الأسد: الابن الذي ورثَ الجريمة…
فايز سارة
2019-08-24
مرّت الذكرى التاسعة عشرة لـ”احتلال” بشار الأسد موقع رئاسة الجمهورية في سوريا. وأقول “احتلال”، وأنا أستعيد الأحداث التي أحاطت بتوليه المنصب بعد موت أبيه في العاشر من حزيران/ يونيو 2000، إذ سرعان ما نُفذّت الخطوات اللازمة لإيصاله الى سدة الرئاسة. اجتمعت القيادة القطرية لـ”حزب البعث” الحاكم بحسب ما يتطلبه الدستور، واتخذت قرارها بترشيح بشار الأسد لمنصب رئيس الجمهورية. ثم أرسلت القرار إلى مجلس الشعب السوري، وقام الأخير في اجتماع قصير دام ربع ساعة، بتعديل المادة الخاصة بسن المرشح للرئاسة من أربعين سنة إلى خمس وثلاثين، لينطبق الحال على عمر مرشح القيادة. أتت بعدها الجوانب الاجرائية، حيث نظمت الاستفتاء وزارة الداخلية، وأعلن فوز بشار الأسد بنسبة تزيد عن 99 في المئة، على نحو ما درجت العادة في استفتاءات الرئاسة السورية في عهد الأسد الأب (1970-2000). وتسلم بشار الرئاسة السورية بعد أداء اليمين الدستورية أمام مجلس الشعب في تموز/ يوليو عام 2000.
استولى بشار الأسد على المواقع الاساسية للسلطة في بلد من دول العالم الثالث، ذات نظام أمني بناه ابوه لبنة فوق أخرى. فتمت ترقيته من رتبة عقيد في الخدمات الطبية، لم يستغرق الوصول إليها سوى ست سنوات، إلى رتبة فريق، التي لا يحملها غيره من ضباط الجيش، وتم تعينه قائداً عاماً للجيش والقوات المسلحة في اليوم التالي لرئاسته. ثم عقد المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث الحاكم، وتم انتخابه أميناً قطرياً له في حزيران عام 2000. وبهذا أحكم قبضته على أهم ثلاثة مفاصل في السلطة السورية: رئاسة الجمهورية، قيادة الجيش، زعامة حزب البعث الحاكم وجبهته الوطنية التقدمية، ومنها صار مؤهلاً للانتقال إلى مستوى آخر من السيطرة على سوريا والسوريين.
روج النظام بأجهزته الأمنية والسياسية وطابوره الخامس لوصول بشار الاسد إلى سدة السلطة باعتباره رئيساً شاباً، حصل على تعليمه في احسن الجامعات والمستشفيات السورية، وتابعه في بريطانيا، التي عايش نظامها الديموقراطي ومجتمعها المنفتح. وأضاف طابور النظام مادحاً رئيسه الجديد من موقع معارضي نظام أبيه بالقول، إنه شخص لم يتلوث بما ارتكبه نظام أبيه من حمامات الدم، وما رافقها من استبداد وطغيان، ولم يكن صاحب يد في شرذمة المجتمع ومسيرة الإفساد والفساد ونهب موارد البلد.
وللحق فإن جزءاً من السوريين، انخرط في قبول الأضاليل والدعايات، سواء عن اقتناع، وهذا ما فعلته مجموعة منهم، فيما قبلت الفئة الثانية بذلك معتبرة أن لا خيار آخر لديها، فيما أرتأت الفئة الثالثة، أنه ينبغي استغلال تلك الادعاءات للدخول في عملية سياسية- ثقافية، تؤدي ولو على المدى الطويل إلى إصلاح: الوضع السوري، ودفع سوريا والسوريين نحو مستقبل أفضل. وقد أطلّت هذه الفئة برأسها في ربيع دمشق، وسعت إلى تغيير بعض المعطيات القائمة في الواقع السياسي- الاجتماعي والثقافي.
وإذ كشفت تطورات ربيع دمشق، أكاذيب النظام وطابوره الخامس، فقد أكدت إمساك الأسد الابن على ناصية السلطة في نظام مركزي مغلق محكوم، بمقام الرئاسة وبقراراتها، والتي بينت للسوريين عدم وجود أي رغبة في عملية إصلاحية ميسرة هادئة ومتدرجة، كما كان يقول الإصلاحيون الذين بدأت الاعتقالات تلاحقهم على دفعات بعد 6 أشهر من رئاسة الأسد، وامتدت سنوات السجن عند بعضهم حتى قيام الثورة 2011.
كانت جريمة الأسد الأولى اغتصاب منصب الرئاسة عام 2000، وقد عزز نزعة الاغتصاب بالاستيلاء على قيادة الجيش وقيادة الحزب الحاكم وجبهته التقدمية التابعة، ما وضعه في مكانة الديكتاتور وصاحب السلطة المطلقة. ثم جاءت جريمته الثانية في الكذب على السوريين وعلى العالم بكلامه عن الإصلاح والتراجع عنه حلقة حلقة، فيما كان يتابع مع مؤسساته السياسية والامنية- العسكرية بخاصة تصعيد العداء للإصلاحيين، وارتكب بحقهم جريمة الملاحقة والاعتقال استناداً إلى اتهامات شكلية، مستخدماً في ذلك محكمة أمن الدولة والمحكمة العسكرية أو محاكم الجنايات.
وكانت انطلاقة ثورة السوريين في اذار/ مارس 2011، فرصة الأسد للدخول عميقاً في عالم الجريمة من بوابة ارتكابه العنف الفاضح. إذ دفع أجهزته الأمنية والعسكرية للرد العنيف على المتظاهرين السلميين، بأن أطلقوا الرصاص فقتلوا وجرحوا، واعتقلوا، وبدأت حملات الملاحقة الكثيفة، ثم تصاعدت جرائم الأسد، لتشمل اقتحام المناطق من قرى ومدن واحياء وتدميرها إذا أمكن أو حصارها، وقطع إمدادات الماء والكهرباء والغذاء والدواء عنها، وقصفها بكل انواع الاسلحة بما فيها الأسلحة المحرمة دولياً والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، وفق تقارير المنظمات الدولية. ثم أضيفت إلى ما سبق جرائمه في تهجير السكان وإحلال آخرين في بيوتهم وممتلكاتهم، في إطار عمليات تغيير ديموغرافي مقصودة.
وما يضاعف مسؤولية الأسد عن الجرائم، استدعاؤه دولاً وميليشيات للمشاركة في جرائمه، لا سيما إيران ومليشياتها من فيلق القدس الايراني التابع للحرس الثوري، إلى “حزب الله” اللبناني والمليشيات الأفغانية ثم العراقية، وفي عدادها الفاطميون والزينبيون وغيرهما. وقد انضمت روسيا للمشاركة في جرائم الاسد على نطاق واسع بعد تدخلها العسكري المباشر اواخر عام 2015، ولم تتأخر هي الأخرى في جلب ميليشيات تشاركها دورها في جرائم الأسد، فجلبت الى سوريا بعض شركاتها الأمنية لارتكاب الجرائم المأجورة.
وعلى رغم أن الأرقام قد لا تكون لها أهمية في الجرائم التي ارتكبها الأسد وشركاؤه، كما ترى بعض الجهات الدولية، لأنها لا تبدل طبيعة الجرائم وعقوبة اصحابها، فقد يكون من المفيد الإشارة إلى أن محصلة جرائم الأسد وحلفائه البشرية والمادية، قاربت مليون قتيل وملايين الجرحى، ومئات الآلاف من المعتقلين والمختفين قسراً. يضاف إلى ذلك، تهجير أكثر من نصف سكان سوريا منهم نحو سبعة ملايين لاجئ في بلدان الجوار والأبعد منها، وتدمير مئات القرى والمدن بنسب تصل الى 90 في المئة في عدد منها، وبإجمالي خسائر قاربت 400 مليار دولار بحسب أقل الأرقام.
الجريمة الأكبر التي ارتكبها الأسد، تتمثل في أنه خلق بيئة واسعة لممارسة أبشع أنواع العنف وارتكاب الجرائم، بل وتشجيع مختلف الأطراف على ذاك النهج، وسط تغييب القانون والمحاسبة الجنائية. وتجاوز في ذلك أجهزته ومن استدعاهم من ميليشيات وايرانيين وروس، وضم إليهم دول التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب الذي شكلته الولايات المتحدة لمحاربة “داعش” في سوريا. وقد سببت هجمات التحالف خسائر بشرية ومادية كبيرة منها قتل نحو 3 آلاف شخص في الأربع سنوات الاخيرة، ودمار قرى ومدن بينها الرقة التي تم تدمير 90 في المئة منها، وقتل 1600 شخص من سكانها في العام الأخير.
ان روحاً جديداً يولد في أوساط الناشطين السوريين من أجل العدالة ومحاسبة مرتكبي الجرائم والأسد في مقدمتهم، ويجد هذا الروح سنداً له في أوساط القضاء الأوروبي وفي أوساط منظمات حقوقية وقانونية ودولية
كما شجع على الانخراط في جرائم القتل، من يزعم أنه يحاربهم من جماعات إرهابية متطرفة بينها القاعدة وأخواتها، إذ أطلق سراح مئات القياديين وكوادر كانوا معتقلين في سجن صيدنايا وموقوفين في الاجهزة الأمنية صيف عام 2011. وسهل دخول أعداد كبيرة من قياديي تلك الجماعات وأعضائها، إلى سوريا للمشاركة في الصراعات المسلحة، عندما انسحب من النقاط الحدودية، وسهل مرورهم في النقاط الأخرى. بل أن الأسد شجع معارضيه وضغط عليهم للذهاب إلى ساحة العنف المسلح، دافعاً إياهم للتخلي عن سلمية الثورة، والاتجاه نحو عسكرتها لأقصى حد، عبر ثلاثة من إجراءات قام بها، بدأت من عنفه الفاضح والمتصاعد ضد السوريين الذي أورث حقداً متصاعداً، فيما كانت أجهزته تصر على انتزاع اعترافات من المعتقلين، بينهم السلميون بأنهم حملوا السلاح، وقتلوا جنوداً وعناصر أمن. كما وفر تسهيلات لعمليات التسليح ومرور المسلحين، قبل أن يكرر عمليات تسليم بعض المناطق من دون قتال، لجماعات مسلحة للايحاء بقوتهم في مواجهته.
ولم تقتصر جرائم الأسد على العنف، فجرائمه السياسية لا تقل وحشية، وتندرج في مقدمتها خيانته مضمون القسم الرئاسي، الذي أداه أول مرة في تموز 2000، وكرره في 2007 و2014، معلناً التزامه احترام دستور البلاد وقوانينها ونظامها الجمهوري، ورعاية مصالح الشعب وحرياته، والحفاظ على سيادة الوطن واستقلاله وحريته والدفاع عن سلامة أرضه، وأن يعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية. وهي التزامات، لم يتعامل مع أي منها بجدية، ولم يعمل لتحقيقها في سنوات رئاسته كلها. بل إن ما فعله كان العكس تماماً، ما كرس جريمة خيانة القسم الرئاسي، وارتكابه تالياً مجموعة من الجرائم بينها انتهاكه الدستور والقانون، وتدميره مصالح الشعب، وتفريطه بسيادة الوطن واستقلاله، بجلب قوى أجنبية إلى سوريا، وتخصيص الروس والايرانيين بجعلهم أصحاب القرار في كل الشؤون السورية المهمة، وسكوته عن تدخلات أطراف دولية وإقليمية متعددة بالشأن السوري، بما فيها التدخلات المسلحة، وتخاذله في الرد على الهجمات الإسرائيلية على الأراضي السورية، وسكوته عن الاعتراف الأميركي بأحقية إسرائيل بمرتفعات الجولان السورية المحتلة منذ عام 1967.
جرائم اقتصادية واجتماعية
تكشف الأحداث التي توالت في السنوات الماضية، مجموعة جرائم اقتصادية واجتماعية، ارتكبها الأسد ضد السوريين. وإذ كانت جريمة تدمير قدرات السوريين وإمكاناتهم الفردية والاجتماعية بما فيها البنية التحتية، حصلت في إطار جرائم العنف، فإن جريمته في تدمير القطاعات الاقتصادية وفعالياتها، كانت بين النتائج. ولم يعد بالامكان استمرار أي من الأنشطة الاقتصادية بالشكل المطلوب في ظل سيطرة الجيش والأمن وعصابات الشبيحة وعملياتهم، التي عمت مختلف المحافظات، فقطعت الطرق، وحاصرت مدناً وقرى، وصادرت أراضي وممتلكات، وسرقت ونهبت، وكرست ما سمي لاحقاً عمليات التعفيش، والتي تعني سرقة كل شيء، يمكن الوصول إليه، ليس لتدمير أصحابه وأفقارهم وإذلالهم وحسب، بل للحصول على مكاسب مالية، ولو متواضعة.
ولم تقتصر جرائم الأسد على الصعيد الاقتصادي بما تقدم، بل ذهب فيها الى أبعد ما يمكن ان يتوقعه أحد. وتوجه لاقتسام ما تبقى من سوريا بالاستيلاء على أملاك السوريين وبخاصة في المناطق التي دمرتها قواته، وتم ترحيل أهلها بإخضاعها للمصادرة، طبقاً للمرسوم رقم 10 لعام 2016، إذ لم يقدموا وثائق اثبات ملكيتها في وقت تشتت أصحابها في أنحاء البلاد وخارجها، ومنهم نحو 7 ملايين شخص أصبحوا لاجئين. كما أصدر قرارات علنية بمصادرة أملاك آلاف المعارضين والناشطين، وتم وضع اليد على ممتلكات كثيرة من دون أي مستندات قانونية. والأهم في هذه الجريمة متمماتها في سعي الأسد ليهب الممتلكات المصادرة إلى شركات يديرها رجاله وفي مقدمتهم رامي مخلوف وسامر الفوز.
وثمة جانب في جرائم الأسد الاقتصادية، يتعلق في تعامله مع الإيرانيين والروس الذي دعاهم ليدافعوا عن نظامه، ويمنعوا سقوطه طبقاً لتصريحات مسؤولين إيرانيين وروس. وقدم للطرفين عطايا وهبات، شملت قواعد عسكرية ومقرات في مناطق سيطرته، وخص الإيرانيين بأن أعطاهم فرص الاستيلاء على مناطق سكنية وتجارية، سواء بالشراء أو من خلال وضع اليد عبر مليشياتهم. كما عقد مع الطرفين اتفاقيات وصفقات مجحفة، تلحق أضراراً راهنة ومستقبلية بسوريا. وبحسب قانون العقوبات الاقتصادية السوري رقم 37 لعام 1966، فإن الجريمة الاقتصادية “تشمل كل الأعمال التي من شأنها إلحاق الضرر بالأموال العامة والاقتصاد القومي والسياسة الاقتصادية، كالتشريعات المتعلقة بالتمويل والتخطيط والتدريب والتصنيع ودعم الصناعة والائتمان والتأمين والنقل والتجارة والشركات والجمعيات التعاونية والضرائب وحماية الثروة الحيوانية والنباتية والمائية والمعدنية”، ما يعني أن الأسد تورط عميقاً في الجريمة الاقتصادية بحسب القانون السوري.
ارتكب الأسد كثير من الجرائم على مدار سنوات حكمه، وخص السنوات الأخيرة بالجرائم الأكثر والأخطر، وفي كل المجالات، لدرجة يمكن معها القول، إنه لم يبق مجال في الحياة السورية لم تصبه جرائم الأسد، وسط اعتقاده انه وحلفاءه تجاوزوا احتمال سقوطه، وأنهم سينجحون في مساعيهم من أجل تطبيع أوضاعه وإعادته إلى خريطة المنطقة والعالم.
غير أن طموحات الإيرانيين والروس، ومثلها طموحات الأسد في تجاوز جرائمه، لا يمكن أن تتحقق، لا بسبب استمرار رفض السوريين بقاء الأسد ونظامه في سوريا فقط، بل بفعل التداعيات التي تركتها القضية السورية في المستويين الإقليمي والدولي وبخاصة في موضوعي اللاجئين والهجرة، إضافة الى ما صارت إليه سوريا من ساحة للمنافسات والصراعات وتصفية الحسابات بين الدول ولا سيما لدى مثلث التداعيات الأميركية/ الإسرائيلية/ الإيرانية، التي تصاعدت أخيراً، ودفعت بملفات النظام إلى الواجهة، وفي مقدمة تلك الملفات جرائم الاسد واركان نظامه.
ان روحاً جديداً يولد في أوساط الناشطين السوريين من أجل العدالة ومحاسبة مرتكبي الجرائم والأسد في مقدمتهم، ويجد هذا الروح سنداً له في أوساط القضاء الأوروبي وفي أوساط منظمات حقوقية وقانونية ودولية، وتلقى دعماً ولو محدوداً من بعض الحكومات الأوروبية، ما ساهم بالتوجه نحو “الولاية القضائية العالمية” الموجودة في القوانين الوطنية لبعض الدول الأوروبية، والاعتماد عليها في ملاحقة مرتكبي جرائم حرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا، الأمر الذي يعني أن طموحات الأسد ونظامه للهروب من المحاسبة على جرائمهم، ليست سوى أوهام.