الكل يعرف باللعبة الإعلامية القائمة على إغراق المتلقي بالخبر"أي خبر" بشكل متكرر, ومتكرر, وبكل وسائل الاتصالات, فالمتلقي يسمعه بالاذاعة, ويقرأه في الصحافة, ويراه في التلفزيون, ويسنقبله في الهاتف المحمول, وفي دورالسينما حين كانت تعرض الأخبار في السينما قبل عرض الأفلام حتى.... يسأم المتلقي الخبروحامله وكل ما يتعلق به, ويدير ظهره سئما ومختنقا بالموضوع, و....قضية فلسطين وهي القضية الأهم, والعقدة التي يدور الشرق الاوسط ومشاكله من حولها, وما الحكام الطغاة الذين ابتليت بهم المنطقة والذين لم يعد لهم من شبيه إلا في هذا الإقليم التعيس, والذين ما زرعوا فيه إلا لخدمة تكريس ضياع فلسطين وتدويخ من يفكر في ايجاد حل مشرف لها, وما قضية فلسطين إذن إلا الدليل الأكبر على نجاح الخطة حين أغرقوا فلسطين في مستنقع التكرار, فأدار الناس لها ظهور السأم, ثم لم يكتفوا بمستنقع السأم الذي دفنوا فيه فلسطين, فنشروا في المنطقة فلسطينات جديدة أكثر سخونة لينشغل بها المهتمون بالشأن العام, حتى إذا ما انتقلنا إلى نظرية المؤامرة التي سقط العالم الذي سموه بالعالم العربي في حمأتها منذ سقوط الدولة العثمانية, لنعرف أنها ليست المؤامرة.
ولكن لماذا المؤامرة, والآخرالضد لم يتخف أبدا," والمؤامرة تستدعي إلى الذهن العمل ليلا, ووراء الجدران السميكة, والحوار همسا" ,ولكن الواقع يقول إن الآخر الضد لم ينظم خططه لمنع استعادة شرقنا لدوره في العالم سرا, ولم يحرص على الاستئثار بالسيادة على غربي وشمالي المتوسط فقط, بل ليجعل المتوسط كله بحرا وموانئ, وطرق قوافل بحرية بحيرة بريطانية,, ولم يحطم قوى الشرق البحرية والبرية والاقتصادية لينال رضانا, فالغرب يقرأ التاريخ ويتعظ من أحداث التاريخ, ولا يحيل التاريخ إلى سوط يجلد نفسه وشعبه به كما نفعل كلما ذكرت الخلافة والإمامة المفقودة, بل يتذكرون هانيبال والمتوسط حين كان بحيرة مشرقية "فينيقية", ويتذكرون الأمويين حين كانواسادة المتوسط , ويتذكرون الأندلسيين, والأغالبة في تونس وصقلية, ويتذكرون خير الدين بربروس وأخاه عروج في الجزائر, والريس أبو بكر البطرني الذي نحتفظ بقبره قريبا من اللاذقية ولا يعرف العامة عنه إلا أنه سيدي البطرني, ثم يقررون علنا ألا تتكرر سيطرة الشرق على البحر المتوسط ,و......لا يكتفون بهذا بل يتذكرون المتوسط حين كان بحيرة سلوقية, أوبطلمية إغريقية, ثم لاتينية رومانية" نوسترو ماري أي بحرنا",ثم انكلو فرنسية بدءا من معركة نافارون .
و عن نافارون هذه يقول بريجنسكي بصراحة مخزية معلقا على معركة نافارون ,تلك المعركة التي شارك فيها الغرب كله روسيا وانكلتره وفرنسة , وغابت أميركا فلم تكن قد وجهت وجهها باتجاه العالم القديم بعد, مكتفية بباحتها الخلفية أميركا الجنوبية, ولم يكن الأطلسي قد تحول إلى سرة العالم مبعدا المتوسط عن مركزية العالم, وكان هذا من سوء حظنا, فقد كبر الغرب, كبر, فلم يعد الغرب ايطاليا او اسبانيا او حتى بريطانيا العظمى فقط ليصبح الغرب أميريكا وكندا واستراليا ونيو زيلانده, والامبراطورية الروسية على اختلاف أسمائها, وتقزم الشرق إلى جغرافيات شبحية تبحث عن هويات جديدة, وعن أشكال جديدة من الحكم لاشرقية ولا غربية, فماذا إذن؟!! حكومات مملوكية نابعة من أصالاتنا!! فنحن من اخترعنا النظام المملوكي, ولاتأثير لأحد علينا في هذا الاختراع إلا الرغبة السرية في العبودية.
عن معركة نافارون يقول مستشار الرئيس الاميركي بريجنسكي:منذ معركة نافارون التي هزم فيها الشرق فقد الشرق كل قراره السياسي وأصبح قراره بيد الغرب!,.......وهذا ماستثبته للأسف الأيام القادمة, ففي العام 1839ــ 1840 سيطرد الامير الحلم ابراهيم باشا من سورية, وستعود سورية ا لكبرى "بلاد الشام" إلى حضن الدولة العثمانية المتداعية التي فضّلها الغرب على دولة محمد علي برؤاه الشابة وأحلامه باستعادة الدولة المشرقية مركز العالم, وحين أحاول ايجاد تشبيه لما فعله الغرب بالدولة العثمانية واستبقائها حية مشلولة حتى يحين اليوم الذي يكون فيه مستعدا لهضم التركة العثمانية السمينة, هذا الاستبقاء يذكرني دائما بأنثى الدبورالتي تصطاد يرقانة سمينة كبيرة الحجم ولكنها لاتقتلها بل تكتفي باللدغة المخدرة, ثم تحملها حية إلى العش, و تبيض فوق الحشرة الحية الميتة لاتستطيع حراكا حتى إذا ما فقست البيوض مستفيدة من دفء اليرقة الحية وجدت فريسة نضرة حية لا تستطيع دفاعا عن نفسها أمام الفكوك الفتية النهمة.
تركوا الشرق العربي بين يدي الامبراطورية المتداعية, فلا هو حي, فيرجى, ولا هو ميت, فينعى حتى إذا ما آن الأوان باض الغرب بيوضه الصهيونية في فلسطين فوق اليرقة المخدرة لاتملك دفاعا ولا ممانعة, وترك الحشيرات الصغيرة تنمو على لحم اليرقة المخدرة حتى إذا ما نمت أجنحتها, وقويت عضلاتها أعطوا سورية استقلالا ليست أهلا ولا كفؤا له, فليس لديها الجيش الوطني القادر على الدفاع عن البلد, ولا الكفاءات العلمية تبني الانفجارات الاقتصادية التي كانت فراخ الدبور اليهودي تفعله, ثم سمحوا لهذه الفراخ بإعلان الاستقلال, وكانت الدبورة الأم تعرف أن اليرقة المضعفة الدائخة ستند فع إلى الدفاع عن ابنتها فلسطين رغم ضعفها وعجزها, وستنتصر البنت الشابة على الأم المخدرة المضعفة لقرون وبذا تكون قد حصلت على استقلالها بقوة ذراعها وليس منحة من الغرب وسيتكرس هذا للأزمان القادمة, بنت شابة منتصرة دائما؟ وأم قدرهاالدائم هو الهزيمة.
كل ماذكرنا ه حتى الآن ليس بالمؤامرة, بل هو مصالح الدول المستقرة المخططة لعقود لمستقبل الدولة الوطن, وهو واجب كل حكومة تستحق اسم الحكومة في ايامنا هذه, ونعني الحكومة المسؤولة أمام الشعب, ونواب الشعب, والتي تعد لمستقبل الشعب.
منذ حوالي العشرين سنة أصدر حزب البعث الاسرائيلي"ها تحياه" أو الإحياء " =البعث"برنامجه لما يراه من مستقبل للشرق الاوسط, وأهم ما يعنينا من مشروعه الذي كان لديه الجرأة والوقاحة ليضع فيه مستقبلا لبلد كبير ومهم اسمه سورية, ولم يكتف بذلك بل وضع خطة لمصر التي ستنقسم كما يرى الحزب إلى أكثر من دولة, أما العراق فستنقسم إلى دولة للسنة, وأخرى للشيعة, وثالثة للكرد, أما سورية فستنقسم إلى دولة للعلويين, وأخرى للدروز, وثالثة للكرد, أما السنة العرب فسيدبرون أنفسهم فيما تبقى, طبعا ليس فيما اقترحه حزب البعث الاسرائيلي إعجاز, فهو لم يفعل أكثر من استعادة ما فعله الكاثوليكي الحاقد غورو حين دخل سورية فاتحا, فمزقها إلى كانتونات مذهبية ودينية, وغورو نفسه لم يفعل إلا أن استعاد الخارطة السورية التي كانت زمن الحروب الصليبية, وطبعا نحن لن نقول إن مخطط حزب البعث الاسرائيلي مؤامرة, فالمؤامرة لاتعلن على الأشهاد, ولكنها قراءة "متمنية للتاريخ"أن يعيد نفسه, فإذا ما قررنا أن ننفذها طوعا, فهذا ليس ذتب من نشره على رؤوس الأشهاد, وهو بالتالي ليس بالمتآمر.
ولكن وبعيدا عن نظرية المؤامرة, هذه النظرية التي تفهّوها لشدة ما تحدثوا عنها, فلابد للمرء أن يتساءل: فماذا نسمي تجاهل الأنظمة السورية للجولان منذ الاستقلال, ولماذا لم يقم في الجولان مشروع صناعي, أ وزراعي واحد يثبّت الناس في أرضهم, ولماذا كان الاحتفاظ به اشبه ما يكون بالاحتفاظ بالوديعة تنتظر صاحبها المستحق والموعود, وماذا نسمي تواطؤ العالم كله الآن مع النظام السوري وهو الذي لايخفي تخليه عن الجولان, و طموحه الذي يشبه الإعلان أنه في طريقه إلى تقسيم سورية, وإلى إنشاء دويلته الطائفية, أو استعادتهاإلى الحياة بعد تخلي الآباء عن هذا المشروع الكابوسي, ولنعد إلى رفض نظرية المؤامرة, والعودة إلى التخطيط الطويل, والذي تقوم به كل الدول المستقرة والعاقلة.
. ونعود إلى البدايات, أي إلى زمن سقوط الدولة العثمانية, وبداية سنوات الاحتلال الفرنسي, أي منذ بدء الإحساس بالأمن النسبي خارج المدن والحواضرالذي جعل المغامرين السوريين يندفعون إلى استصلاح الأراضي المهملة لقرون في مستنقعات الهيجانة في غوطة دمشق على يد حسين الإبش, وفي الجزيرة السورية حيث قامت الشركات التصنيعية الزراعية التي استخدمت الآليات الثقيلة والتصنيع الزراعي المكثف ممثلة بأسر معمار باشي, وأصفر ونجار, ونظام الدين , وفي السلمية التي عادت إلى الحياة والزراعة بعد قرون من الهروب منها والتخلي عنها خوفا من ضعف الأمن, ومن هجمات البدو النهابة من العرب والتركمان, وكان حلول الأمن ولو نسبيا, والتوسع في الزراعة التي قفزت بالسكان من زراعة التبادل"المقايضة" إلى الزراعة ا لمكثفة بشكلها التجاري التي كانت ذروتها في ثورة البصل في السلمية!
ولكن ماذا عن الجولان الذي لم يجد مغامرا ماليا واحدا يتجرأ, أو يسمح له بالتجرؤ على المغامرة الزراعية في الجولان, الاقليم الأغنى بالمياه في سورية, والأكثر خصبا, والأكثر صلاحية لقيام مغامرات اقتصادية زراعية وسياحية فيه, ومع ذلك كان على السوري كي يدخل إلى الأرض المحرمة عليه, وأعني الجولان كان في حاجة إلى عدد من الموافقات الأمنية التي حافظت على تشددها عبر كل الأنظمة التي مرت على سورية حتى إعادة الوديعة إلى أصحابها في حرب حزيران 1967, هذه الموافقات التي كان الحصول عليها دائما في غاية الصعوبة, وهكذا اختصر الكثيرون هذه السفرة التي لن تأتيهم إلا بوجع الراس والغبرة والعترة, و..... ليبرز السؤال المحرج: لماذا حين استولت اسرائيل على الجولان وجدته وكأن الله قد خلقه منذ ساعات, ولاأثر للعامل الإنساني فيه من استصلاحات زراعية أو سدود مائية, أو مشاريع سياحية, وفي الجولان أهم الآثار المسيحية, كبيت صيدا وأعجوبة "الهري"التي لن تتكرر إلا في تشيلي وأعني المطارات الفضائية والتي لم يعرف الإنسان لها تفسيرا حتى الآن, وفيه منتجع الحمة, الذي حولته اسرائيل من منتجع شعبي ليس فيه من الخدمات ما يغري بتحمل المشاق للوصول إليه إلى واحد من أهم مراكز الاستشفاء في الشرق الأوسط ومياهه الحامية حتى الغليان بما تحمل من كبريت و أملاح شافية غير متوفرة في مكان آخر, وكل هذا كان في حاجة إلى دولة مستقرة تبحث عن أماكن الاستثمار فيها ... ولكنك تصطدم مع تحالف دولة البعث مع أجهزة المخابرات بستار من القوانين المعادية, والتي تمنع المواطنين حتى من دخول أرض الوديعة.
والغريب أن كل النجاحات الزراعية التي أحرزها المغامرون الزراعيون والتي جعلت من الميزان التجاري السوري ميزانا رابحا في معظم الأراضي السورية لم تجد ما يوازيها في الجولان, والغريب أن روح المغامرة التي انتشرت في العالم كله بعد الحرب العالمية الثانية, ثم جاء مشروع مارشال الإنقاذي الأميركي ليضخ المال والدم في عروق أوربة, ولكن المال وحده لايبني المدن, فكان لابد من شبان العالم الثالث, و...يدأت الهجرات الكبرى من الجنوب إلى الشمال لبناء أوربة, أما ماجرى في الشام, فكان على العكس, فقد اندفعت الهجرة إليه من الشمال إلى الجنوب لتقوم الدولة التي جعل الغرب منها بوصلة وهاديا, وقال للدبابيرالتي لم تعد الصغيرة: الشرق حصتك فاسرحي وامرحي, ولن يجرؤ امرؤ على محاسبتك!!! فهل في هذا كله ما يشي بالمؤامرة على بلاد الشام!!
خيري الذهبي
[email protected]