تأصيل الخطاب الليبرالي في سورية
2019-10-12
عرف المجتمع السوري -كحال المجتمعات المعاصرة الأخرى- النخبَ الليبرالية، خاصة في مرحلة الانتداب الفرنسي، التي حملت على عاتقها استقلال سورية، ومن أهمها نخب المؤتمر السوري العام برئاسة هاشم الأتاسي، والحزب الديمقراطي برئاسة جميل مردم، وحزب الاستقلال الذي تحوّل فيما بعد إلى الكتلة الوطنية وحزب الشعب، والحزب الحر المعتدل برئاسة عبد الرحمن يوسف المقرب من البلاط الملكي، وكذلك فارس الخوري، شكري القوتلي، لطفي الحفار، فخري البارودي، تاج الدين الحسيني والعشرات الآخرين، الذين كان لهم الدور الفاعل والمؤثر في إعلان الاستقلال.
بعد الاستقلال، عرفت سورية التجربة الليبرالية إلى حد ما، حيث عرفت الديمقراطية، حرية الرأي والتعبير، تداول السلطة، ومارست النخب السياسية -عبر الأحزاب السياسية- نشاطَها السياسي والفكري بِحرية، وفق القوانين الناظمة والدستور، وكان للنخب الليبرالية السياسية السورية الدور الفاعل والمؤثر في التوجيه السياسي للدولة السورية الديمقراطية.
أُجهضت التجربة الديمقراطية السورية على إثر انقلاب البعث 1963، الذي مارس تجربة الدول الاشتراكية الاستبدادية، التي لا تؤمن بوجود النخب الليبرالية والتعددية الحزبية السياسية، حيث الحكم الدكتاتوري، خاصة بعد انقلاب الأسد الأب عام 1970، إذ أصبح حزب البعث، الحزبَ القائد للدولة والمجتمع بقوة القانون، من خلال دستور عام 1972 في المادة الثامنة التي تتنافى مع أبسط المبادئ الديمقراطية المتعارف عليها في الدول الديمقراطية، مبدعًا بديلًا عنها “الجبهة الوطنية التقدمية”، التي تحوّلت أحزابها إلى منظمات سياسية تدور في فلك نظام الاستبداد، وتدافع عنه تحت شعار مناهضة الإمبريالية العالمية، الصهيونية، الرجعية، والإرهاب السوري فيما بعد.
حوصر الخطاب الليبرالي، من خلال ربط الفكر الليبرالي (كأيديولوجيا) من قبل النظام الاستبدادي وحلفائه (الجبهة التقدمية) بالثقافة الإمبريالية والاستعمار، وبالكفر والإلحاد من قبل التيار الإسلامي السلفي المتطرف في سورية، وما الإعلانات الطرقية التي تقول “الأسد أو نحرق البلد” من قبل النظام السوري، و”الديمقراطية بدعة وشرك بالله” من قبل التيار الإسلامي السلفي (جبهة النصرة وأخواتها) إلا تجسيد لهذا التحالف الموضوعي المناهض للفكر الليبرالي في سورية، في مرحلة الثورة السورية لعام 2011، التي تضمنت في أشهرها الأولى المبادئ الرئيسة للخطاب الليبرالي، من خلال شعارات (الحرية، العدالة الاجتماعية، الديمقراطية السياسية، المساواة وحقوق الإنسان… الخ)، رافضة في الوقت نفسه سياسة إقصاء الآخر وذهنية رفض المخالف عقائديًا، والانفتاح على ثقافته، وعدم النكوص إلى ثقافة الماضي، والتعاطي بإيجابية مع الحضارة المعاصرة، إنها جوهر الليبرالية.
استنادًا إلى الشعارات الرئيسة للثورة (الليبرالية) بأشهرها الأولى، أصدرت مجموعة من النخب السياسية في سورية (هيئة العمل الليبرالي في اللاذقية) كتيبًا تثقيفيًا بعنوان: “كيف نفهم الليبرالية”، بهدف التأسيس والتأصيل لتيار ليبرالي سوري، بالاستناد إلى تجربة الخمسينيات الليبرالية في سورية، من خلال إبراز قضايا الحرية والدولة ودورها في المجتمع من منظور ليبرالي مقارنة بالمنظور الماركسي، وعلاقة الليبرالية والعلمانية بالديمقراطية وبالإسلام.
بداية، تأسيس الفكر الليبرالي وتأصيله بالنسبة إليهم في سورية يحصل بالعودة إلى فكر عبد الرحمن الكواكبي، واعتباره عميد الليبرالية، استنادًا إلى كتابه “طبائع الاستبداد” ومفهومه عن الحرية، وتحذيره من دور العسكر الأساسي في الاستبداد الشرقي، والدعوة إلى إعادة روح الكواكبي الإسلامية إلى مجتمعاتنا المعاصرة، وفي الوقت نفسه، اعتبار “خالد العظم” قائدًا لليبرالية في التاريخ السوري المعاصر، واعتباره مهندسًا لها، استنادًا إلى سلوكه السياسي الليبرالي في الخمسينيات، وكرهه للعسكر، واصطدامه المباشر معهم، إضافة إلى إيمانه بالحريات العامة كافة (الصحافة، الرأي والكلام، الاجتماع وتأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية والنقابية، العقائد الدينية … الخ).
أيضًا، الحديث عن طبيعة الأحزاب السياسية السورية التي ناهضت وناضلت ضد نظام الاستبداد، من منظور ديمقراطية الطبقات الشعبية لا من المنظور الليبرالي، حيث أقصت التيارات والشخصيات السياسية التي تمثل البورجوازية، بالتزامن مع التيارات الإسلامية المتطرفة التي هي أيضًا ناهضت نظام الاستبداد، بل حمل بعضها السلاح في وجه، وفي الوقت نفسه كفّرت التيارات الأخرى المؤمنة بالديمقراطية.
أما التيارات الديمقراطية، التي برزت في عام 2000 (لجان المجتمع المدني وغيرها) فكانت أقرب إلى الفهم الماركسي للديمقراطية من الفهم الليبرالي، وأيضًا النخب السياسية التي عبّرت عن الليبرالية كامتداد لنخب الخمسينيات، كان معظمهم معتقلين سياسيين انتقلوا من الأيديولوجيا الماركسية إلى الليبرالية، وبالتالي حدث اصطدام مع رفاق المعتقلات في الأجسام السياسية التي ظهرت إثر ثورة 2011، وهكذا وجد الليبراليون السوريون أنفسهم في مواجهة سياسية فكرية مع التيارات السياسية السورية كافة.
تكمن إحدى الإشكاليات الرئيسة في الخطاب الليبرالي السوري، تاريخيًا، في ارتباط معظم المثقفين (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) بالمبادئ العامة للخطاب الليبرالي، كتعبير عن مسارات شخصية تتضمن ضرورة حرية التفكير والتعبير بشكل عام (مثقف حر)، أما عندما يتعلق الأمر بالمصلحة الوطنية، وبممارسة هذه الأفكار على أرض الواقع، فإننا نجدهم ينقلبون إلى خصوم حقيقين لليبرالية، كما لوحظ لدى العديد من المثقفين السوريين الذين ظلوا طيلة حياتهم الفكرية والثقافية يتشدقون بالحرية والديمقراطية، ولحظة الثورة السورية لعام 2011 اصطفوا إلى جانب النظام الاستبدادي، بحجج أيديولوجية وسياسية لا تُقنع أبسط المحاكمات العقلية.
السؤال المطروح، بهدف التأصيل للخطاب الليبرالي السوري: هل تنتقل هذه المحاولات الفردية (هيئة العمل الليبرالي في اللاذقية) إلى مشروع ثقافي سياسي ليبرالي على مستوى الوطن السوري، من خلال تضافر جهود معظم المثقفين السوريين المناهضين للاستبداد؟ بمعنى آخر: هل نجد تيارًا سياسيًا ليبراليًا سوريًا على مستوى الوطن السوري؟ هذا ما نأمله من خلال التراكمات والجهود الأولية لهؤلاء الليبراليين، مع تبلور مؤسسات المجتمع المدني في سورية.
إن النخب الثقافية والسياسية الليبرالية، بوصفها أداة بناء الحركة الثقافية والسياسية في المجتمع، تتحمل مسؤولية عدم حدوث التحولات الليبرالية المطلوبة في المجتمع السوري، حيث كانت عاجزة عن نشر أفكارها والدعاية لها، مقارنة بالتيار الإسلامي السلفي في مرحلة الثورة السورية، وبالتالي لم تنجح في التأسيس الثقافي السياسي للتيار الليبرالي في سورية، ولا في التأثير في المسار السياسي، وهذا لا يلغي دور النظام الاستبدادي في إقصاء النخب الليبرالية من خلال الاعتقال، وفي الوقت نفسه، احتضانه للنخب الإسلامية السلفية تاريخيًا، وهذا ما ساهم في استمرار سيطرة المفاهيم الدينية الأصولية على أفراد المجتمع السوري، وهنا لا بد من التنبيه إلى أن المواجهة من قبل الخطاب الليبرالي من المفترض أن تكون مع الفهم السلفي المتطرف للدين الإسلامي، وليس للإسلام بحد ذاته.
أثبتت تجربة الثورة السورية عام 2011 أن هناك حاجة ماسة إلى وجود النخب السياسية الليبرالية المتعددة والمتنوعة اجتماعيًا وسياسيًا، لبناء الديمقراطية والسير باتجاه بناء مجتمع سوري تعايشي، متنوع سياسيًا، اجتماعيًا ودينيًا، يحافظ على السلم الاجتماعي، من خلال الحكم الديمقراطي التداولي للسلطة السياسية في سورية.