تشعُ الآلة الحديدية الضخمة بالحرارة فتجعلها تنز عرقاً، في أيام الصيف القائظة، وتدفعها لسكب الماء البارد على جزئها العلوي، وفوق قميصها كل خمس عشرة دقيقة تقريباً، كانت تأخذ الدلاء البلاستيكة من فم آلة المصنع، وتنظمها فوق بعضها البعض حين سحبت الآلة يدها، وشدتها إلى الداخل بقوة فحاولت استردادها عبثاً، استمرت الآلة في سحبها ورفعها نحو جوفها، ثم نفثت الدخان وطقطقت كموقد قديم، جُفلت تماماً لما حاولت الصراخ وبقي صوتها محجوزاً ومخنوقاً بين ضلوعها، استيقظت من نومها مذعورة تبتلع أنفاسها المضطربة، وماء جسدها يبللها بالكامل.
كان الوقت لا يزال باكراً عندما نهضت من الفراش واتجهت إلى الحمام، فتحت صنبور الماء الدافئ ليتدفق في الحوض، رمقت شباك العنكبوت عند النافذة الزجاجية، ووقفت أمام المرآة المشطورة إلى نصفين يثبتها الإطار البلاستيكي الأسود خلفها، كان يشطر أيضاً انعكاس وجهها إلى نصفين بميول بسيط عند الأنف وحتى الذقن، عاينت عينيها الذابلتين وذاك التجعد الطارىء عند نهايتهما، ثم تأملت باقي تفاصيل وجهها وما ألّم به من تغييرات مستجدة، جعلها تفكر بجدية في شراء مستحضرات تجميل لإخفائها، لكن عَمَّن؟!
امتلأ الحوض وخلعت ثيابها، استلقت فيه وراقبت البخار المنبعث من الماء، عاينت أشياءها القليلة على رف المرآة (فرشاة، معجون أسنان، مزيل العرق) وكأنها تراها للمرة الأولى، فالطلاء الرمادي المُقشر في بعض مساحات السقف، السيراميك الأزرق المُحطم بالقرب من أحشاء الحمام الأنبوبية، شِباك العنكبوت التي نسجها في كافة زوايا النافذة، تركتها دون أن تمسها أو تفكر في ذلك، متغافلة عن ازدياد حجمه وقد صار بطنه بحجم حبة البازلاء، وكل ما تحتاجه مكنسة صغيرة من القش لتدمير عالمه الحريري. راقبته وهو ينزل كلما حطت الذبابة على أنبوب تصريف المياه الشاقولي، ويصعد بسرعة للاختباء والترصد، عندما تطير.
"ليس من العدل أن تكون عنكبوتاً وأكون امرأة " قالتها ببلادة وتهكم.
كان ألمُ كتفيها يتضاءل بعد جرعات الأدوية والحقن التي تناولتها على مدار أسبوعين، إلا أنها لم تبددها بالكامل، وقد كلفتها ما يقارب نصف أجرتها الشهرية لعملها في المصنع. دلكت ساعديها وكتفيها من الأمام والخلف، رفعت قدميها عند نهاية الحوض ليتسع نصفها الأعلى ويغمره الماءُ، بعد دقائق شعرت بالراحة وباستسلام جسدها كلياً للسائل الشفاف.
وبينما كانت تحاول تعقب العنكبوت بناظريها، والذي اختفى على حين غرة، فكرت في وجودها الآني، في احتلالها المكاني، للشقة الصغيرة الصَمُوت وللحوض المتكلس، كحيز طارىء وغير مرئي من هذا الكون العملاق. راقبت الماء الدافئ يلفها ويحررها من وطأة الألم رويداً .. رويداً، ليس ممّا هو فيزيولوجي فقط، بل يتعدى أيضاً إلى الألم المشحون بالعجز أمام فوضى الواقع، الفوضى التي صيرتها الحرب الدائرة في سوريا إلى سوء فهم كامل مع الحياة، وسوء فهم المعطيات المتوارثة عن طبيعتها ورتابتها، وأحالت الداخل أي الذات الإنسانية إلى كتلة كثيفة من الضباب المصلوب على جُنْح الليل.
لم تحن لها الفرصة، قبل سنوات، لوداع زملائها في المؤسسة التي عملت بها لعشرة سنوات، فالطرقات قطعتها حواجز للجيش ثم فصائل للمعارضة، وقد تعرض هذا المركز الدولي التابع لمدينة حلب للسطو والنهب، وربما أشياؤها الصغيرة التي ألفتها على مكتبها، كبعض الصور، الهدايا التي جلبها الخبراء الأجانب من تحف صغيرة، أقلامها الغالية المفضلة، عطر جيفنشي تحتفظ به في الدرج، أصبحت في جعبة غريبٍ الآن، أو طمرها الغبار، كان عملها أحدُ العوالمَ الصغيرة التي فقدتها قبل أن تلجأ إلى روسيا، إلى مدينة صغيرة لم يسمع بها أحد، غير أن جميع هذه المفقودات ماذا تمثل وأي قيمة تحمل أمام عصف الدم المهدور، وكأن الاحتفاظ بالدم في الجسد هو البلسم الذي لا نكف عن تقديمه لأرواحنا المرمية في هذا العالم، بعد أن تفعل فيها فعلتها سكاكين أمراء الحرب.
في هذا الرحم المائي الكبير المُصنع ارتخت وغفت، غير أنها أفاقت حين نزلت أكثر إلى الحوض غير واعية بنفسها ودخل الماءُ أنفها، ففتحت عينيها لتجدَ العنكبوت البني يُحيك شباكه فوق أصابع قدميها.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...