"مشاة لا يعبرون الطريق".. ضياع هازل في أحياء غزة
فيصل درّاج
2019-09-21
ستهل عاطف أبو سيف تجربته الروائية بعمل عن مدينة غزة، التي عاش فيها وعرف تحوّلاتها في العقد الأخير. سردت روايته الأولى "حياة معلّقة" عنف الحصار الإسرائيلي، وسخرية الأقدار الفلسطينية التي جمعت بين "تجارة الأنفاق"، التي تترجم السلطة إلى ثروة والثروة إلى سلطة، وانقسام فلسطيني لا شفاء منه، وأقرب إلى الأحجية.
واسترجعت روايته الثانية "الحاجة كاترينا" حياة غزاوية حميمة لا تعرف الكراهية والتعصّب، كانت أو انقضت.
عاد أبو سيف إلى مدينته برواية جديدة: "مشاة لا يعبرون الطريق" (الأهلية للنشر، عمّان، 2019، 205 صفحات)، مطوّراً ما قالت به الرواية الأولى، بعد أن انتقلت "تجارة الأنفاق" من السر إلى العلن وغدا الانقسام قانوناً. بنى روايته على تقنية المأساوي ـــ الساخر، المسوّر باللامعقول، الذي يتحدّث عن مشاة بلا طريق، وطرق تعوّق السائرين فوقها. دفعته تقنيته إلى شكل بوليسي، يثير الضحك ولا يتوسّل الإثارة. أفصح عنوان الرواية، المسكون بمفارقة واضحة، عن رثاء واحتجاج وأحوال مدينة معطّلة، آيتها غزة اليوم، سردت مأساتها الضاحكة رواية أبو سيف.
ثلاثة مستويات حكائية
تنهض الرواية على ثلاثة مستويات حكائية: الأول منها مأساوي الدلالة، قوامه يافاوي قديم عشق "أيام البلاد"، وفصلته النكبة عن امرأة أخلص لها واحتفظ بذكراها إلى أن صدمته شاحنة مسرعة في غزة، وقد جاوز الثمانين وانتهى إلى مشفى. وضع الروائي في العاشق المخذول،
"وصل الروائي بشخصياته المتعددة إلى مجتمع مغترب، لم يعد كما كان ولا يعرف إلى أين يتجه، لكنه وصل أيضاً إلى أفضل ما كتب حتى اليوم، أعطى أسلوباً ومتخيلاً ولغة."
الذي يشبه متشائل إميل حبيبي ويختلف عنه، إشارات مستمدة من مساره: انتظر عودة عشق قديم حتى كاد أن يفقد الذاكرة، جذبه إلى العمل في البريد منتظراً رسالة محتملة، وزاملته درّاجة قديمة أسعفته في بحثه وشاخت مثله، واكتفى ابن يافا القديم بعزلة متقشّفة، لا أقارب ولا معارف، آثار مآله عطف الآخرين وتحوّل إلى حكاية. والحكايات غالباً ما تموت.
جاءت مأساة اليافاوي العجوز من انتظار طويل مغلق الأبواب، التبس بمدينة فلسطينية شهيرة حاكمها الانقسام. يُستكمل المأساوي بساخر يزيده مأساوية، مرجعه المكان الذي انتهى إليه عجوز اجتاحه إغماء طويل "كوما"، وذلك المشفى الرسمي الذي يحيل على السلطة ويقول الشرطي فيه: "أنا الحكومة". يصدر الساخر من مفارقة الأقدار: اليافاوي الثمانيني في "عداد الأموات"، والقائمون على مراقبته وعلاجه عاجزون ولا يقدرون على شيء، و"أنا الحكومة"، أي الشرطي، يسعى وراء "القاتل"، ولا يهمّه العجوز في شيء، ذلك أن في العثور على القاتل المفترض أو اختراعه، ما ينقذ هيبة الحكومة التي يمثّلها شرطي أجمع الناس جميعاً على تسخيفه، معني بإرضاء مسؤول أعلى وبمرتبه الشهري.
يأتي الساخر أو الهازل أو المضحك من شكلانية فقيرة، متداعية المحتوى، فالمشفى القائم كلمة أكثر منه حقيقة، والشرطي ـــ المحقق حركة فارغة والممرضات يقمن بعمل رتيب آلي الحركات، ومدير الشرطي مشغول بعلاقاته العامة.. يتكاثر السديم ويفضي إلى مفارقة جديدة؛ يعتبر الشرطي الناس جميعاً متهمين، ويقرّر أن وراء مآل العجوز مشروع جريمة، ويعتبر الناس جميعاً أن الشرطي هو المتهم الأول، فهو الحكومة القادرة على تحقيق ما تريد. والمنسي الأخير هو العجوز، لا أحد يعرف اسمه، ولا أين يقيم، والاعتراف به من حكاية آثارها، أعطت الشرطي المتبطّل عملاً، ووضعت أمام مسؤوله قضية يتابعها، ونشّطت الصحافي ومديره ومسؤول الأمن... بدت الشكلانية الفقيرة فاعلة نشطة أمام عجوز في طريقه إلى الموت، لم يقتله أحد، إنما صدمه عمره الطويل ودرّاجته المستهلكة.
هكذا تعيش المدينة المعطّلة طرقها مفارقة فاجعة، هازلة، لأن المفارقة تعريفاً: مواجهة الضد بالضد. فالشرطي يبحث عن مجرم لا وجود له، والصحافي يلاحق معارف عجوز لا يعرفهم أحد، والدواء الذي يُعطى للعجوز لا ضرورة له، فقد سقط في الطريق إعياء وعجزاً، وخوفاً من صدمة قادمة، تعده بلقاء مستحيل مع يافاوية عشقها وواظب على عشقها، حتى أتلفته الحياة. لكأن في مآله رحمة لأن "سلوى" غائبة أبداً عن الأنظار، باستثناء عينيّ العجوز القريبتين من الانطفاء.
قرأ أبو سيف المأساوي في عجوز هزمه كل شيء، وفي فلسطينيين رأوا فيه شيئاً وحكاية،
"في روايات أكرم مسلّم ووليد الشرفا وعاطف أبو سيف ما يعلن عن جيل من الروائيين الفلسطينيين جديد، لا يتساهل في النقد السياسي ولا في اللغة"
وقرأه في هرمية الخراب، الممتدة من متزعّم تآلف مع "الأنفاق والمولات" إلى مواطن بسيط هاجسه "تأمين الأولاد"، ومناضل قديم يوغل في التنازل يفاخر بأنه لا يتنازل، وصولاً إلى فتاة يقهرها أخوتها وأب ينتظر زيارة ابن بعيد، ومعلّم شبه أمّي غدا مسؤولاً تربوياً عالي المقام، وإنسان فاسد حافظ على امتيازاته في أزمنة غزة جميعاً. وصل الروائي بشخصياته المتعددة إلى مجتمع مغترب، لم يعد كما كان ولا يعرف إلى أين يتجه، لكنه وصل أيضاً إلى أفضل ما كتب حتى اليوم، أعطى أسلوباً ومتخيلاً ولغة. أضاف إلى جهده السابق عملاً روائياً متميزاً، وإلى الرواية الفلسطينية اقتراحاً كتابياً خصيباً.
يبدو المستشفى، الذي آوى عجوزاً لا سبيل إلى شفائه، مجازاً فنياً موائماً لمجتمع يتبادل حكايات تعلن عن الضياع والعجز والحرمان، يقتات بشواغله اليومية ولا يطمئن إلى ما ينتظره. حاذر أبو سيف السرد الميلودرامي المثير للدموع، ووصف حياة مشخصة متحوّلة متكئا على تقنية "الريبورتاج الصحافي"، الذي ينتقل من حكاية إلى أخرى، طارحاً أسئلة ملتبسة الإجابات، مصالحاً بين منطق العمل الصحافي وعلم الاجتماع... بيد أن الشكل الروائي الصحافي، إن جاز القول، لم يطمئن إلى لغة صحافية، إنما ارتكن إلى لغة نثرية مصقولة، تخترقها تأملات إنسانية رحيبة، وأنجز وثيقة أدبية خصبة الموضوع رهيفة التناول، وتنقد وتسائل وتعين الرواية خطاباً سياسياً نقدياً متمايزاً، قوامه الحكايات.
أقام عاطف أبو سيف عمله الروائي على وحدة المأساوي والهازل معاً إذ في المأساوي ما يشير إلى مغترب اعتلّ مساره، وفي الهازل ما يستدعي مساراً لا يصلحه أحد. انطوى تعامله الرهيف مع المأساوي ـــ الهازل على إضافة جادة لجهده الروائي السابق، تخبر عن روائي يحاذر السهولة ويطمح إلى إبداع متجدّد المقاربة والتناول. ومع أن الواقع الفلسطيني المحاصر بالسلب و"المهزلة" ما يبتسر التفاؤل إلى طيف ضعيف، استولد عاطف من "مرونة الرواية" ما يبعث على الأمل، بطريقة هازلة أيضاً، معتمداً على حوار ذاتي بين الروائي والقارئ، يعتبر الأخير جزءاً من البنية الروائية. ساوق "الذكاء" الرواية، وعيّن الذكاء معياراً فنياً.
ربما كان في روايات أكرم مسلّم ووليد الشرفا وعاطف أبو سيف ما يعلن عن جيل من الروائيين الفلسطينيين جديد، لا يتساهل في النقد السياسي ولا في اللغة، تطيّر من التجريد و"التحريض" السهل، ويدرك أن الرواية تتعامل مع الحاضر الإنساني المعيش وتعمل على تغيير وجهة النظر إليه. فالرواية لا تغيّر الواقع، وإن كانت تغيّر طريقة رؤيته.
عنوان الكتاب: مشاة لا يعبرون الطريق المؤلف: عاطف أبو سيف