نابوكوف خارج العصر: قصصه الجديدة تثير آراءً لم تنضج(1) ميشيل ديدرا
ألف
2020-02-08
قضى فلاديمير نابوكوف على فرصتي في الحصول على أول ظهور على ساحة المشهد الأدبي.
(جيري باور نوبت - Jerry Bauer /Knopf)
قبل سنوات عدة، كنت طالباً قيد التخرّج في كلية Oberlin، عندما التقيت (فرانكو فيل روبرت فيْلبس)، الكاتب المستقل، الخبير عند Colette (روائية فرنسية)، وفي كل مكان يخطر بالبال. كان فيلبس رجلاً يتمتّع بسحرٍ هائل، فقد استطاع أن يقنع محرراً من ماك غراو- هيل(2) (McGraw-Hill بإنتاج مجموعة جديدة من أفضل القصص القصيرة لـ(بروسبير ميريميه(3) rosper Merimée). كانت مشكلة المشروع تتعلق بمساهميه: إذ كانت الشركة ستترجم كل قصص ميريميه، مثل "كارمن"، و"فينوس إيلي"، وعشرات القصص غيرها، على أن تتولى شخصية أدبية من مشاهير ذاك الوقت ترجمة قصّة واحدة. كان المترجمون جميعهم من أصدقاء فيلبس، وإن لم تخني الذاكرة، كان ضمن تلك الأسماء: سوزان سونتاج، نيد روريم، لويس بوغان، جيمس سالتر. خلال المقابلة تكرّم فيلبس وطلب مني بأريحية الانضمام إلى هذه الفرقة المميزة. كلّفت حينها بترجمة "فيديريكو" الفولكلوري، التي كانت أحداثها تدور حول مقامرٍ يحتال للوصول إلى الجنة). عملت بجدٍّ وهمّةٍ عالية على نسخة الرواية الإنكليزية. بعدها، شهدت كيف راحت آمالي تتلاشى، إذ اتضح أنّ صاحبنا المحرر في ماك غراو هيل كان سبق وتورّط بدفع مبلغ طائل للكاتب (نابوكوف)، مقابل روايته "آدا- "Ada"، معتقداً أنّ هذه الرواية المطولة، التي أخذت وقتاً طويلاً كي تُنجز، ستكرر نجاح رواية "لوليتا". غير أنّ الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فقد تسببت الصفقة بخسارةٍ كبيرة، كانت كافيةً للقضاء على كافة العقود الأُخرى، بما في ذلك مشروع مجموعة قصص ميريميه، الذي كنت أعمل ضمن فريقه.
الغريب جداً في الأمر أنّ سوء حظيّ في مجال النشر انقلب مع نابوكوف سحراً رائعاً مازال
""جميع قصصي هي اختراعاتٌ بسيطة ونقية. لا أهتم إطلاقاً بشخصيات كتبي. إنها مجرد لعبة وتعاد الألعاب إلى الصندوق بعد انتهاء اللعبة""
مستمراً حتى اليوم. عند قراءة كتاب "فكّر، أكتب، تكلّم: مقالات ومقابلات ورواياتٍ ورسائل غير مجموعة موجّهة إلى المحرر"، الذي حرره تلامذة نابوكوف (براين بويد)، و(أناستاسيا تولستوي)، أحصيت ذهنياً المناسبات التي كُتِب فيها عن هذا المعلّم الروسي - الأميركي منذ وفاته عام 1977 في عمر 78 عاماً. ولهذا الغرض، قمت بمراجعة رسائل نابوكوف المختارة، وجميع مجلدات محاضراته حول الأدب، ومراسلاته مع الناقد إدموند ويلسون، وآخر رواياته غير المكتملة "أصل لورا"، ومجلدي سيرته الذاتية بقلم براين بويد، وكذلك "نابوكوف في أميركا" لروبرت روبّر. علاوةً على ذلك، دُعيت إلى كتابة مقدمة الطبعة الحديثة من رواية "حياة (سيباستيان نايت) الحقيقية"، وأخيراً، دعيت من قبل ("لوليتا" جمعية فوليو). قد يخيّل للمرء بأنّ هذا القدر من العمل على بابكوف يكفي لحياةٍ كاملة، باعتبار أنني راجعت حتى "يوميات لو" المريعة بقلم بيا بييرا. بالتأكيد، قلت لنفسي إنّ كتاب "فكِّر، أُكتب، تحدّث" سيكون بشكلٍ أساسيٍّ عبارة عن بقايا محفوظات أرشيفية، ومع ذلك لم أستطع أن أقاوم رغبتي بالتهام صفحاته الـ500. وعلى غرار (Oscar Wild/ أوسكار وايد)(4)، أو (W.H. Auden/ دبليو. إتش. أودين)(5)، يروِّج نابوكوف، دون خوف، لمثل هذه "الآراء القوية"، وهو عنوان آخر مجموعة من مجموعاته القصصية غير الخيالية، فيمنح القارئ شعوراً دائماً بالمتعة. وإليكم، على سبيل المثال، بعض الملاحظات المميّزة المستقاة من هذا الكتاب الجديد:
ــ "جميع قصصي هي اختراعاتٌ بسيطة ونقية. لا أهتم إطلاقاً بشخصيات كتبي. إنها مجرد لعبة وتعاد الألعاب إلى الصندوق بعد انتهاء اللعبة".
ــ "لوليتا" تتمتع بأخلاقيات عالية جداً: لا تؤذي الأطفال. هامبرت يؤذيهم. قد ندافع عن مشاعره تجاه لوليتا، ولكن ليس عن انحرافه".
ــ "كي تصبح قارئاً فعلياً، عليك أن تعيد قراءة الكتاب. ففي المرة الأولى، يكون الكتاب جديداً، وقد يكون غريباً، وتبقى القراءة الثانية هي المُهمّةً بالفعل".
ــ "عندما أدرِّس، أنصح دائماً طلابي بعدم التماهي مع الشخصيات. أطلب إليهم أن يقفوا بعيداً بحيث يشعروا بمزيّة الفنان الجوهرية. وإن كان يتوجب تحديد هويتهم، فليفعلوا ذلك بالفنِّ، ولكن ليس بالشخصيات.
ــ "
""لم أكن أهتم أبداّ بالنجاح التجاري، وبمعنى آخر، لم أسع أبداً للترويج لكتبي. أنا لم أكتب أبداً سوى لقارئ واحد بعينه، هو نابوكوف نفسه""
لم أكن أهتم أبداّ بالنجاح التجاري، وبمعنى آخر، لم أسع أبداً للترويج لكتبي. أنا لم أكتب أبداً سوى لقارئ واحد بعينه، هو نابوكوف نفسه".
في كتاب " فكِّر، أُكتب، تكلّم"، وحتى عندما يمتدح إتقان (شكسبير، بوشكين، فلوبير، تولستوي، تشيخوف، جويس، بروست، أوبديك)، فإنّ نابوكوف، في الوقت نفسه، ينكر بصورةٍ متكررة (دوستويفسكي، زولا، دريزر، فولكنر)، وجميع الأدباء السوفييت تقريباً (بما فيهم باسترناك)، ويعتبر (كامو، وروث) صحفيين متواضعين. علاوة على ذلك، قال لمن أجرى معه مقالاتٍ مراراً وتكراراً اّنّه يكره الأندية والنقابات والمواكب والعقاقير المخدرة، ولكنّ الأهمّ من ذلك كلّه انّه يكره كلّ أشكال القسوة والوحشية من أيّ نوعٍ كانت. كان يعلن بلا كلل أنّ "لوليتا" هو كتابه المفضّل، وأنّ "الضحك في الظلام" هو أردأ كتاب كتبه.
بشكلٍ عام، ليس هنالك شكّ أنّ كتاب "فكِّر، أُكتب، تحدّث" سيروق بشكلٍ أساسيٍّ لأنصار نابوكوف. ومع ذلك، فإنّ أيّ قارئ حساس سيتوقف عند الجمل الرقيقة الجميلة التي يثري بها نابوكوف حتى أكثر كتاباته عفوية. لنتأمّل، على سبيل المثال، هذه الفقرة المترجمة من كلمة نعيٍ كتبها للناقد (يولي آيخنفالد) عام 1928:
"أستطيع رؤيته وهو يشقّ طريقه عبر الغرفة المزدحمة بتواضعٍ، كليلَ النظر، وقد مال رأسُه بعض الشيء على كتفه، ضاغطاً جانبيه بمرفقيه، وبعد أن يصل الشخص الذي يبحث عنه، يمدّ له فجأةً يده النحيفة ليلمس كمّه بأكثر اللمسات رقّةً وخفّة".
فهل ألهم الناقد (آينكينفالد) البروفيسور المهاجر، البائس، المحبوب؟
يرفض نابوكوف جميع محاولات العثور على رسائل، أو تعليقاتٍ اجتماعية، ضمن أعماله،
"في كتاب "فكِّر، أُكتب، تحدّث"، سيتوقف أيّ قارئ حساس عند الجمل الرقيقة الجميلة التي يثري بها نابوكوف حتى أكثر كتاباته عفوية"
ويصرّ على أنّ قصص الخيال التي يكتبها مصمَّمة بعناية بهدف إظهار المتعة الجمالية. ومع ذلك، قد تكون هذه القصص مضحكةً للغاية، لا سيّما روايته الأكثر روعة "لوليتا/Lolita"، أو تكون مخادعةً كما في رواية "النار الباهتة/ Pale Fire".
ليس من المستغرب، إذاً، أن يشعر نابوكوف بالضيق، خلال مقابلاته التي تعقد بانتظام. على سبيل المثال، عندما طلب منه صحفيّ إيطالي أنْ يفسِّر النجاح رواية "لوليتا" منقطع النظير، أجاب نابوكوف بوضوح:
"تحتوي رواية لوليتا مقاطع توحي من تلقاء نفسها كيف أضعها. لا أعلم إن كنت لاحظتَ ذلك؟ إنّها علاقة حبٍّ بين شخصٍ بالغ وطفل. حسناً، أتساءل في بعض الأحيان عمّا إذا كانت تلك المقاطع لا تستهوي نوعاً معيناً من القرّاء، الذي تجذبه بقوة ما يعتقد أنّه صورٌ مغرية لقراءة نصف الرواية على الأقلّ. ربما حدث شيءٌ من هذا القبيل مع كتابي الصغير المسكين البريء".
هوامش:
(1) فلاديمير فلاديمروفيتش نابوكوف (1899 - 1977): معروف أيضاً باسمه المستعار( فلاديمير سيرين)، هو روائي وناقد روسي - أميركي. ولد في روسيا، وهاجر إلى أميركا، وتوفي فيها. كتب باللغتين الروسية والإنكليزية. تتضمن أفضل أعماله، بما فيها ( لوليتا عام 1955)، تأثيرات أدبية أنيقة ومعقدة في الوقت نفسه. أبرز أعماله: "النار الباهتة" - "تكلم، ذكريات"- "الملك، الملكة، Knave" - "حياة الفارس سيباستيان الحقيقية"- "بينين"- "الهدية"- "لوليتا"- "بيند الشرير"- "آدا".
احتلت رواية " لوليتا" المرتبة الرابعة في قائمة أفضل 100 رواية للمكتبة الحديثة. بينما احتلت رواية "النار الباهتة" المرتبة 53 على القائمة ذاتها. وأدرجت مذكراته "تكلم، الذاكرة" عام 1951 في المرتبة الثامنة على قائمة الناشر لأكبر قصصي القرن العشرين. ووصل نابوكوف على الدور النهائي لجائزة الكتاب الوطني للخيال سبع مرات.
(2) شركة ماك غراو - هيل McGraw-Hill: شركة نشر كتب ومنشورات تعليمية أميركية.
(3) بروسبير ميريميه Prosper Merimée: كاتب ومؤرخ فرنسي (1803- 1870)، عاصر بلزاك وفيكتور هوجو، ستاندال. أتقن عدة لغات، منها العربية والروسية والإغريقية والإنكليزية. كتب قصصاً خيالية وعلمية. أشهر مؤلفاته: "فينوس إيل/The Venus of Ille"، "كولومبيا colombia"، "كارمن/ Carmen، التي حُولت إلى أوبرا كارمن الشهيرة".
(4) ( Oscar Wilde/ أوسكار وايد) (1854 - 1900): من أشهر كتاب المسرح الإنكليز في العصر الفيكتوري.
(5) (W.H. Auden/ دبليو. إتش. أودين): شاعر إنكليزي- أميركي. أشهر قصائده: Funeral Blues/ كآبة جنائزية"، "عمر القلق/ The Age of Anxiety، "درع آخيل "The Shield of Achilles، و"سبتمبر 1، 1939"September 1, 1939" .
عنوان المقالة الأصلي: نابوكوف خارج العصر: مجموعة قصصه الجديدة تثير آراءً لم تنضج بعد (Nabokov unplugged: A new collection of his essays delivers unvarnished opinions)
صحيفة واشنطن بوست.
الرابط: https://www.washingtonpost.com/entertainment/books/what-did-nabokov-think-of-humbert-a-new-collection-of-his-essays-shares-unvarnished-opinions/2020/01/07/3bbc1192-30b1-11ea-9313-6cba89b1b9fb_story.html
ترجمة: سمير رمان.