المرسوم 16 لمأسسة الطائفية في سورية
عمار ديوب
خاص ألف
2019-10-12
لم يكن السوريون بحاجةٍ لمرسومٍ تشريعيٍّ (رقم 16)، لتندلع بينهم نقاشاتٌ واتهاماتٌ متبادلة، تستقي روافدها من واقعهم الغارق في الاعتقال والدمار والقتل والتهجير وصراع الهويات الطائفية. ينظم المرسوم شؤون وزارة الأوقاف، وإذا كان الأمر يجري اعتيادياً في العقود السابقة، فإن إشهار مواد المرسوم (الـ114) أخاف شرائح مجتمعية وثقافية كثيرة، فقد رأوا بأم العين والعقل والخوف الدور الكبير لهذه الوزارة، حيث تقوم بعمليةٍ متكاملةٍ لتنظم الشؤون الدينية الإسلامية “السنّية”، وذلك عبر المساجد والمدارس والندوات والتوجيه الديني، وعبر هيئاتٍ دينيةٍ متعدّدة، وتتوزع في كل المدن السورية، ويصل دورها إلى كل البلدات والقرى.
عكس الشرائح أعلاه، هناك فئة كبرى لم ترَ في المرسوم جديداً، بل اعتبرته شأنا عادياً، ولا يتطلب كل هذه الحماسة والنقاش المدوّي على صفحات “فيسبوك”، وفي الحياة اليومية. وتنتمي هذه الفئة للرؤية الدينية التقليدية، وترفض أغلبيتها التطييف، لكن منظورها العام للحياة هو الإسلام الشعبي؛ الفئة هذه هي عامة المسلمين السنّة. وعكس الفئة الأخيرة، فهناك الفئات الدينية الأخرى، وقد تلقّت المرسوم وكأنّه ماءٌ باردٌ، وقد صبَّ على رؤوسهم! فهي لم تعادِ النظام طوال السنوات السابقة، فكيف يُعيد إنتاج التديّن العام من ناحية، ويدّعي، من ناحية أخرى، محاربة الإرهاب والتطرّف. تغشّ عيون هذه الفئة الأوهام عن علمانية النظام ودفاعه عن الآليات، ولديها فوبيا كاملة من “السنة”. ووفق الأيديولوجيا التي تكرّست، فهي تطابقها مع الإرهاب؛ فكيف يعطي النظام نفسه وزارة الأوقاف “السنّية” كل هذه السلطات!
وجه الغرابة في هذا المرسوم أنّه صدر، وسورية كلها تحتاج لبنية دستورية وقانونية جديدة، تنهض بها، وهناك لجنةٌ دستوريةٌ أطلقها الروس، ويتابعها دي ميستورا، وتتقصّد الوصول إلى دستورٍ ينظم الوضع السوري، وبالتأكيد سيشمل تنظيم شؤون وزارة الأوقاف والشأن الديني
“الإشكال الديني مسيسٌ في سورية وهناك صراعات خيضت باسم الطوائف” بعموميته. وبالتالي، ما الفائدة من مشروعٍ كهذا في هذه المرحلة؟ أيضاً، أليس غريباً أن يصدر المشروع ومجلس الشعب في عطلته، ولم يُمرّر عليه، وتتم مناقشته بشكل دقيق.. إذاً هناك ما يخبئه هذا المشروع حالياً، وهو ما سينجلي في الأشهر اللاحقة.
المرسوم يُطيّف سورية، نعم. إنه يُلحق مهمة المفتي ومؤسسته بوزير الأوقاف، وهناك مجلس علمي فقهي أعلى فيه. وقد أحدث “الفريق الديني الشبابي التطوعي”. وكذلك نصّت المادة الثانية على “تعزيز دور فريضة الزكاة” وتحصيلها، “بما يحقّق مقاصد الأحكام الشرعية”. وعدا عن تشجيع العقلية الدينية التقليدية الخاصة بالأموال، هناك شطبٌ لآليات السوق، والبنوك، ودور المال في إطار السوق؛ أليس حريّاً بالنظام هنا تنظيم عملية جباية الضرائب، وتحديدها وفقاً للملكية، وتزداد بمقدار ضخامتها وتنخفض تبعاً لحجمها، وتشطب لذوي الدخل المحدود.
يلفت الانتباه أن أغلب ما يخص وزارة الأوقات من نشاطات وعقاراتها وأعمالها معفيّة من الضرائب (المواد 4 و67 و75). الأسوأ في هذه النقطة هي المادة 65، وتنص “توقف الملاحقة القضائية بناء على طلب من الوزير بموجب اقتراح مجلس الأوقاف الأعلى، وفي أي مرحلة من مراحلة التقاضي، وقبل صدور حكمٍ مبرمٍ في الدعوى”. والسؤال هنا، أليس هذا المجلس أعلى من مواد الدستور والقوانين بهذه الحالة، ثم ألا تفتح هذه المادة المجال للفساد، وإيقاف الدعاوى، قبل إصدار الأحكام ضمن صفقات لتسوية أوضاع الفاسدين.
وتقول المادة 100 “تشكل بقرار من الوزير بناء على اقتراح مدير الأوقاف لجان تسمّى لجان الأوقاف، وذلك في الأحياء والقرى، وتتولى الإشراف على حسن سير الشعائر الدينية…”. ألا تتضمن هذه المادة مراقبةً دقيقة لشؤون الناس الدينية، وربما غير الدينية؟ ألا تتضمن تشكيل جماعاتٍ في المدن والبلدات والقرى تشبه جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ثم ألن تُصرف نقودٌ كثيرةٌ على هذه الجماعات، ولو قمنا بأية عمليات ضرب وجمع، لخرجنا بنواتجٍ مهولة من أجل السهر على “حسن سير الشعائر الدينية”. ولنفترض النية الحسنة، وهي مراقبة توجهات الناس الدينية، وإبعادهم عن التعصب والأخونة والوهابية، كما تقول مواد المرسوم،
“تعتقد السلطة أنّها تُعيد الوصل مع الطائفة السنية، سيما وأنّ هناك جمهورا “سنيا” كبيرا لها في المدن السورية” فالسؤال من يضمن ذلك، ولماذا لا تكون تلك اللجان من أجل التطييف الواسع للشعب؟ ثم ألا تدفع هذه اللجان والمديريات “السنية” الطوائف الأخرى، لتشكيل مديريتها ولجانها أيضاً؟
رغبة النظام في مكافأة أنصاره “السنة” والمشايخ ومشايخ الدين والقبيسيات (جماعة دعوية نسوية) على وقوفهم إلى جانبهم، وتوسيع دورهم في سورية، تسبّب التعاسة والاستهجان لبقية الأقليات الدينية والعلمانيين، حيث عملت أغلبيتهم في الدفاع عنه منذ 2011 ، وقد أشعرهم، عبر أيديولوجيته وإعلامه، أنّه يُدافع عنهم! يثير اللعب بالموضوع الديني فعلاً المشاعر الحاقدة، وقد وصل الأمر بدعوات للتظاهر وصفحات و”غروبات” وهاشتاغات على “فيسبوك” تعلن بوضوح رفضها الكامل المرسوم، وشارك معارضون كثيرون بمنشورات على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، ترفض أسلمة الدولة السورية، وأنهم سيناضلون من أجل التراجع عن هذا المرسوم، وسيعملون من أجل سورية ديمقراطية علمانية.
الإشكال الديني مسيسٌ في سورية، وهناك صراعات خيضت باسم الطوائف، وهناك قتل وخطف واعتقال تمَّت وفق ذلك، ويأتي المرسوم ليؤجج ذلك كله، وعدا عن هذا وذاك، هناك مواد دستورية قديمة، مثل دين رئيس الجمهورية الإسلام والأحوال الشخصية الطائفية. وربما تعتقد السلطة أنّها تُعيد الوصل مع الطائفة السنية، سيما وأنّ هناك جمهورا “سنّيا” كبيرا لها في المدن السورية. ولكن المشكلة أنّ اللعب بالموضوع الديني يسيّس الهوية المجتمعية طائفياً، وبالتالي إن تنظيم الشأن الديني، واعتبار وزارة الأوقاف كما بقية الوزارات كالتعليم والصحة وسواها، هو عملية سياسية، غرضها تديين الوعي وتطييفه، وتدجينه في إطار “إسلام النظام”، ومراقبته؛ فهل ينجح النظام السوري في قسر الشعب طائفياً بمرسومه الجديد، بينما تبدأ حاجات الشعب من النهوض الاقتصادي وتأمين فرص العمل، وإعطاء الحريات والتحويل الديمقراطي، ومحاكمة أمراء الحرب، وتخفيف دور المؤسسات الدينية في شؤون حياة المواطنين؛ أي جعل الشأن الديني عملاً خاصاً للأفراد وللجماعات، وليس مأسسته، ودعمه، وربط كتلة طلابية كبيرة فيه، وكذلك إيجاد فرص عمل تخص الشؤون الدينية.
المصدر: العربي الجديد