادي على ما ذَكَرَ المحقق، ولن يكون لحياتي إلا هدفٌ واحد، هو الانتقام… ومن يقول هذا الكلام هو من لم يكن له من هَمٍّ قبل الاعتقال سوى الحديث عن السلمية، والتحذير من مخاطر حمل السلاح ومآلاته، وعن قناعة مطلقة طبعًا.
أسوق هذه القصة لأقول لمن لام الساروت على خياراته التي فرضتها ظروف مفرطة باستثنائيتها وقسوتها، إن لجهة حمله للسلاح، أو لجهة اندفاعاته المؤقتة والمحدودة نحو السلفية الجهادية، بأنه مفصول تمامًا عن الواقع، وأن موقفه المبدئي، والصحيح، من فكرة حمل السلاح، لا يجب أن يمنعه من رؤية الواقع وشروطه وأحكامه التي يفرضها على خيارات البشر. وأن أحكام الواقع شيء مختلف عن أحكام القيمة. ولو أن المسيح وغاندي والأم تيريزا كانوا مكان الساروت؛ لما ترددوا بحمل السلاح.. وأكرر أن هذا لا يعني تراجعًا عن موقف مبدئي واعٍ من العنف والسلاح.
من لا يستطيع من المثقفين رؤية الواقع وشروطه، وربطه بخيارات الناس، ويكتفي بإطلاق أحكام القيمة عليه، لا يسمى مثقفًا، وهو في أحسن الحالات مثقفٌ ناقص الوعي، لأن الوعي لا يكتمل إلا باقترابه من الواقع واستيعابه..
أستغلُّ المناسبة للإشارة إلى ذلك السجال الطويل، حول حمل السلاح من قبل الشباب الثائر، حيث يُصرُّ فريق من المثقفين والسياسيين على خطأ هذا الخيار، ويشيرون في كل مناسبة إلى أبعاده الكارثية، ودوره فيما آلت إليه الأمور، مستخدمين نبرة مُفحِمة، نبرة من أثبت التاريخ صواب رأيه. لكن أيضًا من دون ربطه بالواقع والظروف، وتصويره وكأنه كان خيارًا للناس، وليس صيرورة حتمية فرضها عنف النظام المهول، وممارساته الطائفية الفجة، ودوسه على كرامة الناس.. وهنا أقول أيضًا ما قلته أعلاه، من أن تجريد سلوك الناس عن واقعهم وظروفهم، وإطلاق أحكام القيمة عليهم دون أحكام الواقع، هو إما موقف منقوص وظالم من قبل مثقف فصامي، أو موقف غير بريء من سياسي لا يهمه إلا تبرئة نفسه و/أو النيل من خصومه.. فهل ثمَّة نظام قانوني في العالم لا يشرِّع للناس حقّهم في الدفاع عن نفسهم وأهلهم وبيوتهم؟ نتحدث طبعًا عن بداية القصة، عندما بدأ جنودٌ، رفضوا إطلاق النار على أبناء وطنهم، بالانشقاق، وتسلَّح شبابٌ للدفاع عن أهلهم وأحيائهم. ولا نتحدث عما اعتور هذه المسيرة فيما بعد، مسيرة حمل السلاح، من أخطاء وانحرافات، وما تعرضت له من استغلال وابتزاز وشراء وبيع، ما يستحق الإدانة بكل تأكيد. لكن نقول أيضًا إن الإدانة المستحَقَّة لمسيرة السلاح، تصيب بهذا المقدار أو ذاك النخبة السياسية والمثقفة التي تصدرت المشهد، وفشلت فشلًا ذريعًا في قيادة الحراك الثوري وتوجيهه، وفي السيطرة على السلاح وتوظيفه في خدمة أهداف الثورة. وليس من العدل أن ننتقد مسيرة حمل السلاح دون أن ننتقد من ترك الساحة فارغة، وفشل في أن يكون قائدًا وموجهًا يستحق الاحترام.
أما بشأن انحرافات الساروت نحو السلفيَّة الجهاديَّة، والتي تُستغل أيضًا للنيل من تاريخه ومسيرته ورمزيته، فأقول أيضًا إنه يمكن فهم تلك الانحرافات إذا وُضعت في سياقها الطبيعي، ونُظر إليها ضمن الظروف والمعطيات التي كانت تشكِّل مجمل المشهد. بدءًا بسِنِّ الساروت، وثقافته المتواضعة، وبيئته البسيطة المتدينة الفقيرة المهمَّشة، مرورًا بصفاته الشخصية المميزة، من عنفوان ومروءة وشجاعة وصدق وعفوية وحب للتضحية، ومرورًا بالأهوال التي عاشها زمن الحرب، من موت ودمار وحصار وجوع وفقدان للإخوة وخذلان من الجميع، وصولًا إلى سيطرة التنظيمات الجهادية على الأرض، وبروزها كقوة قادرة على الفعل والتأثير.
كل هذه المعطيات المؤثرة، إضافة إلى التزام الساروت القاطع بإسقاط النظام بالقوة بأي ثمن، وقناعته بتهافت الحل السياسي مع نظام لا يجيد سوى قتل وإذلال شعبه، وشعوره بخذلان المجتمع الدولي والأصدقاء، حتى رفاق السلاح المقربين… كل ذلك جعله في لحظة ما يرى في (داعش) و(النصرة) داعمًا جيدًا، وربما وحيدًا، لقضيته الوحيدة: إسقاط النظام. فجاء خطابه الإيجابي المهادن تجاهها، وبدا وكأنه أصبح جزءًا منها. لكن ذلك سرعان ما انتهى، وتبين أن الأمر بالنسبة إلى الساروت لم يتجاوز مرحلة الأُمنيات، وأن هدف الساروت من التعاون معهم كان في قتال الأسد حصرًا، وليس الانضواء تحت جناحهم، وأنه تخلى عن الفكرة فور اكتشافه لأهدافهم الحقيقية. وعاد للقتال في صفوف فصائل معتدلة لا غرض لها سوى إسقاط الأسد، ومنها (جيش العزة) الذي قضى مقاتلًا في صفوفه. حتى إن (داعش) رفضت بيعته واعتبرتها ناقصة، وقد وضّح الساروت كل ذلك في فيديوهات لاحقة، كما برهنت على ذلك أيضًا كل محطاته اللاحقة.
هذا الانحراف المؤقت الذي اعتور مسيرة الساروت ضمن المعطيات التي ذكرناها، يمكن تفهُّمه، والتماس العذر له، ولا يشكَّل أساسًا كافيًا لإدانة الراحل والتبخيس من قيمته. بل يُسجَّل للساروت عودته السريعة عن موقفه ذاك، واعترافه بخطئه علنًا في برنامج تلفزيوني، وفي أكثر من تسجيل. وهذه نقطة جديرة بالتقدير، ولها أهمية نسبية عالية، ليس بسبب دلالتها على هامشيَّة ولحظيَّة الفكر المتطرف لدى الساروت فحسب، إنما لكونها سلوكًا شجاعًا متقدمًا لا يسلكه إلا الكبار. في الوقت الذي يمتنع فيه أساطين المعارضة السورية، المثقلين بالأخطاء والخطايا، عن المكاشفة والاعتذار، رغم خراب البصرة. أحدهم ألف كتابًا من 500 صفحة ليقول إنه لم يخطئ شخصيًا، وإن الخطأ كان دائمًا من اختصاص الآخرين.
يعيش فريق وازن من مثقفينا حالة فصام عن واقعهم، تجعل وعيهم ناقصًا بالضرورة، ورؤيتهم قاصرة، وأحكامهم بلا قيمة، وخطابهم ناشزًا ظالمًا في معظم الأحيان. وهناك فريق آخر يؤيِّد الثورة علنًا، ويضمر لها العداء سرًا، ويتوسَّل المثاليَّة والمبادئ المجردة للنيل منها، متربصًا بخطأ هنا وهنّة هناك، وكأن للثورات مساطر معروفة ومسالك محدَّدة تحكم حركتها. وكأن الثوار يمارسون فعلهم الثوري في مقاهي باريس، وليس تحت البراميل. وكأن الثورة الفرنسية كانت صفحة بيضاء، وكأن غيفارا كان حمامة سلام.
بالتأكيد ليس مطلوبًا من الجميع الموافقة على مواقف الساروت، ولا الإعجاب به، ولا التوقف عن نقده ونقد غيره. بل إن النقد أكثر من واجب وأكثر من ضرورة، خاصة للشخصيات العامة. لكن المطلوب هو بعض الموضوعية والإنصاف في الحكم على التصرفات والأحداث، والمطلوب أيضًا هو وعيُ وتقديرُ ظروف الناس وشروط واقعهم.
أصدقائي المثقفين المعنيين، شئتم أم أبيتم، لقد تحول الساروت إلى بطل شعبي، ورمزٍ من رموز الثورة، بقرار الناس العاديين، المبني على حسِّهم الشعبي. وكانت ردات فعلهم على موته بمثابة استفتاء شعبي على تتويجه، وفاز بأغلبية ساحقة لا تُخطئها العين، من دون أن يشكِّل حمله للسلاح عائقًا أمام فوزه، ولا انحرافاته المؤقتة نحو السلفية الجهادية، ولا عفويته وبساطته وهنَّاته وقلة ثقافته. أما أنتم، فرغم ثقافتكم العالية، وسموكم الأخلاقي، ومبادئكم السامية، فللناس فيكم رأي آخر..