كتاب : وصايا الملوك / دعبل الخزاعي ـ
خاص ألف
2019-10-26
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده. وصلواته على محمد النبي وآله وسلم.
حدثنا علي بن محمد بن الدعبل بن علي بجميع هذا الحديث المذكور في هذا الكتاب، عن جده الدعبل بن علي الخزاعي، أنه قال: رويت علم الأوائل وأنساب العرب عن جماعة ممن أدركت من أهل العلم والمعرفة بذلك، وحفظت عنهم وصايا الملوك وأبناء الملوك من ولد قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم ابن لمك بن المتوشلح بن أخنوخ، وهو إدريس النبي صلى الله عليه وسلم بن يرد بن مملايل بن قينان بن أنوش بن شيث النبي صلى الله عليه وسلم ابن آدم الماء والطين صلى الله عليه وسلم.
قال علي بن محمد، قال الدعبل بن علي: فتوافق جميع من أدركت من أهل العلم والمعرفة على أن أول من بعثه الله تعالى من بعد نوح صلى الله عليه وسلم واصطفاه وانتخبه وأمنه على وحيه ورسالته هود النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أب العرب العاربة، وهو الذي يقول فيه علقمة ذو جدن:
أبونَا نبيُّ الله هودُ بن شالخٍ ... فنحنُ بنو هودِ النبيِ المُطهــــــــــَّرِ
لنا المُلكُ في شرقِ البلادِ وغربِها ... ومفخرُنَا يسمو على كلِّ مفخرِ
فمنْ مثلُ كهلانِ القواضبِ والقنا ... ومن مثلُ أملاكِ البريةِ حـــميرِ
وصية هود النبي
عليه السلام
وحدثنا علي بن محمد، وأسند الحديث عن جده الدعبل بن علي الخزاعي مجال الاختصار، وذكر الدعبل بن علي أن هود النبي صلى الله عليه وسلم قد وصى بنيه، فقال لهم: يا بني أوصيكم بتقوى الله وطاعته والإقرار بالوحدانية له، وأحذركم الدنيا، فإنها غرارة خداعة غير باقية عليكم ولا أنتم باقون عليها، فاتقوا الله الذي إليه تحشرون، ولا يفتننكم الشيطان، إنه لكم عدو مبين.
قال: ثم أقبل على قومه عاد، يوصيهم بما وصى به بنيه، ويعظهم بما حكى الله عز وجل عنه، فقال: " وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله " إلى قوله: " ولا تتولوا مجرمين " . قال: فكان من ردهم عليه " يا هود ما جئتنا ببينه وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين " . " وقالوا من أشدّ منّا قوة " إلى قوله: " ولعذاب الآخرة أخرى وهم لا ينصرون " .
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم أنشد شعراً يسلّي به بعض ما كان فيه هود النبي صلى الله عليه وسلم من الكآبة والجزع والقلق والارتماض والحرب على قومه عاد فقال: " البسيط "
إني رأيتُ أبي هوداً يؤرقهُ ... همٌّ دخيلٌ وبلبالّ وتسهادُ
لا يحزننَّك أن خُصَّت بداهيةٍ ... عادُ بن لاوى، فعادٌ بئسَ ما عادُ
عادٌ عصَوا ربَّهم واستكبروا وعتَوا ... عمَّا نُهُوا عنهُ لا سادوا ولا قادوا
بُعداً لعادٍ فما أوهى حُلُومَهُمُ ... في كلِ ما ابتدعوا أو كلِّ ما اعتادوا
قاموا يُعيدون عنهم من سَفَاهتهمْ ... ركابها، أُهلِكوا أيام ما حادوا
ألا يظُنُّون أنَّ اللهَ غالبُهُمْ ... وأنَّ كُلاً لأمرِ اللهِ ينقادُ
يا ليتَ شعريْ وليتَ الطَّيرَ تُخبرني ... أسالمٌ ليَ لقمانٌ وشدَّادُ!
ويقال: إن لقماناً كان على دين النبي هود. وهو صاحب النسور السبعة. وخبره وخبر شداد يطول الشرح فيه.
وصية قحطان بن هود
وحدثنا علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم وصى بنيه، فقال لهم: يا بني إنكم لم تجهلوا ما نزل بعاد دون غيرهم حين عتوا على ربهم وأعدوا آلهة يعبدونها من دونه وعصوا أمر ربهم، وأمر نبيهم هود وهو أبوكم الذي علمكم الهدى وعرفكم سواء السبيل. وما بكم من نعمة فمن الله عز وجل. وأوصيكم بذي الرحم خيراً. وإياكم والحسد فإنه داعية القطيعة فيما بينكم. وأخوكم يعرب أميني عليكم وخليفتي بينكم، فاسمعوا له، وأطيعوا، واحفظوا وصيتي، واثبتوا عليها، واعملوا بها ترشدوا.
ثم أنشأ يقول:
أبا يشجُبٍ أنتَ المرجى وأنتَ لي ... أمينٌ على سِرِّيْ وجهريَ حافظُ
عليكَ بدينٍ ليسَ ينكرُ فضلُهُ ... فقد سبقتْ فيهِ إليكَ المواعظُ
وواصلْ ذوي القُربى وحطهُمْ فإنَّهم ... ملاذُكَ إن حامتْ عليكَ البواهظُ
ولفظُك عرِّبهُ بأحسنِ منطقٍ ... فإنكَ مرهونٌ بما أنت لافظُ
وكُنْ كاتماً للغيظِ في كُلِّ بدوةٍ ... إذا أُسِخطتْ تلك العيونُ الجواحظُ
بغيضٌ على الأعداء سراً وجهرةً ... بحِلمِكَ ها تلك النفوس الغوائظُ
وما سادَ من قد شادَ إلا بحلمهِ ... إذا لم يلاحِظهُ من البخلِ لاحظُ
فكن ذا حِجىً محضَ الشمائلِ ماجداً ... حفيَّاً حمياً إنني لكَ واعظُ
وصية يعرب بن قحطان
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن يعرب بن قحطان حفظ وصية أبيه، وثبت عليها، وعمل بها. ويقال: إنه أول من تبحبح بالعربية الواسعة، ونطق بأفصحها، وأوجزها، وأبلغها. والعربية منسوبة إليه مشتقة من اسمه. وهو الذي ذكره حسان بن ثابت الأنصاري في شعره الذي يقول فيه:
تعلمتمُ من منطق الشيخ يعرب ... أبينا فصرتم معربين ذوي نفر
وكنتم قديماً ما لكم غير عجمة ... كلام وكنتم كالبهائم في القفر
تقولون مانونخ ودونخ وكنتم ... إذا ما التقينا كالرصاص على الجمر
منازلكم كوثى ومنها درجتمُ ... إلينا كأفراخ درجن من الوكر
فنحن وأنتم كالذي قال لم أزل ... أعلمه رمياً ليمنع لي ظهري
فلما نشا واشتد ساعده رمى ... فلم يُخطِ ظهري إذ رمى لا ولا نحري
وفي ذلك يقول علقمة ذو جدن:
ومِنّا الذي لم يُعربِ الناسُ مثله ... وأعربَ في نجدٍ هناكَ وغارا
وحدثنا علي بن محمد عن جده الدعبل بن علي، أن يعرب بن قحطان وصَّى بنيه مما وصاه به أبوه، فقال لهم: يا بني احفظوا مني خصالاً عشراً تكون كذا لكم ذكراً وذخراً. يا بني تعلموا العلم واعملوا به. واتركوا الحسد عنكم ولا تلتفتوا إليه، فإنه داعية القطيعة فيما بينكم، وتجنبوا الشر وأهله، فإن الشر لا يجلب عليكم خيراً. وأنصفوا الناس من أنفسكم لينصفوكم من أنفسهم. وإياكم والكبر؛ فإنه يبعد قلوب الرجال عنكم. وعليكم بالتواضع، فإنه يقربكم من الناس ويحببكم إليهم. واصفحوا عن المسيء إليكم، فإن الصفح عن المسيء يجنبكم العداء ويزيد مع السؤدد سؤدداً ومع الفضل فضلاً. وآثروا الجار الدخيل على أنفسكم، فإن جماله جمالكم. ولأن يسوء حال أحدكم خير له من أن يسوء حال جاره، لأن تفقد الناس للمقتدي أكثر من تفقدهم للمقتدى به. وانصروا مواليكم، فإن مواليكم في السلم والحرب منكم ولكم. وابن مولاكم من أنفسكم، وحقه عليكم مثل حق أحدكم على سائركم. وإذا استشاركم مستشير فأشيروا عليه بمثل ما تشيرون به على أنفسكم في مثل ما استشاركم فيه، فإنها أمانة ألقاها في أعناقكم، والأمانة ما قد علمتم. وتمسكوا باصطناع الرجال أجدر أن تسودوا به عليهم، وأحرى أن يزيدكم ذلك شرفاً وفخراً إلى آخر الدهر. ثم أنشأ يقول: " من الوافر "
بنيَّ أبوكمُ لم يعدُ عمَّا ... بهِ وصَّاهُ قحطانُ بن هودِ
فوصاكم بما وصى أباكم ... أبوه عن الإله عن الجدودِ
أذيعوا العلمَ ثمَّ تعلموه ... فما ذو العِلم كالطِفل البليدِ
ولا تُصُغوا إلى حسدٍ فتغوُوا ... غوايةَ كلِّ مختلٍّ حسودِ
وذُودوا الشرَّ عنكُمْ ما استطعتم ... فليسَ الشرُّ من خُلُقِ الرشيدِ
وكونُوا منصفينَ لكلِّ دانٍ ... لينصفكُمْ مع القاصي البعيدِ
وبابُ الكِبرْ عنكمْ فاتركُوهُ ... فإنَّ الكِبرَ من شِيَمِ العنيدِ
عليكمْ بالتواضُع، لا تزيدوا ... على فضلِ التواضُع من مزيدِ
وإنَّ الصَّفح أفضلُ ما ابتغيتمْ ... به شرفاً مع المُلكِ العتيدِ
وحقُّ الجارِ لا تنسوه فيكمْ ... فإنَّ الجارَ ذو الحقِّ الوكيدِ
عليكمْ باصطناعِ الخيرِ حتَّى ... تنالوا كُلَّ مكرمةٍ وجودِ
وصية يشجب بن يعرب
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن يشجب بن يعرب ثبت على وصية أبيه دون غيره من سائر إخوته وعشيرته، فساد الجميع بثباته على هذه الوصية، وحفظه إياها وعمله بها.
قال وسألت بعض النَّسابين عن إخوته بني يعرب، فقال: العمالقة إخوته فئتان؛ أما الفئة الأولى فمن ولد إرم بن سام بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الفئة الأخرى الذين كانوا سكان مكة وما حولها فمن ولد يعرب بن قحطان إخوتهم طسم وجديس والحي جرهم الأولى وعاد الصغرى. فكأن يشجب سادها ولاء من إخوته، وساد عشيرته التي منها آباؤه من ولد سام بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدّثنا علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن يشجب بن يعرب بن قحطان وصى بنيه، فقال لهم: بني إني لم أسُد إخوتي وعشيرتي إلا بحفظي وصية أبي يعرب بن قحطان وبعملي بها وثباتي عليها. وإن أبي يعرب بن قحطان لم يسد إخوته وعشيرته إلا بحفظه وصية أبيه قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم وبعمله بها وثباته عليها، وإن جدي قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم لم يسد قومه وإخوته إلا بحفظه وصية أبيه هود النبي صلى الله عليه وسلم وبعمله بها وثباته عليها. فابقوا على ما وجدتموني عليه، وهو الذي أنهيته إليكم كلاماً وشعراً مما وصاني به أبي. وقد حفظتم الكل، فاثبتوا علي، واعملوا به، والله يخلفني عليكم، ثم الرشيد المهتدي منكم. وأنشأ يقول: " من البسيط "
أوصى النبي ابنه قحطان جدِّي بما ... وصَّى بنيه أبي من بعدِ قحطانِ
علمٌ حواهُ أبي من دونِ إخوتهِ ... وحُزتُه بعدَه من دونِ إخواني
وزادَني يعربٌ من بعدِهِ شيماً ... وصّى بنيه بها يوماً ووصَّاني
حفظتُها حينما غيري استهان بها ... وحفظُها آخرَ الأيامِ من شاني
أعبدَ شمسٍ أبيتَ اللعنَ من خلفٍ ... هل أنتَ بعدي لنا في مُلكنا ثانِ
هل أنتَ تحفظُ عنِّي ما حفظتُ وما ... بهِ ثبتتُ لكم مُلكي وسُلطاني
بلى رأيتك هشاً ماجداً فطناً ... وقد إخالُكَ ظناً غيرَ إعلانِ
قال علي بن محمد، قال الدعبل بن علي: فيقال إن عبد شمس بن يشجب حفظ وصية أبيه وثبت عليها وعمل بها، فساد الجميع من إخوته وعشيرته وأهل بيته، وكان ملك الجميع وعمادهم، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد شمس بن يشجب. ويقال: إنه أول من سبى السبايا وأسر الأعادي فلذلك سمي سبأ، وهو عبد شمس بن يشجب بن يعرب، وهو أبو حمير وكهلان. ويقال: إنه أغار على بابل بالخيل والرجال، ففتحها، وأخذ إتاوتها، وضرب بالخيل في الأرض، فكان لا يذكر له بلد إلا قصدها بالخيل والرجال وفتحها. وهو أول من فتح البلاد، وأخذ الإتاوة من أهلها.
وفيه يقول بعض أهل زمانه:
لقد مَلَكَ الآفاقَ من حيثُ شرقها ... إلى الغربِ منها عبدُ شمسِ بن يشجبِ
لهُ مُلكُ قحطان بنِ هودٍ وراثةً ... عن اسلاف صدق من جدود ومرأبِ
فما مِثلُ قحطان السماحةِ والندى ... ولا كابنهِ ربِّ الفصاحةِ يعربِ
ومن كالمُصفَّى عبدِ شمسِ بن يشجُبٍ ... إذا عُدَّ خيرُ الناس من خيرِ منصبِ
سما بالجيادِ الأعوجيةِ والقَنَا ... إلى بابلٍ في مقنبٍ بعد مقنبِ
فآب بأبكارٍ وحُورٍ أوانسٍ ... مع الخَرجِ منها في الخميسِ العصبصبِ
ورعَّلَ فيها الخيلَ شرقاً ومغرِباً ... فمَشرِقُها يُجبى له بعد مغربِ
وحدّثنا علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن عبد شمس وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم جمع أهل مملكته ووجوه أهل بيته وعشيره، وأجلس ابنه حمير عن يمينه، وأجلس ابنه كهلان عن شماله، ثم قال لهم: أيها الناس، هل يصلح ليميني أن تقطع شمالي، أو يصلح لشمالي أن تقطع يميني؟ فقالوا بأجمعهم: أيها الملك، إنه لا يصلح شيء مما ذكرت. فقال لهم: إن أنتم إن همت يميني لقطع شمالي أو همت شمالي لقطع يمين وأكون غافلاً عنهما لا أسُدُّ الشِّمال عن اليمين ولا أسُدُّ اليمين عن الشمال فما أنتم صانعون؟ قالوا: نمنع اليمين عن الشمال، ونمنع الشمال عن اليمين. فقال لهم أعطوني العهود والمواثيق على وفائكم بما تكلمتم به وقلتم إنكم تفعلونه في يميني وشمالي. قال: فأعطوه العهود والمواثيق على ذلك.
ثم قال: أيها الناس إني لم أرد بيميني وشمالي إلا حمير وكهلان، وإني لن آمن أن يختلفا بعدي في الأمر، ولم آخذ العهود والمواثيق عليكم إلا لتحولوا بين من يروم من هذين لصاحبه سوءاً أو خلافاً، وأن لا يطلب أحدهما بعدي أكثر مما يقسم له في مجلسنا هذا.
ثم قال لهم: أيها الناس، إن حمير أكبر من كهلان، وحقه أن يكون عن يميني، وإن كهلان أصغر من حمير، وحقه أن يكون عن شمالي، وإن نصيب حمير من ملكي مثل نصيب يميني من بدني، فانظروا - معشر الناس - ما يصلح لليمين، فادفعوه إلى اليمين، وما يصلح للشمال فادفعوه إلى الشمال.
قال: فدفعوا إلى اليمين السيف والقلم والسَّوط، وحكموا لليمين بذلك. وقالوا: هذه ثلاثة أشياء تعمل بها اليمين، ولا تعمل بها الشمال. ودفعوا إلى الشمال العنان والترس والقوس. وقالوا: هذه ثلاثة أشياء تعمل بها الشمال دون اليمين؛ أما القوس فإنه لا بد للشمال من معونة اليمين في القوس. قال: ثم حكموا بأن صاحب السيف لا يصلح له إلا الثبات والوقوف في موضعه، وحكموا أن صاحب القلم لا يكون إلا مدبراً فاتقاً راتقاً. وحكموا أن صاحب السوط لا يكون إلا رابضاً سائساً. ثم حكموا أن الفتق والرتق والثبات والوقوف والتدبير والرياضة والسياسة لا يكون إلا للملك الأعظم الراقد في دار المملكة، وهو حمير. قال: ثم حكموا أن العنان يقود أعنة الخيل للذب عن الملك ومكابدة الأعداء حيث كانوا. وحكموا أن الترس يرد به البأس، ويدرأ به الحد وتقهر به الحروب عند التلاقي، وتتجشم به المعارك. وحكموا أن القوس ينال بها المناوئ والمناصي على البعد منها. ثم حكموا قيادة أعنة الخيل والمكابدة للأعداء حيث كانوا ورد البأس ودفع الحد وقهر الحروب عند التلاقي ومناوأة الأعداء ومناصاتها لا يصلح إلا لصاحب الدولة والذاب عنها والرامي عن جمرتها والساد لخللها والقائم بحروبها وفتوحاتها وإصلاح الثغور وسدها عنها، وهو كهلان.
قال: فتقلد حمير الملك الراتب في دار المملكة وسمي أيمن، لجلوسه عن يمين أبيه، وتقلد كهلان الأطراف وأعمالها وثغورها ومناوأة العدو حيث كان. على أن لكهلان على حمير المعونة في ذلك مثل معونة اليمين للشمال بالرمي بالقوس، وحكموا أن معونة اليمين للشمال بالرمي بالقوس والنزع والنبل، وهما في غير القوس المال والنجدة، وكان لحمير على كهلان الطاعة وكفاية ما تقلده كهلان.
ففي ذلك يقول هي بن بيّ بن جرهم: " من البسيط "
ما سادَ هذا الورى أبناءُ قحطانِ ... إلا لفضلٍ لهم قِدماً وإحسانِ
ما في الأنام لهم حيٌّ يشاكلهمْ ... ولا لواحدهمْ في الأرضِ من ثانِ
لم يشهدوا الناس في بدو ولا حضر ... حكماً كحكم عظيمِ المُلكِ والشانِ
سبا بن يشجب لابنيه وإنَّهما ... للسيدانِ الرفيعانِ العظيمانِ
أعطى ابنه حميراً منهُ اليمينَ وقد ... أعطى الشِّمالَ ابنه المُسمى بكهلانِ
وقال يُقسمُ ملكي اليوم بينهما ... وقسمةُ الملكِ للاثنان سهمانِ
تُعطى اليمينُ الذي تسطو اليمينُ به ... فيما تعانيهِ من سرٍّ وإعلانِ
وللشِّمال الذي تسطوا الشمال بهِ ... عندَ النوائبِ من بأسٍ وسلطانِ
والسَّيفُ والسَّوطُ صارا لليمينِ معاً ... وذلك القلمُ الجاري ببرهانِ
والقوسُ والتُّرسُ صارا للشِّمالِ وقد ... صار العنانُ لهما والمُلكُ نصفانِ
فصار هذا بتاج المُلكِ مُعتصباً ... دونَ الجحاجحِ من أولادِ قحطانِ
وصارَتِ الخيلُ تحمي الأرضَ قاطبةً ... ومن عليها لهذا الآخرِ الثَّاني
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن حمير وكهلان لم يزالا على ذلك وأولادهما من بعدهما وأولاد أولادهما لحمير على كهلان بالطاعة، ولكهلان على حمير المال والنجدة، والملوك الرَّاتبة في دار المملكة من حمير، والملوك في الأطراف والثغور من كهلان.
وصية حمير بن سبأ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وصى بنيه - وكانوا اثني عشر رجلاً - فقال: يا بني، ما اجتمع اثنان متآزران متعاضدان على أربعة نفر أو خمسة من أشتات الناس إلا غلباهم وملكا أسرهم وقيادهم، وما اجتمع خمسة نفر متآزرون متعاضدون على عشرة أنفار من أشتات الناس إلا غلبوهم وملكوا أسرهم وقيادهم، وما اجتمع عشر أنفار متآزرون متعاضدون على الجماعة التي يكون ميلهم عدد أوزان الأنفس من أشتات الناس إلا غلبوهم وملكوا أسرهم وقيادهم. وأيُّما عصابة غلبت أربعين رجلاً يوشك لها أن تغلب الثمانين والمائة وما فوق ذلك، وغلاب المائة حريُّون أن يغلبوا المائتين. وغلاب المائتين حريون أن يغلبوا الألف. ومنتهى العز للفرقة أن لا يطمع فيها الألف ألف رجل. وما من رجل أطاعه رجل فقام بالمجازاة له على ذلك إلا أطاعه عشرة، وما من رجل أطاعه عشرة أنفار فقام بالمجازاة لهم على طاعتهم له إلا أطاعه مائة رجل، ومن أطاعه مائة رجل فقام لهم بالمجازاة على طاعتهم له إلا أطاعه ألف رجل، وما من رجل أطاعه ألف رجل إلا وقد ساد لا محالة..
يا بني، أطيعوا الأرشد فالأرشد منكم، ولا تعصوا أخاكم الهميسع فإنه خليفتي بعد الله فيكم وأميني فيما بينكم، وإنه لسيفكم وأنتم حد ذلك السيف، وإنه لرمحكم، وأنتم سنان ذلك الرمح وما السيف لولا الحد، وما الحد لولا السيف، وما السنان لولا الرمح، وما الرمح لولا السنان، أنتم بالهميسع وله، والهميسع بكم ولكم. ثم أنشد يقول:
هميسعُ لم تجهلْ معَ الناسِ سيرتي ... فسرْ لي بِها في النَّاسِ بعدي هميسعُ
بنيَّ بهمْ أوصيكَ خيراً فإنَّهمْ ... تضرُّ بهم من شئتَ يوماً وتنفعُ
وعمك وابن العمِّ دونكَ بعده ... مردُّ الأعادي الكاشحينَ ومدفعُ
همُ لكَ كهفٌ بل هُمُ لكَ موئلٌ ... وهمْ لكَ من دونِ البريةِ مفزعُ
وليسَ عُقابُ الطير يوماً وإن لها ... يذِلُّ وتنقادُ البغاثُ وتخضعُ
تؤولُ إلى وكرٍ سوى وكرهَا الذي ... تؤولُ إليهِ للمبيتِ وترجعُ
هميسعُ إنَّ الناسَ وحشٌ وإنهم ... إلى الرِّفق من خمس القوارب أسرعُ
هميسعُ جُدْ بالخيرِ تُجز بمثلهِ ... فكُلُّ امرئٍ يُجزى بما هو يصنعُ
هميسعُ دارِ الناسَ تُعطَ قيادَهُمْ ... فحظُّكَ منهم أن يُطيعوا ويسمعوا
هميسعُ لا والله إن أنتَ حاصد ... طوالَ الليالي غيرَ ما أنتَ تزرعُ
فأُوصيكَ بالإفضالِ مثلَ وصيَّتي ... بإخوتِكَ القُربى فهلْ أَنتَ تسمعُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن الهميسع حفظ وصية أبيه حمير، وثبت عليها، وعمل بها، وأجرى الناس على ما كان يجريهم أبوه حمير حين ولي الملك بعده، وسار فيهم بسيرته، وكذلك ابنه أيمن بن الهميسع الذي يقول فيه عمه مالك بن حمير:
نطيعُ ولا نعصي أخانا الهميسعا ... وأيمنَ ما غنَّى الحمامُ وسَجَّعا
لقد سادَ أملاكَ البلادِ هميسعٌ ... وما كَملتْ خمساً سنوهُ وأَربعا
وأيمنُ شِمنا فيهِ ما في هميسعٍ ... ربَتْهُ بنو هُودٍ فطيماً ومرضعا
فوالله لا ينفكُّ يجمعُ أمرنا ... على ما عليهِ الرأيُ والأمرُ أجمعا
ونُوصي بَنِينا أن تكونَ جموعُهُمْ ... لأيمنَ ما عاشُوا وما عاشَ تُبَّعا
وحدثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن أيمن بن الهميسع لما ولي الملك بعد أبيه الهميسع بن حمير سار في الناس بسيرة أبيه وجده، وحفظ جميع ما تناهى إليه من وصايا آبائه وأسلافه التي يعملون عليها ويوصون بها ويحفظونها لسياسة الملك وصيانة الدولة.
وولي الملك بعده زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير الأكبر، وهو الذي يقول أخوه الغوث بن أيمن فيه:
أبى المُلكُ إلا أن يكونَ وليُّهُ ... ومالِكُهُ بعدَ الهميسعِ أيمنُ
وأن يتلقَّاهُ زُهيرٌ وراثةً ... وللتِّبرِ في مبسوطةِ الأرضِ معدنُ
قد استوطنَ المُلكَ الأثيلَ محلُّهُ ... وللجذر أغصان وللملك موطنُ
أرى لزُهيرٍ أذعنَ الناسُ كلُّهمْ ... كما لأبيهِ أو لِجدَّيهِ أذعنُوا
وصية زهير بن أيمن
وحدثنا علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن زهير بن أيمن بن الهميسع وصى ابنه عريب بن زهير ولم يكن له ولد غيره، فقال: يا بني، قد انتهى إليك ما كان من وصية جدك سبأ بن يشجب بن يعرب، وما افترق عليه ابناه يوم الوصية والقسمة، وهما جداك حمير وكهلان فلا تجرين الأمر إلا على ما جرت به الرسوم من لدنهما إلى هذه الغاية. وأوصِ بعدك من يصلح لهذا الأمر من ولدك ومن إخوتك. وأوصيك بالثبات على ما وجدتني عليه من العدل في الرعية والتجاوز عن المسيء والكف عن أذى العشيرة، والتحفظ بها والتحبب إليها، فما المرء إلا بقومه ولو عز. وأنشأ يقول: " من البسيط "
عَريبُ لا تنسَ ما وصَّى أبُوكَ بهِ ... إنَّ الوصية لمَّا يعدُها الرَّشَدُ
كلُّ امرئٍ عِزُّهُ ... فاعلم عشيرتُهُ وفي العشيرةِ يُلغى العِزُّ والعددُ
ما البيتُ لو لمْ يكنْ فوقَ الأساسِ ولم ... تقلّه دعمٌ للسعف والعَمَدُ
لولا الغَريفُ ولولا خيسُ غابَتهِ ... لما سطا موهِناً بالقُدرةِ الأسدُ
فضيلة المرء تؤويه وتعضدُهُ ... إن الذليلَ الذي ليست لهُ عَضُدُ
والمرءُ تسلمُ دُنياهُ ونعِمتُهُ ... ما ليسَ يأتيهِ من إخوانِهِ الحسدُ
وصية عريب بن زهير
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير وصى بنيه وهم أربعة نفر؛ الصباح وجنادة وأبرهة وقطن بنو عريب بن زهير فقال لهم: يا بني، إني وجدت الشرف والسؤدد والعز والنجدة والطاعة والملك يدل على ستة أشياء. إني وجدت السؤدد لا يزايل الكرم، ولا يسود من لا كرم له. وإني وجدت العز مع العدد حيثما كان، ولا عز لمن لا عدد له، ولا عدد لمن لا عشيرة له، وإني وجدت النجدة في الأيادي، ولا نجدة لمن لا أيادي له، وإني وجدت الطاعة مع العدل، ولا طاعة لمن لا عدل له، وإني وجدت الملك في اصطناع الرجال، ولا ملك لمن لا يصطنع الرجال، يا بني، احفظوا وصيتي واثبتوا عليها، واعملوا بها، ولا تعصوا أخاكم قطناً فإنه خليفتي فيكم بعد الله وولي الملك بعدي دون أي أحد. وأنشأ يقول: " من البسيط "
مضتْ لأسلافنا فيمنْ مضى سُنَنٌ ... ساسُوا بها لَهمُ مُلكاً فما وَهنُوا
فَسُسْتُ بعدهُمُ المُلكَ الذي مَلكُوا ... وأنتَ سائسُ ذاكَ المُلكَ يا قَطَنُ
لم أعدُ سِيرتهُمْ يوماً وأنتَ لهمْ ... لا تعدُ عن سيرتي ما أورقَ الفَننُ
بالأصلِ تُمرعُ لا بالفَرعِ مونقةٌ ... وكيفَ يخضرُّ لولا أصلُهُ الغُصنُ
ذَرِ التغافُل عن نيلٍ تجُودُ بهِ ... إن التغافلَ غيٌّ والهُدى فِطَنُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن قطن بن عريب ولي الملك بعد أبيه، وسار في الناس بسيرته وسيرة أسلافه، وقلد الملك في حياته ابنه الغوث بن قطن بن عريب، وقال له: يا بني إني لم أقلدك الملك ارتفاعاً عنه ولا رغبة في أجل منه، إلا أني أردت أن أقف على سيرك بالناس وسياستك للملك بينهم، وأن أعلم كيف طاعتهم لك كيلا أخرج من الدنيا ولي غصة في ذلك من أمرك وأمر الناس. يا بني، أوصيك بإخوتك أن تفعل لهم ما فعلته لك، وأن تبذل لهم نصيحتك، وتخفض لهم جناحك. وأسألك أن تفعل للعشيرة ما سألتك أن تفعله لهم ولإخوتك، فما الراحة إلا بالأصابع، وما الساعد إلا بالعضُد.
وأنشأ يقول: " من البسيط "
وصَّيتُ غوثاً بما وصَّى أوائلُهُ ... وللوصيَّة إمهالٌ وإمكاثُ
قلَّدتُه المُلكَ لما أن رأيتُ به ... خصائلاً نحوها للمُلك إحثاثُ
ورَّثتهُ سُنناً قد كنتُ وارِثها ... وللملوكِ مواريثٌ وورَّاثُ
قد يُنعشُ المُلكَ ذُو الرأي الأصيلِ كما ... يحييْ زراعتهُ بالرأيِ حراثُ
كُلُّ امرئٍ والذي كانتْ عليهِ لهُ ... اباؤُهُ ولكُلٍّ منهُ ميراثُ
والشَّريُ شريٌ ولو أبصرته عسلاً ... والأريُ أريٌ ولو غَالتهُ أحداثُ
وفي الزّواعب خطِّيٌ وذُو خورٍ ... وفي القواضبِ مِذكارٌ ومِئناثُ
وفي السحاب صبير هويُهُ دلسٌ ... ومطبقٌ مسبِلٌ بالجُودِ لثاثُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن الغوث بن قطن ولي الملك في حياة أبيه، وبعد وفاته دهراً طويلاً، فكان من أحسن الملوك سيراً، وأثبتهم على سنن آبائه وأجداده، وكذلك كان ابنه وائل بن الغوث بن قطن بن عريب حين ولي الملك بعده.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن الغوث بن قطن كان وصى ابنه وائل بن الغوث، فقال له: يا بني، إن الملك دار بناها الله لأسلافك، فعمروها بالعدل والإحسان، فكانت الروائح إليها تروح، والسوام منها تسرح، كذلك ورثتها عمن قبلي، وكذلك أخلفها لك، فعليك بعمارتها كما كان يعمرها من أسلافك. واعلم أن الدار دار بنيت لها، مبنية حيطانها، ومشيدة أركانها. وما لم يقع فيها أو في شيء من بنيانها ثلمة، فإن الثلمة تتبعها مثلها، ولا يستقر إلا في حجرتها. وأوصيك بالرعاة خيراً، فإن السوام لا يصلح إلا بمراعاة المسيم.
وأنشأ يقول: " من البسيط "
المُلكُ دارٌ لمن بالمُلكِ يعمرها ... فمن يفوزُ بها من آلِ قحطانِ
مَنْ كان مِنهُم لهُ الإحسانُ يملكُها ... بما لها من عماراتٍ وسُكانِ
هل ساكن الدار لولا الدار يحفظُها ... إلا كَمَنْ حلَّ في صحراءَ غِيطانِ
وما عسى الدَّارُ لولا ما أحاطَ بها ... لعامرِ الدَّارِ من باب وبنيان
فإن تعاورها ثلمُ فساكنُها ... وساكنُ الفَدفدِ الفيفيِّ سيَّانِ
ما الدَّارُ إلا بِمَنْ يَحتلُّها وبِمَنْ ... توصِيه يَعهدُهَا مِنْهُ بعُمرانِ
وما عَسَى يجمعُ الرَّاعي إذا افترقتْ ... ليلاً عن الحِجرةِ المِعزَا مع الضَّانِ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب ساس الملك بعد أبيه سياسة حمده فيها أهل زمانه، وكذلك ابنه عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب حين ولي الملك بعد أبيه وائل بن الغوث، وسار بالناس بسيرة أبيه، وأجراهم على سنن أجداده وأسلافه. وعبد شمس بن وائل هو جد بلقيس بنة الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو، واسم عمرو معاوية بن المعترف، واسم المعترف علاق بن شدد بن القطاط بن عمرو، وعمرو دوانس بن عبد شمس، فما من هؤلاء القوم المسمين أحد إلا وقد ملك ما ملك عبد شمس وآباؤه من قبله. وأخبارهم تطول عند الشرح.
ثم انتقل الملك من هؤلاء القوم إلى حمير الأصغر وهو زرعة بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن فلس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث. وأخو زرعة سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن فلس وكان حسن السيرة في الناس حين ولي الملك، وكذلك كان ابنه شدد بن زرعة.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن زرعة بن كعب بن زيد بن سهل وصى ابنه شداد، فقال: يا بني، لو أن ملكاً يستغني بثاقب رأيه دون رأي الناس لفضل عقله وكمال معرفته وبارع أدبه وفطنته وعلمه بما تقدم من التجارب لأسلافه مع ما حفظه ورواه وأحاط به من سنن الأوائل من الآباء والملوك من قومه وسنن الماضين من الأجداد من أغنى الملوك عن مشاركة أهل الآراء ومشاورة الأقيال، ووصية الموصين، إلا أنه لا بد للملك من يعينه في الرأي والأمر والنهي، ولا بد له من مشير يحمل عنه بعض ما يثقله من ذلك. ولا بد للولد من وصية الوالد، قلَّت الوصية أم كثرت.
ثم أنشأ يقول: " من البسيط "
جرَّبت قَبلكَ أسباباً عَمِلتُ بها ... في المُلكِ بيني وبينَ النَّاس يا شددُ
فلمْ أجِدْ نجدةً في المُلكِ تكلؤهُ ... مثلَ النَّوالِ إذا ما قلَّتِ العُددُ
ولمْ أجِدْ طاعةً كالعدلِ إن نزعتْ ... عن طاعةٍ لمليكٍ في الأنامِ يدُ
والناسُ كالوحشِ إن دارأتم شرعوا ... وإن دنيت لهم عافُوا وما وَرَدُوا
متى أطاعكَ ساداتُ العشيرةِ لا ... يعصيكَ في الناسِ فاعلم بعدها أَحَدُ
دارِ الورى وذوي القُربى وجُدْ لهمُ ... بالخيرِ إنَّكَ مطلوبٌ بما تَجِدُ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن شداد بن زرعة بن كعب بن زيد ولي الملك دهراً طويلاً لم يعصه أحد من حمير ولا كهلان في ملكه الذي أحاط به بأكثر الأرض ومن فيها. ويقال إنه سار في الناس بسيرة آبائه، وأجراهم على سنن أجداده، وحفظ وصايا الأوائل من أسلافه، وعمل بها، وثبت عليها إلى أن توفي.
وانتقل الملك إلى ابن عمه الحارث الرائش بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس. فالرائش أبو التبابعة السبعة. ويقال: إنه أول ملك استعمل الدروع لأصحابه وألبسهم إياها. ويقال: إنه قسم بلدان اليمن سهلها وجبالها وأوديتها بين عشائره، وأعانهم على عمارتها، وأخرج لهم فيها المستغلات، فارتاشت العشيرة واستغنى بعضها من بعض عن كثير مما كانوا محتاجين إلى الملك مما في يده، ولارتياشهم معه سموه الرائس، وإلا فاسمه الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن الرائش وصى ابنه ذا المنار بن الرائش فقال له: إن أباك حوى لك الملك، وأقره في محتد أنت أوسط الناس فيه، وأولاهم به. وإنه ليوصيك بزيادة ما نالت يدك من الخير أن تفعله إلى من سمع لك وأطاع. واجعل العدل ناصراً، واتخذ الأحساب لك تجده، واصطنع العشيرة ليوم.
وأنشأ يقول:
حويتُ لكَ المُلكَ الذي كانَ حازَهُ ... لأولادِهِ في سلفِ الدَّهر حِميرُ
فكُنْ حافظاً للمُلكِ بعدي عامراً ... فقدْ يُحفظُ المُلكُ الأثيلُ ويعمرُ
وعِمرانُهُ أن يُبسطَ العدلُ دُونهُ ... وبالعدلِ تنهى ما نهيتَ وتأمرُ
وثابِرْ على الأحسابِ إنك لن ترى ... فتىً محسناً إلا يُعانُ ويُنصرُ
وقومكَ واصِلهُم وحِطُهُمْ وإنَّما ... بقومِكَ تعلُو منْ أردتَ فتقهرُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال أن أبرهة ذا المنار بن الرائش ولي الملك بعد أبيه الحارث الرائش، وثبت على ما وصاه به أبوه الرائش وعمل به وحفظه، وهو أول ملك نصب الأعلام وبنى الأميال والعلامات على الطرق والمناهل، ولذلك سمي ذا المنار، وذلك أنه ضرب في الأرض يطلب بلاد في شرقها وغربها ليفتحها، وليأخذ إتاوتها واسمه أبرهة ذو المنار بن الرائش، وهو الذي ذكره صلاءة بن عمرو الأودي في شعره الذي ذكر التبابعة والمثامنة حيث يقول: " من الوافر "
فلَو دامَ البقاءُ إذاً جُدودي ... وأسلافي بنو قحطانَ دامُوا
ودامَ لهم تبابُعُهمْ ملوكاً ... ولم تَمُتِ المثامنةُ الكرامُ
وعاشَ الملكُ ذو الأذغارِ عمروٌ ... وعمروٌ حَولَه النُّجُبُ اللُهامُ
وخُلِّد ذو المنارِ وما تردَّى ... أبُوهُ الرَّائِشُ المَلِكُ الهُمامُ
مُلُوكٌ أدَّتِ الدُّنيا إليهمْ ... إتاوتها ودانَ لها الأنامُ
ولمَّا يَعصِهِم حَامٌ وسَامٌ ... ويافثُ حيثُ ما حَلَّتْ ولامُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: أما سام فأبو العرب، وأما حام فأبو النوبة والحبش والزنج والبجاة والبازة. قال: وقرأت في بعض الكتب أن خراسان أخو فارس، وأخوهما كرمان والكرد الأكبر، أبوهم يافث بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن الروم منه من ولد لام بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم. قال: فأما الروم الأولى فمن ولد لام بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم، إخوتهم الصقالبة والخزر والغورط والكابل والصين والسند والهند.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي أن أبرهة ذا المنار وصى ابنه عمراً ذا الأذعار بن أبرهة ذي المنار، فقال له: يا بني، إن الملك زرع، والملك قيِّمٌ ملك الزرع، فإن أحسن القيم قيامه عليه في سقائه عند حاجته إليه، وفي إجلابه غرائب النبات مما نبته وتعاهده إياه بالكرم وحمايته عن المؤذيات من البهائم والطير زكا حصاده، وكثر محصوله، وحمد القيم، واستكرمت الأرض، وإن كان القيم غير متفقد لذلك الزرع ولا متيقظ لمثابرته على سقياه وكرمه وحمايته وحفظه أوهنه العطش، وأيبسه الخلى، وأكلته الطير، وداسته البهائم، فلا الزرع زاك، ولا الأرض معمورة، ولا القيم محمود.
ثم أنشأ يقول:
يا عمروُ إنَّكَ ما جهلتَ وصيَّتي ... إيَّاكَ فاحفظها فإنَّكَ ترشُدُ
يا عمروُ لا واللهِ ما سادَ الورى ... فيما مضى إلا المعينُ المُرفِدُ
كلُّ امرئٍ يا عمرو حاصدُ زرعِهِ ... والزَّرعُ شيءٌ لا محالةَ يُحصَدُ
إن كانَ مذمُوماً فيعرفُ دُونَهُ ... بالذَّم فيه الزَّارعُ المُتقلِّدُ
أو كانَ محموداً فَتُحمدُ أَرضُهُ ... والزَّرعُ والزَّرَّاع كلٌ يحمدُ
يا عمروُ من نشرَ العلا بنوالِهِ ... كَرَماً يُقالُ له الجواد السيدُ
يا عمرُو أنتَ لكَ المهابةُ والعُلا ... في النَّاسِ والمُلكُ اللقاحُ الأتلدُ
واصِلْ ذوي القُربى وحُطهُم إنَّهمْ ... بِهِمُ تَغَمُّ الأبعدينَ وتصمدُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال أن عمراً ذا الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر خرج يطوف للإعمال من شرق البلاد وغربها، فكان لا يسمع به قوم إلا وولوا الأدبار رهبة منه خائفين مذعورين، فلذلك سمي عمراً ذا الأذعار وهو أبو التُبَّع الأول.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن عمراً ذا الأذعار وصى ابنيه تبعاً ورفيدة فقال لهما: غيركما يجهل الملك وسياسته ورعايته وكلاءته وما يحتاج إليه الملك من التيقظ والتدبير والحزم والحلم والموالجة والمحاماة والمناوأة، وما الملك إلا رحى تدور على قطب، فإن جعل لها مع ذلك القطب قطب آخر وقفت الرحى منها. وهذا لتعلما أن الملك لا يستوي لاثنين إلا أن يكون أحدهما المقتدي والآخر المقتدى به. وقد علمتما أن التاج لا يسع الرأسين، ولا يجمع الرأسان في تاج أبداً، كما لا يصلح السيفان في غمد.
ثم أنشأ يقول شعراً يأمر فيه ابنه رفيدة بطاعة أخيه تبع بن عمرو ذي الأذعار وهو التبع الأول:
رُفيدةُ لا تعصِ أباكَ فإنَّهُ ... رأى رأيهُ أن يُعطي المُلكَ تُبَّعَا
ليُعطيكَ الخيلَ المُغيرةَ تُبَّعٌ ... فترعى لهُ المُلكَ اللَّقاحَ المُمنَّعا
ينالُ بكَ العليَا وأنتَ كمِثلِهِ ... تنالُ به طوداً من العِزِّ ميفعا
وتصبحُ ركناً دُونهُ ووزيرَهُ ... منيعاً ويُمسي مؤئلاً لكَ مفزعا
فما عَزَمَ ابنا سيِّدٍ وتعاضدا ... على سَبَبٍ رأياً هُما فيهِ أجمعا
وقاما لهُ إلا ونالاهُ جهرةً ... وفازا بِهِ منْ دونِ من ذاقهُ معا
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن تبع بن عمرو ذي الأذعار ولي الملك بعد أبيه، وقلد أخاه رفيدة بن عمرو الوزارة، فكان إلى التبع ما يكون إلى الملك، وكان إلى رفيدة ما يكون إلى الوزير، فبقيا في ذلك دهراً طويلاً على وصيته أبيهما عمرو ذي الأذعار، وسار الملك تبع في الناس سيرة أبيه ذي الأذعار، وبسط العدل والإحسان في الأرض، ورزق من الهيبة، وأعطي من الطاعة ما لم يعط أحد قبله. وهو الذي يقول فيه الموثبان بن ذي حارث: " من السريع "
مَنْ ذا الذي يسألُ عن تُبَّعٍ ... كأنَّهُ لم يدْرِ ما تُبَّـــــــــعُ
وتُبَّعٌ في الأرضِ سُلطَانُهُ ... كالشَّمسِ في آفاقها تسطعُ
المَلِكُ المحمُودُ في مُلكِهِ ... والماجِدُ المُهرُ الذي يَمرَعُ
قد ملكَ النَّاس فأحياهُمُ ... ناهيكَ من تُبَّعٍ مُستمتــــــــعُ
ذُو الغارةِ السَّوداءِ تجري لهُ ... أوارد العُصْم فلا تُمنعُ
وَخَيلُهُ مُرسلَةٌ في العدا ... زُهواً رِعالاً تـــــــــــــمرَعُ
إتاوةُ الأرضِ وَمَنْ حلَّها ... طوعاً إلى تُبَّعٍ تُدفـــــــــعُ
ما رَفَعَ التُبَّعُ لم يُوهِهِ ... مُوهٍ وما أوهاهُ لا يُرفَـــــــــعُ
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |