د. أحمد موسى بدوي
تستضيف مدينة يوكوهاما باليابان، فاعليات المؤتمر الثامن عشر للجمعية الدولية لعلم الاجتماع، خلال الفترة من 13 حتى 19 يوليو الجاري. يشارك في المؤتمر أكثر من خمسة آلاف باحث من جميع البلدان والجامعات ومراكز البحث على مستوى العالم. وفي هذا المقال سوف نقدم للقارئ قراءة في ملخصات الأبحاث، بالتركيز على الأوراق التي تعاملت بشكل مباشر مع الأوضاع السياسية العربية، من أجل فهم ملامح التفكير السوسيولوجي العالمي تجاه ظواهر وتداعيات الثورات العربية .
ويعتبر المؤتمر الدوري للجمعية الدولية لعلم الاجتماع، والذي ينعقد مرة كل أربع سنوات، من أهم وأكبر المؤتمرات التي تشكل طبيعة التفكير السوسيولوجي تجاه الظواهر والمستجدات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي يشهدها العالم، ويحرص على المشاركة فيها إلى جانب الجامعات ومراكز البحوث، الهيئات الدولية، إلى جانب مراكز صنع القرار، ومراكز التفكير في البلدان المختلفة، وبالنسبة للمختصين في علم الاجتماع، فإن المؤتمر يعتبر مناسبة علمية، لمناقشة النظريات، والمناهج والأدوات البحثية الجديدة، وأحيانا يشهد هذا المؤتمر، بداية انطلاق فرع علمي جديد داخل التخصص الرئيسي ( يتفرع من علم الاجتماع، حتى الآن أكثر من 50 تخصصًا علميًا).
على الرغم من أن القضايا العربية لم تغب عن طاولة البحث في هذا المؤتمر الكبير، إلا أن الباحث العربي، لا يزال غائبا، حتى أن مشاركات بعض الباحثين العرب، تأتي باسم الجامعات الأمريكية و
أولا: العربي منظورًا إليه
من بين مشكلات انتاج المعرفة السوسيولوجية العربية، كما يرصد ساري حنفي، عالم الاجتماع بالجامعة الأمريكية ببيروت، أنه مأزوم على المستوى المحلي غير قادر على النفاذ إلى دائرة صنع القرار التنموي العربي. كما أنه غير قادر على النفاذ إلى العالمية، سواء على مستوى النشر العلمي أو المشاركة في المؤتمرات العلمية الدولية، فمشاركة الباحثين العرب في مؤتمرات الجمعية الدولية لعلم الاجتماع متدنية للغاية (خمسة وسبعة وعشرة مشاركين على التوالي) في مؤتمرات 1990، 1994، 1998 (1). وبالنظر في احصاءات المشاركين في المؤتمر الحالي، سوف يجد القارئ أن الأزمة مازالت قائمة، فالمراكز البحثية والجامعات العربية، غير قادرة على وضع أقدامها بثبات في هذا المحفل العلمي، باستثناء دولة الإمارات العربية، التي قدمت عشر مشاركات، هي الأكبر بالنسبة للبلدان العربية، وإن كانت بعيدة عن مستوى المشاركات من الدول الأخرى.
حيث تشير احصاءات المشاركين، في الجدول التالي، إلى ارتفاع مشاركات الدول الكبرى، وغياب قارة أفريقيا بالكامل وكذلك بلدان العالم العربي، من قائمة أهم المشاركين في المؤتمر، وهو ما يعكس وضع الأزمة العلمية التي يمر بها العالم العربي، فعلى الرغم من أن القضايا العربية لم تغب عن طاولة البحث في هذا المؤتمر الكبير، فإن الباحث العربي، لا يزال غائبا، حتى أن مشاركات بعض الباحثين العرب، تأتي باسم الجامعات الأمريكية والأوربية التي يعملون بها. ما يعني أن الباحث السوسيولوجي العربي المحلي، غير موجود تقريبا في هذا المحفل العلمي.
ثالثا: ملامح البحث في الثورات العربية
خلال هذا المؤتمر، نجد تركيزًا لافتا للنظر على الثورات العربية، خاصة دراسة الدور الذي قام به الشباب في هذه الثورات، وكذلك تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الاعلام فيها، كما اتجه بعض الباحثين نحو التركيز على العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أفضت إلى انطلاق الموجات الثورية في عام 2011، ويبدو أن هناك إجماعًا بين الباحثين على أن هذه الثورات، وإن بدت ملامحها الأولى قريبة مما حدث من ثورات في أعقاب الحرب الباردة، إلا أن الانتفاضات العربية تحولت إلى ثورات كلاسيكية، تشهد موجات تلو موجات، في ظل صراعات اجتماعية وسياسية وأيديولوجية خطيرة، وتدخلات خارجية مستمرة، ما ينذر بأن المنطقة سوف تمر بمرحلة طويلة من عدم الاستقرار، ونستعرض فيما يلي بعضًا من ملخصات الأبحاث المهتمة بالموضوع.
1- يقدم حبييب اللـه قندهار من جامعة زايد بالإمارات، بحثا حول الفقر واللا مساواة في العالم العربي، محاولا فهم ما يسمى بالربيع العربي – كما يذهب الباحث - من خلال كشف أبعاد ظاهرتي الفقر واللا مساواة، وأثرهما في اندلاع الاحتجاجات في تونس، ثم امتدادها إلى بقية بلدان الربيع العربي. لم يتطرق حبيب اللـه في بحثه إلى عوامل أخرى على قدر كبير من الأهمية، كالفساد وقمع الحريات السياسية والاقتصادية، وبدلا من ذلك يوجه الباحث تركيزه على أثر العلاقات الخارجية والعلاقات البينية العربية في تفاقم ظاهرة اللا مساواة والفقر.
2- وتقدم منى الغريبي، من جامعة سيدني بأستراليا، بحثا في موضوع الحوكمة والمجتمع المدني والغرب: مفارقات المجتمع المدني في العالم العربي. حيث تذهب الباحثة إلى أن العديد من المجتمعات حول العالم، تعتمد نظما ليبرالية ديمقراطية في الحوكمة، سواء كان ذلك برغبتها الأصيلة أم مفروضًا عليها من الخارج، وغالبا ما تؤدي هذه النظم الجديد إلى الإضرار بالبناء الاجتماعي القائم، وتمضي عملية الحوكمة انطلاقا من نشر مبدأ سياسي، يرى أن الأسلوب الأمثل للتنظيم الاجتماعي هو النظام الذي يشهد مجتمعًا مدنيًا قويًا، يعززه وجود رأسمال اجتماعي قوي، وتمارس مؤسساته العمل باستقلال عن تحكم الدولة. وتذهب الغريبي في هذه البحث إلى أن برامج تطوير المجتمع المدني، ونظم الحوكمة الجديد، لن يكتب لهما النجاح إلا في سياق المجتمعات الغربية فقط، أما على مستوى العالم العربي، فالأمر يختلف، حيث التنظيمات الحديثة تتأثر بقوة بالتحالفات القبلية، وعلاقة الدولة بهذه التحالفات، وترفض غالبية الدول العربية مفهوم المجتمع المدني، باعتباره ينطلق من فلسفة أجنبية وقيم ليبرالية ديمقراطية غريبة عن تراثهم العربي الذي يعتزون به. وتذهب الورقة إلى أن الأيديولوجيات والأبنية القبلية، هي التي تشكل وتحدد بصورة أساسية طبيعة فهم هذه المجتمعات لمفهوم المجتمع المدني والرأسمال الاجتماعي على أرض الواقع.
تذهب نتاليا فيتشر من جامعة جراس بالنمسا، إلى أن وسائل التواصل، لعبت العديد من الأدوار المتكاملة.. وأظهر الربيع العربي، فاعلية ثقافة الشباب، وقدرتهم على فرض أسلوبهم على مجرى الأحدا
1- ويحاول جورج لاوسن، من كلية الاقتصاد بلندن، تقديم تصنيف للثورات العربية في بحثه المعنون: الثورات التفاوضية: الثورات العربية من منظور مقارن، حيث يذهب لاوسن إلى تصنيف الثورات العربية، ضمن إطار الثورات التي اندلعت في أعقاب نهاية الحرب الباردة في عدة مناطق من العالم، ولكنها تنتمي إلى ما يمكن تسميته بالثورات التفاوضية، والتي تختلف عن الثورات الحديثة في خمسة اختلافات:(1) أنها ناتجة عن أزمة جزئية داخل نظام الدولة، وليست ناتجة عن أزمة تستلزم تغييرًا شاملا في نظم الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية،(2): أن بداية انطلاق هذه الثورات هو التظاهر من أجل تحقيق مطالب، بمعنى أنها تعتمد التفاوض وسيلة للتعامل مع النظام القائم، ولم تعتمد على المواجهات العسكرية مباشرة.(3): القوى الثورية الجديدة ترفض وصاية الثورات المحلية السابقة. (4) لا يعارض الثوار بل يرحبون بدور خارجي ودولي قائد. (5) أن هذه الثورات أدت إلى زيادة ضعف الدولة، ولم تؤد إلى زيادة قوتها. ويرى لاوسن أن التركيز على المسألة السياسية في الثورات العربية دون المسألة الاجتماعية، يعني أنها ثورات محدودة النطاق، تشبه مثيلاتها التي اندلعت من 1989، بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي، ولكنها تختلف في نتائجها حتى الآن.
2- وتقدم نتاليا فيتشر من جامعة جراس بالنمسا، بحثا بعنوان فاعلية ثقافة الشباب، وسائل التواصل الاجتماعي والمشاركة السياسية، انعكاسات حديدة في أعقاب الربيع العربي، ترصد فيه دور وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك، تويتر، يوتيوب) في تنظيم الاحتجاجات والتعبئة والحشد في التظاهرات التي شهدتها بلدان الربيع العربي، وتذهب الباحثة إلى أن وسائل التواصل، لعبت العديد من الأدوار المتكاملة، فهي وسيلة تنظيمية للحشد والتعبئة، ومصدر متجدد للمعلومات، ووسيلة ناجزة لتسجيل الوقائع، وإتاحتها للعالم الخارجي، وفضاء عام لتكوين ظهير اجتماعي للنشطاء والفاعلين من الشباب. لقد أظهر الربيع العربي، فاعلية ثقافة الشباب، وقدرتهم على فرض أسلوبهم على مجرى الأحداث.
3- ويلفت محمد بامية، من جامعة بتسبرج، بالولايات المتحدة، الانتباه إلى منهجية الفوضى في الثورات العربية، في بحث بعنوان: مصادر ومآلات منهج الأناركية في الربيع العربي، ويعتمد البحث على التقارير والملاحظات الميدانية، ويسعى البحث الى تحقيق أربعة أهداف، الأول، كيف أن الحركات المشاركة في الربيع العربي، تعتبر نفسها حركات أناركية، ويظهر هذا المنهج في رفض ومقاومة هذه الحركات الاحتجاجية لظهور أية قيادات جماعية، وتفضيل هياكل تنظيمية فضفاضة بدلا من الهياكل التنظيمية الهرمية المعتادة، وتقدم الورقة فروضا حول مصادر هذا الأسلوب، وكيف فرض إيقاعه على المشهد الثوري، ثم يرصد ثانيا تداعيات هذا الأسلوب الفوضوي على عملية التطور السياسي على مستوى الدولة، مفترضا أن هذا الأسلوب، أدى إلى هشاشة البنية السياسية المتشكلة بعد إسقاط النظام في بعض بلدان الربيع العربي، بشكل لا يتناسب مع الزخم الثوري الكبير، ما ينذر بوجود أزمات مقبلة في هذه الأبنية السياسية، الثالث، يرصد تداعيات هذا الأسلوب الفوضوي على المشهد الثقافي على المدى الطويل، حيث يؤدي هذا النمط إلى تغييرات وتقلبات مستمرة في تحديد مفهوم الثورة ودورها، وهذه الممارسات الفوضوية، سوف تؤدي إلى حقائق ومنظورات جديدة لم تتضمنها أو لم تلتفت لها معظم التقارير، الرابع، ثم ينهي الورقة بمحاولة فهم أثر وتداعيات هذا الأسلوب الفوضوي، على الحركات الاجتماعية بصفة عامة.
4- ويقدم جاك جولدستون، من جامعة جورج ميسون، بالولايات المتحدة، بحثا بعنوان لماذا نعتبر الثورات العربية ثورات حقيقية: النتائج والتوقعات. ويذهب الباحث إلى أن بدايات انطلاق الثورات العربية، تشبه تلك التي حدث في بلدان الاتحاد السوفيتي القديم، وفي أوربا الشرقية وأوكرانيا، غير أنها ما لبثت أن تحولت إلى ثورات كلاسيكية، بعد أن ظهرت القوى الاجتماعية المضادة للثورة، وكذلك العنف الذي وصل لمستوى الحرب الأهلية في بعض البلدان. ويفترض الباحث أن التحول الى نمط الثورات الكلاسيكية، يرجع لثلاثة عوامل: (1) أن الشباب يمثلون أكبر كتلة سكانية في الوطن العربي. (2) انقسام الطامعين في السلطة بعد إسقاط النظام إلى إسلاميين ومدنيين. (3) وجود تدخلات خارجية أساسية في كل بلدان الربيع العربي. (4) وجود انقسام جهوي وعرقي وطائفي وقبلي واسع النطاق في العالم العربي.
5- وتقدم إيمي أوستين هولمز، من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بحثا بعنوان، موجات الثورة المصرية الثلاث: الثورة على مبارك، والمجلس العسكري، ومحمد مرسي. ترصد فيه الباحثة، من واقع ملاحظات ميدانية، كيف تحولت مطالب الموجة الثورية الأولى من حد المطالبات الإصلاحية التفاوضية، إلى حد إسقاط النظام، ثم تنتقل إلى بحث علاقة الثوّار بالمجلس العسكري، وكيف انطلقت الموجة الثانية من الثورة على المجلس العسكري، ثم تنهي البحث بدراسة الموجة الثالثة من الثورة ضد حكم الإخوان، وكيف استطاعت حركة "تمرد" أن توحد المصريين للخروج في 30 يونية 2013، لإسقاط محمد مرسي، وعزله في 3 يوليو، وتذهب الباحثة إلى أن أطراف الصراع السياسي تغيرت بشكل درامي في كل موجة من الموجات الثلاث، رجال مبارك، تيار الإسلام السياسي، القوى والحركات الشبابية، الأحزاب المدنية، كل من هذه القوى، حدثت بداخلها انقسامات، وجرت تحالفات جديدة في كل موجة ثورية، تختلف عن تحالفات الموجة التي تسبقها، ويظل السؤال مطروحًا: هل انتهت موجات الثورة المصرية، أم أن الثورة مستمرة؟
أهم المراجع:
1- Hanafi S. 2011. "University Systems in the Arab East: Publish Globally and Perish locally vs Publish locally and Perish Globally". Current Sociology. 59 (3): 291-309.
2- للمزيد من القراءة والبحث، يرجى الاطلاع على موقع المؤتمر على الرابط التالي:
https://isaconf.confex.com/isaconf/wc2014/webprogram/start.html